الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلم التجريبي
ذكرت سابقاً في نسخة (الكون وآياته والمسخ ومقدماته) كلاماً عن ما يسمى العلوم التجريبية وأن نسبتها إلى المسلمين كشيء يعتزون به ويفتخرون أو أنها مما يدعو إليه دينهم هو باطل أصله ونحو هذا الكلام فوجه إليّ البعض هذا السؤال الذي سأذكره وأجبته بهذا الجواب التالي مع بعض التصرف.
السؤال: ذكرت أنه من الخطأ أن تنسب العلوم التجريبية إلى المسلمين فما هي مصادر هذا النفي؟ ثم أليس من العز والافتخار أن يبدأ بها المسلمون قبل عدوهم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين
…
هذه مسالة كبيرة ومهمة للغاية لأنه بسببها حصل لبس واشتباه بين الحق والباطل أثمر نتائج سيئة عواقبها وخيمة، فالمتأخرين عندما ينسبون العلوم التجريبية إلى علماء المسلمين يرون أنهم بذلك يميطون عن الإسلام ما يشينه ويحلّونه بما يزينه وهم لا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا بل فتحوا بهذه الشبهة باباً من ولجه عزّت سلامته وعظمت حسرته وندامته.
وكنت أتوقع رد فعل قد يكون عنيفاً من كثيرين لأجل ما ذكرته كالإشارة إلى هذه المسألة التي تحتاج إلى بسط أكثر وعناية أكبر لتواطء الجميع على قبولها واستحسانها حتى كأن من يذكرها في تأليفه أو يشير إليها في تصانيفه قد جاء بالدرة المفقودة والضالة المنشودة، والصحيح أنه جاء بشبهة بطلانها ظاهر يعرف ذلك أهل البصائر.
وإنما صار لها القبول في القلوب لأن الرغبات تستر العيوب، والشيطان قلّما يكيد الإنسان بشبهة إلا ويستر عيبها بشهوة فتكون الشهوة كالرشوة يعمي بها البصير عن النظر في عواقب الأمور.
والمعنى أنه قد افتضح الجميع بمحبة الدنيا وإيثارها فأظلمت القلوب مع كثرة الذنوب فقبلت شبهات الباطل وصارت يُجادل عنها ويُناضل، وصار من يبين بطلان هذه الأمور عند هذا الصنف من الناس عريّا من العلم والتحقيق قاصداً للشدة والتضييق ولولا محبة الدنيا وإيثارها لانجلت عن القلوب ظلمتها ورأت الأشياء على جليتها.
فنسبة هذه العلوم التجريبية إلى علماء المسلمين مسبة لهم وحطاً من أقدارهم بل وقلباً للحقائق لأنها ليست من علومهم، وحاشا أن تكون كهذا نتائج أفكارهم وفهومهم، وهم أجل وأرفع قدراً مما وصفهم بل وصمهم به المتأخرون، فالقوم في واد وهؤلاء وعلومهم التجريبية في واد، فهم كانوا عن مثل هذا في شغل شاغل وليسوا كأهل هذا الزمان يحسبون
كل بيضاء شحمة وكل سوداء تمرة، وهو أقل وأحقر أن يلتفتوا إليه، ولو دعاهم إليه داعٍ لم يعوّلوا عليه، لأنهم عرفوا ما من أجله خُلِقوا، وهو ما دعاهم إليه نبيهم الناصح الشفيق الذي أراد لهم السعادة العاجلة والآجلة، فلو عُرض عليهم هذا الذي يُمدحون به ويُنسب إليهم لأنكروه، ولَذموا قائل ذلك ولم يشكروه، وإن سِيَرهم لتهتك أستار هذه الشبهة الضالة الملصقة بهم بأدنى نظر، لكن المنقاد لِغَيّه وهواه ليس عنده مما نقول خبر، فلقد عميت البصائر وحارت الفكر.
لقد كانت والله هِممهم عليّة، ونفوسهم طيبة زكية، عرفوا الدنيا وقدرها بتعريف ربهم ونبيهم فتجافوا عنها وعبروها ولم يعمروها، رأوا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتَمسوا نعيماً لا موت فيه وقد ربحت تجارتهم.
هم الرجال وغبن أن يقال لِمَنْ
…
لم يتّصف بمعالي وصْفهم رجلُ
رُفع لهم علم الجنة فشمروا إليه وكثير من المتأخرين وضع لهم علم الشهادة بِنَيْل الدنيا والرئاسة فيمموا إليه.
ولو تبصّر أحدهم ورأى الأخطار في طريقه لبادر إليه الشيطان من الإنس والجان يقول له: أنت تنفع غيرك وتنصح وتفيد وإذا تخليت أنت وأمثالك من ينصح الأمة ويكشف الغمة، وهذا فَخّ كم لإبليس فيه من
صريع وقتيل والصادق ليس يلابس أهل الباطل ويسير معهم أين ما ساروا بحجة أنه ينصح وينفع، ألا نصح ونفع نفسه أولا والحق فيما قيل:
مواعظ الواعظ لن تقبلا
…
حتى يعيها قلبُه أولا
وكما يقال أيضاً: يا أيها الرجل المعلم غيره، وهذه أبيات معروفة مشهورة فالمقصود أن الداعية إلى الحق ليس يخالط المبطلين ويشرك معهم في باطلهم ثم يعتذر بهذه الحجة الداحضة بل هو يكون في هذا الفعل قدوة سيئة يغتر به الناس، ومن أراد الدعوة والنصح تمكن من ذلك، وعلى هذا كان الأنبياء وورثتهم على الحقيقية لا التسمي، والدين ليس بالرأي وأتباع الهوى والمقصود أن العلم في عرف أهل هذا الزمان يشبه طريقة الفلاسفة حيث يجعلون كمال النفس في مجرد العلم، ومجرد العلم ليس بكمال للنفس ما لم تكن مريدة محبة لمن لا سعادة لها إلا بإرادته ومحبته وهو إلهها الحق.
قال ابن القيم رحمه الله في وصف طريق أهل العلم والإيمان: أهل العلم والإيمان الذين عقلوا عن الله أمره ودينه وعرفوا مراده بما أمرهم ونهاهم عنه وهو أن نفس معرفة الله ومحبته وطاعته والتقرب إليه وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته وأن الله سبحانه وتعالى يستحقه لذاته وهو سبحانه المحبوب لذاته الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتألّه إلا له فهو يستحق ذلك لأنه أهل أن يُعبد ولو لم يخلق جنة ولا ناراً
ولو لم يضع ثواباً ولا عقاباً كما جاء في بعض الآثار (لو لم أخلق جنة ولا ناراً أما كنت أهلاً أن أعبد) فهو سبحانه يستحق غاية الحب والطاعة والثناء والمجد والتعظيم لِذاته ولما له من أوصاف الكمال ونعوت الجلال، وحبه والرضى به وعنه والذل له والخضوع والتعبد هو غاية سعادة النفس وكمالها، والنفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه وحياته، والعين التي فقدت ضوءها ونورها بل أسوأ حالاً من ذلك من وجهين: أحدهما أن غاية الجسد إذا فقد روحه أن يصير معطلاً ميتاً وكذلك العين تصير معطلة، وأما النفس إذا فقدت كمالها المذكور فإنها تبقى مُعَذّبة متألمة وكلما اشتد حجابها اشتد عذابها وألمها. انتهى.
وكلام ابن القيم هذا كلام رفيع من تدبره وتأمله وهو صادق في سلوكه انفتح له من أبواب المعارف والعلوم الشريفة شيء عظيم وبالله التوفيق.
فمصادر نفي العلوم التجريبية لعلماء المسلمين هي أحوالهم وما كانوا عليه من التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله وفي سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأحواله ووصاياه مما هو معروف الكفاية للجواب عن ذلك كذلك الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وعلماء المسلمين وأئمتهم.
وإن مما يلفت النظر وفيه عبرة لمن اعتبر أن بعض أذكياء الغربيين يصف الحال التي أوصلتهم إليها علومهم التجريبية بوصف يزيد المؤمن إيماناً ومعرفة بقدر العلم الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم حيث يقول: إن الوسط الذي أنشأته العلوم الطبيعية وعلم الصناعات للإنسان لا يناسب الإنسان لأنه مُرتجَل لم يقم على تصميم وتفكير سابق ولم يراعي فيه الإنسجام مع شخصية الإنسان.
إن هذا الوسط الذي هو وليد ذكائنا واختراعاتنا لا يُطابق قاماتنا ولا أشكالنا نحن غير مسرورين نحن في انحطاط في الأخلاق وفي العقول، إن الأمم التي ازدهرت فيها الحضارة الصناعية وبلغت أوجْها أضعف مما كانت وهي تسير سيراً حثيثاً إلى الهمجية ولكنها لا تدرك ذلك. انتهى.
وغير هذا الكلام كثير يقوله أذكياؤهم وعقلاؤهم لكن وُجد في صفوف المسلمين من يعزو هذه النتائج السيئة التي أثمرتها للغربيين علومهم ومخترعاتهم إلى ضعف الدين عندهم بمعنى أنها تناسب المسلمين إذْ لا يزال دينهم ظاهراً فيستعينون بها لتقويته، ومن هنا جاء البلاء لأننا في زمان يتكلم فيه بالدين من لا يعرفه، وهم الذين ورد ذكرهم في الحديث بأنهم يقيسون الأمور بآرائهم وأي شيء يَبْهر المسلم من هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام، ومثالاً واحد نسوقه للعلم الذي ترك لنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو الإشارة إلى معراجه صلى الله عليه وسلم وكيف فُتحت له أبواب السموات السبع التي لا يعرفها
ولا يعترف بها لا غربيون ولا من حذا حذوهم في العلوم الكونية كما هو ظاهر من ضلالهم في نظرية دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وما يلتزمه من الباطل والكفر العظيم وهو إنكار الخالق سبحانه وتعالى وعرشه وسمواته وملائكته كما تقدم بيان ذلك فعلى صلى الله عليه وسلم فوقها ورأى من آيات ربه الكبرى ما رأى في ليلة واحدة وما في ذلك من الحقائق العلمية العظيمة عن السموات والملائكة وعن الجنة والنار وعن الرب سبحانه وبحمده وعلوه وعظمته وغير ذلك من العلوم الشريفة التي هي غذاء قلوب أهل الإيمان ما لو أفنى الغربيون أعمارهم ما أتوا بشيء من هذا صحيح على وجهه لأنهم لا يستمدون علومهم من مشكاة نبوة وإنما هو الخرص والظن ووحي شياطينهم وهاهم بعد السنين الطويلة والأعمال الشاقة المتعبة يفسدون عقائد المسلمين ويضلونهم عن معرفة ربهم بعلومهم الزائفة، ولو صدق الإنسان وصحت نيته ولم يطلب بعلمه عرض الدنيا لرأى العجائب وعلم يقيناً أن علم الغربيين ومخترعاتهم سبب للإسلام أعظم المصائب، لأن من طلب عرض الدنيا بالعلم النافع دخل في الوعيد فهو لا يجد رائحة الجنة (1)
ومع أول من تسعر بهم النار (2) فكيف إذاً بمن خاض في الضلالات وصدّق بالباطل والمحالات ولا عذر له إلا إيثار الدنيا والرئاسات.
(1) كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (3/ 323) وابن ماجه (1/ 92) عن أبي هريرة مرفوعاً ..
(2)
كما في الحديث الذي أخرجه مسلم (3/ 1513) عن أبي هريرة مرفوعاً.
أما أن يقال: أليس من العز والافتخار أن يبدأ بها المسلمون قبل عدوهم فمما تقدم يُفهم أنه لا عز فيها ولا افتخار بل فيها الذلة والصغار وإنما العز كله باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم وفيه السعادة والحياة الطيبة وقد نهانا عنهم وعن علومهم ومخترعاتهم، وهو يقول: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (1)، ويقول: ما لي وللدنيا ويمثل نفسه صلى الله عليه وسلم في الدنيا براكب قال في ظله دوحة ثم راح وتركها، وهذا وكثير طيب غيره من أوامره ووصاياه نحن المرادون به وهو لا يتناسب مع مفهوم الحياة اليوم عند كثير من الناس لأن مفهومها عندهم غربي ليس بعربي فضلاً عن أن يكون إسلامياً مع أن المطلوب لا يتغير، بقي أن يعلم من يطلع على هذا الجواب من هم الذين يقال: علماؤنا المسلمين وتنسب إليهم بدايات هذه العلوم ويُفتخر بهم ويُعتز بسبقهم: ابن سينا ومحمد بن زكريا الرازي، وجابر بن حيان وابن الهيثم وأمثالهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ابن سينا، ومحمد بن زكريا الرازي ونحوهم من الزنادقة الأطباء (2).
وقال ابن القيم رحمه الله: ابن سيناء إمام الملحدين، وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كلام الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه أنه قال كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا كان كافراً ذكياً،
(1) أخرجه البخاري (5/ 2358) عن عبد الله بن عمر مرفوعاً.
(2)
مجموعة الفتاوى ج4 ص114.
ذكر الشيخ محمد هذا في كتابه مفيد المستفيد ص42 وقد نقله عن شيخ الإسلام، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه المتفلسفة الذين يُعلم خروجهم من دين الإسلام منهم ابن الهيثم (1).
وإذا كان الحال هكذا فكيف يشوّه دين الإسلام ويلبس غير لباسه؟ وابن حيان لا ذكر له بين أهل العلم والدين.
وهنا مسألة يحتج بها كثيرون يقولون: المسلمون يحتاجون إلى القوة والسلاح والله يقول: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) الآية .. وهذه ليست حجة لمن يتلقى علوم الأعداء المضلة ونظرياتهم الباطلة ويفني عمره في ذلك ليصل بعد الجهد الجهيد إلى معرفة شيء من مخترعاتهم التي هي خوارق وقوة المسلمين ليست بالسلاح ولكنها بطاعة من تكفّل لهم بالنصر ما استقاموا على طاعته قال تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وقال تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) وغير ذلك كثير طيب من كلام ربنا ووصايا نبينا يتضح منها أن المطلوب منا الإيمان الصادق أولاً، وأدنى شيء من السلاح يكفي ولا يعتمد عليه.
قال تعالى: (إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ) وهذا دائماً لكن الرب سبحانه إنما ينصر الحق، فمن قام بالحق ولو كان أضعف الناس فإنه
(1) مجموعة الفتاوى ص374 ج 35.
لا يغلبه أحد ولا تروعه ولا تخيفه خوارق أعداء الله بل هم في اعتقاده أحقر من الذباب، لأن الرب سبحانه هو الذي يدبر أمر الخلائق وإنما يسلطهم على من شاء بسبب الذنوب لا بسبب قلة السلاح وهذا معنى قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن خوفي من ذنوب الجيش أعظم من خوفي من عدوهم، كلاماً نحو هذا وكما ورد (إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) فتأمل كلمة سلّطت فالأمر بيده سبحانه هم لا يطْرفون طرفة ولا يتحركون حركة إلا بتحريكه لهم وتدبيره ومحال أن يسلطهم على أتباع نبيه على الحقيقة ولَوْ وُجِدُوا، وحسب المسلم في هذا وأمثاله سيرة نبيه وصحابته وأحوالهم لأن الطرق كلها مسدودة إلا طريقة صلى الله عليه وسلم.
والمسألة ركبت على أساس قياس فاسد له ثلاث شعب، الأولى: أن ما توصل إليه الغربيون يسمى علم وحضارة ونهضة ورقي وما أشبه هذه الأسماء التي هي من زخرف القول ويُمدحون من أجله مثل ما يقال: (وما كان للغرب أن ينهض من كبْوته ويستيقظ من غفلته لولا احتكاكه بالحضارة الإسلامية عن طريق القسطنطينية وصقلية والحروب الصليبية شرقاً وعن طريق بلاد الأندلس غرباً) ونحو هذا الكلام الزائف الذي يُفهم منه أن الغرب ناهض من كبوته مستيقظ من رقدته بهذه العلوم المُرْدية والخوارق المفسدة للدين والدنيا.
والصحيح أن الغرب صريع كبوته أسير غفلته ولم تزدهم هذه العلوم والخوارق إلا ضلالاً وبوراً وقد ذكرنا طرفاً من كلام بعض عقلائهم فيما مضى وفي غير هذه النبذة مما يصفون به حالهم وعلومهم ومخترعاتهم مما فيه كفاية لمن يتطلب الحق.
الثانية: نسبة أصول علومهم للمسلمين مثل ما ورد في هذا الكلام الذي نقلناه أنه لولا احتكاكهم بالحضارة الإسلامية إلى آخره فيجعل ذلك من مفاخر الإسلام وحضارة أهله وازدهارهم وهو باطل كما بيّناه لأنه من نكسات من يُنسبون إلى الإسلام، ليسوا ممن يمثله حقيقة مثل الصحابة والأئمة والعلماء بعدهم الذين لم ينحرفوا عن علم نبيهم صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: وهي كالنتيجة للشبهتين السابقتين وهي التي اغتر بها من اغتر وخدع بها من خدع كما يقال: (تمخض الجمل فولد فأراً) وهي أن الإسلام متخلف وأهله في انحطاط وقد فاتهم ركب الحضارة والتقدم والرقي وأن الغربيين سبقوا ونهضوا وتطوروا ومن هنا تسرّب الذل النفسي إلى النفوس المخدوعة بهذه الشبهات الباطلة فأنتج هذا كله وأثمر أن يُوَجّه أبناء المسلمين هذا التوجيه ويُصاح بهم هذا الصياح الذي يدعوا إلى غير الفلاح سابقوا ونافسوا إلى الحضارة والمدينة والتطور والرقي.
قال ابن القيم رحمه الله: ولما توفي موسى رفع التعطيل رأسه بينهم (يعني بني إسرائيل) فأقبلوا على علوم المعطلة وقَدّموها على نصوص
التوراة فسلط الله عليهم من أزال مُلْكهم وشردهم من أوطانهم وسبى ذراريهم كما هي عادته سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي وتعّوضوا عنه بكلام الملاحدة والمعطلة من الفلاسفة وغيرهم كما سَلّط النصارى على بلاد المغرب لما ظهر فيها الفلسفة والمنطق واشتغلوا بها فاستولت النصارى على أكثر بلادهم وأصاروهم رعية لهم.
وكذلك لما ظهر ذلك ببلاد المشرق سلط الله عليهم عساكر التتار فأبادوا أكثر البلاد الشرقية واستولوا عليها، وكذلك في أواخر المائة الثالثة وأول الرابعة لما اشتغل أهل العراق بالفلسفة وعلوم أهل الإلحاد سلط الله عليهم القرامطة الباطنية فكسروا عسكر الخليفة عدة مرات واستولوا على الحاج واستعرضوهم قتلاً وأسراً واشتدت شوكتهم.
ثم قال رحمه الله: والمقصود أن هذا الداء لما دخل في بني إسرائيل كان سبب دمارهم وزوال ملكهم. انتهى.
هذا الداء الذي سبب دمار بني إسرائيل وزوال مملكتهم أهل زماننا يُسمونه علم وتطور ورقي وحضارة، فتأمل اليوم كيف أقبلت الأمة على علوم المعطلة وفيه مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:(لتتبعن سنن من كان قبلكم)(1) الحديث ..
(1) رواه البخاري (6/ 2669) عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
وتأمل قول ابن القيم: كما هي عادة الله سبحانه وسنته في عباده إذا أعرضوا عن الوحي وتعوّضوا عنه بكلام الملاحدة، واليوم يُفسر القرآن على مقتضى علوم الملاحدة فإنّا لله وإنّا إليه راجعون والله الموفق
عبد الكريم بن صالح الحميد
القصيم - بريدة
20/ 8/1422هـ