الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خوض بجهل
ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق تحت عنوان: شُبهات وردُود:
* كثرة الفاسدين:
يقول بعض الجهلة: لماذا يرضى الله بوجود الأغلبية الكافرة من الناس؟ وإذا كان الإسلام هو الحق فلماذا لا يدين به أغلبية الناس؟ وقد يحاول بعض المضلين عناداً وحمقاً بقوله: إذا كانت الأغلبية ستدخل النار فأنا أحب أن أكون مع الأغلبية. ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق:
والجواب:
ابتداءً: من الخطأ اعتقاد أن الأرض مركز الكون، أو أنها شيء هام في هذا الملكوت، مع إجماع علماء الفلك على أن الأرض بين النجوم لا تساوي نقطة ماء في المحيط، وإذن فما قيمة كل من يعيش عليها في هذا الملكوت العظيم، وقد جاء في الحديث:(أنه لو كان الإنس والجن أولهم وآخرهم على أفْجَر قلب رجل منهم ما نقص من ملك الله شيء، ولو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد في ملك الله شيء)(1) لأن الدنيا لا تساوي بأكملها عند الله جناح بعوضة.
ولقد جاء في الحديث: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح
(1) رواه مسلم برقم (2577).
بعوضة ما سُقِي الكافر فيها شربة ماء) (1) وإذن ماذا ينقص في ملك الله لو كان في الأرض أغلبية كافرة؟.
ولنتأمل في الأجيال السابقة: لقد فُنِيت من الدنيا فهل أنقص فناؤهم هذا من ملك الله شيئاً؟ وسيفنى بعدهم الآخرون (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) انتهى (2).
الجواب:
اعتقاد أن الأرض مركز الكوْن وأنها أسفل العالَم هو الحق وأنا ولله الحمد بينت هذا في (هداية الحيران) وهذا اتفاق عند أهل الإسلام وإجماع منهم بلا منازع.
وأما زعم صاحب كتاب توحيد الخالق إجماع أهل الفَلك على أن الأرض بين النجوم لا تساوي نقطة ماء في المحيط فهذا هذيان مبني على خيالاتهم حيث يعتقدون الأرض كوكباً كسائر الكواكب وأنها تدور لانفصالها عن السديم المزعوم.
وتصغير الأرض وأنها لا تساوي نقطة ماء في المحيط مبني على خيالات الملاحدة في المجرات الملايين والبلايين، وهذا هَوَس وقد تقدم بيان ذلك كله.
قال تعالى: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) وهي المخلوقات، وكم يذكر الله الأرض في كتابه العزيز مُمتناً على عباده بجعله إياها ذلولاً لهم
(1) رواه الترمذي (4/ 560) وابن ماجه (2/ 1376) عن سهل بن سعد مرفوعاً.
(2)
توحيد الخالق، (ص364).
ومهاداً وفراشاً وقراراً.
وقد قال تعالى مبيّناً عظمته: (وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فلولا عظمها لما مَثَّلَ بها لِما يأخذ بيده سبحانه، وقد أسقط صاحب كتاب توحيد الخالق أهمية الأرض وصَغّر شأنها حيث قال:(أو أنها شيء هام في هذا الملكوت؟) لأنه تائه في خيال بلايين المجرات.
قال ابن القيم رحمه الله في (مفتاح السعادة) فصل: وإذا نظرت إلى الأرض وكيف خُلقت رأيتها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشاً ومهاداً وذلّلها لعبادة، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السُّبُل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال فجعلها أوتاداً تحفظها لئلا تميد بهم، وَوَسَّع أكنافها، ودحاها فمدّها وبسطها، إلى آخر كلامه رحمه الله (1).
أما قوله: (وإذن فما قيمة كل من يعيش عليها في هذا الملكوت العظيم) فهذا يبين أن صاحب كتاب توحيد الخالق يخوض بكل واد وأن الكلام رخيص عليه وأنه يقحم نفسه في المضائق، وما عهدنا علماء السلف يتكلمون بالدين هكذا بالمجازفات والمغامرات والتخرصات، وكانوا يعظمون القول على الله بغير علم حيث عظمه الله قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
(1) مفتاح دار السعادة 1/ 199.
الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) قال ابن القيم رحمه الله في (أعلام الموقعين) 1/ 38: فَرَتّب المحرمات أربع مراتب. وبدأ بأسْهلها وهو الفواحش ثم ثنَّى بما هو أشدّ تحريماً منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم رَبَّع بما هو أشد تحريماً من ذلك، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعمّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه. انتهى.
فجواب صاحب كتاب توحيد الخالق بهذا الكلام لِكْون الرب سبحانه يرضى بوجود الأغلبية الكافرة. خطأ فاحش ونسبة الرب سبحانه إلى ما ينزه عنه، والمعنى أنه يُعَذب أغلبية الناس لا لحكمة وإنما لأن ليس لهم قيمة عنده، وهذا قول على الله بلا علم وهو باطل أيضاً فالرب سبحانه حكيم وهو محسن في الأزل قبل أن يخلق الخلق فخلقهم لِيُفيض إحسانه عليهم وما خلق العباد للتعذيب بالقصد الأول، وإنما اقْتضت حكمته وجود من يعصيه ويخالف أمره لحكم تبهر العقول.
وهذه مسألة كبيرة عظيمة وهي خلق الأشقياء وتعذيبهم، وقد تكلم السلف فيها بكلام رفيع من نظر فيه عرف الفرق بين علم السلف والخلوف.
وقد تكلم ابن القيم رحمه الله في مسائل كبيرة مثل الحكمة في خلق
إبليس والنار والكفر وغير ذلك من المسائل الجليلة التي لا تدرك إلا بعلم الكتاب والسنة دون خلط له بعلوم الفلاسفة ونحوهم مما خاض به المتأخرون ففي كتابه رحمه الله النفيس (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) الجواب الشافي لمثل هذا السؤال.
وقد ذكر في الباب الثاني والعشرين طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره وإثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فَعَلَ وأمرَ لأجلها، وقال: إنه أجلّ أبواب الكتاب.
كذلك يقال لِصاحب كتاب توحيد الخالق: السؤال نفسه غلط فالرب سبحانه لا يرضى بوجود الأغلبية الكافرة من الناس فإنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر، وإنما أراد ذلك إرادة كونية قدريّة لِحِكم باهرة، ولي كتاب فيه بعض البيان المقتبس من كلام هذا الإمام وشيخه وفيه كلام لهما عظيم بهذا الموضوع واسم الكتاب (الإنكار على من لم يعتقد خلود وتأبيد الكفار في النار) فيه أن تعذيب الكفار في النار اقتضته حكمة الحكيم سبحانه لا عبث عابث ولا تشفي مُتَشفي تعالى الله علواً كبيراً، وأن الكفر طارئ ليس بأصلي.
وقد بينت في الكتاب المذكور حكمة تعذيب الكفار في النار وأنهم يخلدون فيها ويؤبّدون ويلبثون الأحقاب الطويلة لكن النار نفسها لا تدوم بدوام الله عز وجل فهي ليست كالجنة لأن الجنة فضل والنار عدل ولا
يستوي فضل الرب وعدله.
أما الخلود والتأبيد في لغة القرآن فلا يقتضي ذلك عدم النهاية بل المراد به لأهل النار المكث الطويل.
وحيث أن الكفر طارئ دخيل ليس أصلي في المخلوق بل الأصلي التوحيد وهو الفطرة فمن هنا يُعلم أن الشر ليس إلا الله عز وجل.
وكلام صاحب كتاب توحيد الخالق هذا يُنَفِّر عن أرحم الراحمين الذي تغلب رحمته غضبه، والذي لا يتشفّى بالعذاب كالمخلوق، وإنما تعذيبه طُهْرَة للمُعَذَّب كالحدود في الدنيا والمصائب، ورب الدارين واحد، فالحدود كفارات والمصائب أيضاً وعذاب الآخرة من هذا الجنس فسنة الله وهي عادته لا تتغير لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وكلام صاحب كتاب توحيد الخالق هذا يدعو أيضاً إلى اليأس والقنوط وليس فيه تعليل أفعال الحكيم التي من عرفها أحَبّ ربه وأقبل على طاعته، وسوف أُرْفق هنا منظومة عنوانها (تعليل أفعال الجليل) فيها إشارة إلى هذا الموضوع وأن التعذيب في النار لم يصدر من الرب عز وجل لمشيئة مجّردة كما يشير إلى ذلك صاحب كتاب توحيد الخالق، وهذا مذهب باطل، ولا لعدم مبالاةٍ بالخلق كما يُفهم من كلامه:(وإذن فما قيمة كل من يعيش عليها) بل الرب سبحانه حكيم رحيم فعله لا يخرج عن الحكمة والرحمة.
وقد خاض من خاض في هذه المسألة قديماً مثل الجهم بن صفوان فإنه لما اعتقد دوام النار مع الإله عز وجل أنكر الحكمة والرحمة وصار هذا مذهباً يُتبع وهو أن الله يفعل بمشيئة مجرّدة وليس لأفعاله تعليل بالحكمة والرحمة لا سيما العذاب، وقد رَدّ أهل السنة هذا الاعتقاد الفاسد، وهذا الموضع لا يحتمل الإطالة.