المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌زيادة بيان وإيضاح برهان - الفرقان في بيان إعجاز القرآن

[عبد الكريم الحميد]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌نيوتن والجاذبية وقانونها

- ‌المجموعة الشمسية

- ‌العلوم التجريبية والاعتماد على المحسوس

- ‌هل صِدْق الرسول صلى الله عليه وسلم متوقفاً على هذيان أرباب العلوم التجريبية

- ‌أمثلة من الخوض بالجهالة والضلالة

- ‌إعجاز صاحب كتاب توحيد الخالق

- ‌نهار الكواكب وليلها

- ‌(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) الآية

- ‌(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) الآية

- ‌(فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً) الآية

- ‌مشابهة المتكلمين

- ‌غلو صاحب كتاب توحيد الخالق بعلمه الحديث

- ‌فلا أقسم بمواقع النجوم

- ‌الإعجاز المزعوم يُضل عن السموات وما فوقها

- ‌المجرات الخيالية وأصل علوم المعطلة

- ‌المجرة باب السماء المبنية

- ‌ترويج البضائع الفاسدة

- ‌الذرة

- ‌الجناية على القرآن

- ‌ضلال في نشأة الكون

- ‌السموات السبع

- ‌هل الشريعة مَرِنَة

- ‌تجهيل السلف

- ‌(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) الآية

- ‌النار السوداء

- ‌(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)

- ‌(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)

- ‌السديم

- ‌الكنيسة

- ‌أمثلة من الضحايا

- ‌الدعوة إلى الله

- ‌دوران الأرض

- ‌(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا) الآية

- ‌(كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)

- ‌(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ) الآية

- ‌(وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً)

- ‌(قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ)

- ‌(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا) الآية

- ‌(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)

- ‌(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) الآية

- ‌(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) الآية

- ‌(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) الآية

- ‌(وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) الآية

- ‌(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) الآية

- ‌(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) الآية

- ‌الوعيد على تفسير القرآن بالرأي

- ‌هل معاني آيات القرآن غير معروفة حتى يُبينها المتأخرون

- ‌ إعجاز القرآن

- ‌الظلمات الثلاث

- ‌شوائب الداروينية

- ‌خوض بجهل

- ‌(بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) الآية

- ‌كلام في القدر

- ‌الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار

- ‌(لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ)

- ‌كروية الأرض وثباتها

- ‌جريان الشمس بالفلَك غير الجريان حول المجرة

- ‌الأرض مركز الكون

- ‌(وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) الآية

- ‌(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) الآية

- ‌(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) الآية

- ‌(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)

- ‌خوض في مسمى العلم

- ‌(لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) الآية

- ‌تصديق صاحب كتاب توحيد الخالق بالوصول إلى الكواكب

- ‌أرض العرب والمروج والأنهار

- ‌الدعوة إلى الله بالطرق الشرعية

- ‌علم الأمة ميراث الرسول

- ‌(وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ)

- ‌بداية الكون

- ‌(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ) الآية

- ‌(وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)

- ‌انشقاق القمر

- ‌حيل لترويج بضائع فاسدة كاسدة

- ‌(وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) الآية

- ‌(فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) الآية

- ‌كلام باطل عن الشمس

- ‌(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية

- ‌رد الباطل بالباطل يُغري أهل الباطل

- ‌آثار نشأة الكون على نظرية داروين

- ‌عجائزنا ومجانيننا خير من علماء المعطلة

- ‌(أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) الآية

- ‌الملحقات

- ‌زيادة بيان وإيضاح برهان

- ‌العلم التجريبي

الفصل: ‌زيادة بيان وإيضاح برهان

‌زيادة بيان وإيضاح برهان

لقد تحوّلت أحوال الأمة بتأثير الدخيل الداخل عليها فلبست غير ثيابها وتحلّت بغير حلاها، سنناً لا بد من ركوبها بالرغم من مجافاتها للصراط المستقيم ونكوبها، حيث بهذا سبقت مقادير القدير وأحاط بها علم العليم الخبير.

إنطمست المعالم والآثار غير أن بقية من الأسماء باقية على حالها لكنها قلقة لأن مسميّاتها متغيرة مع ما تغيّر.

والمراد هنا كلام الله العظيم والذكر الحكيم الذي تطاوَلتْ الأيدي إلى مقامه الرفيع بتفسيره على غير ما أراد المتكلم به سبحانه وإنما بما يُجاري الأهواء الضالة المضلة.

وقد سبق أهل وقتنا من مَهَدَ لهم الطريق، فالخوارج أول من تجرأ على القرآن بفهمهم له فهماً سقيماً يؤيد بزعمهم ما انتحلوه.

ثم جاءت القدرية والجبرية والجهمية وغيرهم من طوائف الضلال، وكل هؤلاء يسْتدلون على صحة مذاهبهم بالقرآن.

وهم من تناقضهم فيما بينهم وبين بعضهم وفيما بينهم وبين أهل السنة والجماعة إلا أن يجمعهم جامع وهو الاستقلال بعقول ناقصة وفهوم

ص: 437

سقيمة وكان من ثمار ذلك ونتائجه أن حَرّفوا كلام الله على ما يريدون لا على ما يريد الله من كلامه، ومن هنا جاء الاختلاف الكثير وتشعّبت فرق الأمة.

ثم جاء زماننا وسلك كثير من أهله هذه الطريق، مع دعوى المعرفة والتحقيق، ففهموا من كلام الجليل سبحانه فهماً يتناسب مع عقولهم وزمانهم، وهذا هو موضوع هذا الكتاب.

وقد تقدم ذكر الأمثلة من القرآن والكلام عليها والأمثلة أيضاً من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم التي صُرفت معانيها التي أراد الله ورسوله لِتُجاري الأهواء والضلالات الحادثة وهنا أذكر بعض الضوابط للكلام في معاني القرآن والحديث وهل ذلك مطلق لمختلف الفهوم أم أنه مقيّد بفهم الصحابة رضي الله عنهم؟ حيث أنهم تلقّوْا ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، إن هذا هو مفترق الطرق وأول من ضل فيه الخوارج حيث احتقروا الصحابة استقلالاً بعقولهم واسْتعلاءاً بفهومهم وقدْ جَنوْا ثمار ذلك ولِوَرثتهم نصيب بقدر ما ورثوا منهم وليس بورثتهم من يرى رأيهم فقط فهذا معلوم ومُنتهى منه وإنما المراد وَرَثتهم بالفهم الفاسد للقرآن كأهل الإعجاز المزعوم.

إن أعظم الضوابط لتفسير كلام الله معرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيّن معاني القرآن كما بَيّن ألفاظه.

ص: 438

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فصل: يجب أن يُعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى:(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يتناول هذا وهذا.

وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين يُقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل.

قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.

ثم قال ابن تيمية بعد ذلك: ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَلّ في أعيننا، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عِدّة سنين، قيل: ثمان سنين، ذكره مالك (1).

إذا عُلم ما تقدم تبيّن منه أن تفسير القرآن لم يترك للآراء واختلافها والأهواء وضلالها وأنه مُنتهىً منه كما انه مُنتهىً من بيان ألفاظه.

إن كثيراً من المتأخرين تفلّتوا من القيود في هذا الأمر الخطير يقول بعضهم عن القرآن: أنه متجدّد بمعانيه وروحه في كل عصر، وحتى أنه

(1) مجموعة الفتاوى 13/ 331.

ص: 439

تهجّم تهجماً عنيفاً على من لا يقبل من تفسير القرآن إلا ما مضى عليه السلف.

وليس مع هذا الكتاب الجاهل المتمعلم حجة يدلي بها اللهم إلا السّب والشتم وتجهيل من يخالف فتنته التي فتن بها هو وأمثاله، وقد تعجبت من جرأته على كلام الله ولا دليل إلا رأيه الساقط وجزْمه الفارط، لكن ليُعلم أن من الجزم جزم علم وجزم هوى، وبلا شك أن جزمه جزم هوى وجهل وضلال.

فتأمل الآن ما يقول تحت عنوان: (الغزو الفكري من المخاطر غزونا لأنفسنا).

قال: قد يستغرب القارئ بعض ما أورده تباعاً والحقيقة أن هناك بعض الفئات التي يفوق ضررها على الأمة ضرر الأعداء من حيث لا يقصدون بل من دوافع الدونية والأنا والجهل والجاهلية يتصرفون.

هل تتوقع عزيزي القارئ بأن هناك من يعارض أي جديد لأجل خدمة الإسلام والدفاع عنه؟!.

وهل تعلم عزيزي القارئ أن هناك من لا يقبل أي تفسير للقرآن الكريم لا لأنه يرى أن ما لدى غيره أقل مما لديه أو أنه لا يتناسب مع مكانة القرآن وقدسيته لا بل لأن المفسرين الأوائل لم يقولوه سابقاً ولأنه لا يستطيع أن يأتي بجديد ولا بقديم وموقف مثل تلك الفئة المتعالمة يفيد

ص: 440

بأن حركة الإسلام وتحركه نحو البناء تتوقف حالما انتهت فترة أولئك الأجلاء العظماء من الصحابة والتابعين وأشباههم من اللاحقين الذين يتوجب عليهم أي اللاحقين أن يتمموا المسيرة الجليلة العظيمة التي بدأها السابقون ويكللوها بكل جديد مفيد لا أن نتوقف توقف العاجزين ونتكسب تكسب المتواكلين أو نتنطع تنطع الجاهلين الفارغين أمثال تلك الفئات من الأمة.

إن محاولات تفسير القرآن الكريم بما يتناسب مع قدسيته وعظمته إن هو إلا عمل جليل لأن فيه زيادة بيان لعظمة القرآن وزيادة إيضاح لأحكامه وأسراره وإلا لما فسر المفسرون واكتفوا بما قاله الأولون بل إن المواكبة الفكرية العصرية لبيان إعجاز القرآن وكماله إن هو إلا عمل جديد ومطلب أكيد.

وللأسف فإن تفسير من هذا القبيل يعده البعض خروجاً عن جادة الإسلام ويحسبه بمثابة عدم احترام لآراء المفسرين السابقين الكرام وتجاوز للحدود المسموح بها لنا نحن اللاحقين الأقزام لأن المفسرين الأوائل لم يفسروا القرآن كما نفسره نحن الآن فأين نحن من مقامهم واعتبارهم حتى نتجرأ على تفسير القرآن.

ولعلم هذه الطبقة المتعالمة ظاهراً الجاهلة باطناً الكسولة الواهنة المكتسبة المتواكلة إن من أسرار وإعجاز القرآن أنه متجدد بمعانيه وروحه

ص: 441

في كل عصر وآن للقارئ الواحد كلما أعاد قراءته وتدبره فما بالك بأجيال أمة تليها أجيال وأجيال تقرأ القرآن لتنهل من معينه المتجدد.

إن من إعجاز القرآن أنه متجدد بروحه ومعانيه تجدد الزمان وأهله مع بقائه محافظاً على معانيه السابقة التي تجلّت للأجيال السابقة بلا تعارض مع معانيه التي تتجلى للأجيال اللاحقة بل إنها تدعم بعضها بعضاً وتنسجم انسجام ألفاظه مع حروفه وترابط آياته مع نصوصه.

إن أولئك وأمثالهم يريدون من الآخرين أن يتوقفوا عن إكمال مسيرة الأوائل العظماء من المسلمين لأن أفراد هذه الفئة فارغون لا يملكون ما يقدمونه للأمة إلا هذا الموقف السلبي المخزي الذي كله كسل وتوكل على الأمة وهم وأمثالهم معذورون لأن فاقد الشيء لا يعطيه إلا أنهم ملامون محتقرون عندما يعارضون أو يعترضون عطاء الآخرين لمجرد كونهم على العطاء غير قادرين.

إن أحداً لا يستطيع تصور قول البعض إزاء تفسير جديد لآية من آيات القرآن الكريم لم يسبق إليه مفسر آخر من المفسرين السابقين إن قول البعض وللأسف لا يستند إلى دليل أو برهان من نفي أو إثبات بل إنه حجة الجاهلين المتواكلين فقولهم ينحصر بأن المفسر الفلاني لم يورد هذا التفسير الجديد في تفسيره العتيد، ثم ذكر كلاماً يتناسب مع جهله وضلاله ثم قال: ولا أظن أن تفسير القرآن الكريم تفسيراً صحيحاً سليماً

ص: 442

متفقاً مع أوامر الله عز وجل ونواهيه فيما يتعلق بتعاملنا مع القرآن الكريم يعد أمراً يتكلم برده أو رفضه أحداً من الخلق إلا من كان به عَتَه في مداركه وعقله لأن رده ورفضه لهذا التفسير أو ذاك لمجرد أنه لم يرد في تفاسير السابقين رغم خدمته الجليلة العظيمة للقرآن وأهله ودفاعه عنه ضد من يطعنون به ويتعرضون له بالأذى، ثم ذكر كلاماً يتناسب مع هذيانه ثم قال:

إن تفسير القرآن تفسيراً ينسجم مع عظمته وقدسيته وحقيقته لا أظنه إلا عملاً جليلاً من أعمال أكابر العلماء وأجلهم طالما أنه تفسير لا يسيء إلى القرآن ولا يتعارض معه بل يساهم في بيان حكمته وعظمته وكماله وإعجازه وأنه كلام الله عز وجل العالم العليم الخالق العظيم رب السموات والأرضين سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى والصفات العليا.

إن عملاً من هذا القبيل وأمثاله من أعمال الرجال العظام ندبت إليه الأمة كل الأمة من خلال قول الخالق الجامع: (وقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(1).

ولم يقل جل وعلا: تواكلوا وعلى أكتاف الآخرين اتكئوا.

بل أمرنا بالعمل كل العمل الذي فيه الخير والمنفعة والعلم والمصلحة والدعوة إلى دين الله عز وجل ونشره في الآفاق، وما أظن أن عملاً

(1) التوبة، آية:105.

ص: 443

أفضل من العمل الذي يخدم القرآن ويسهل فهمه وييسر تعليمه وبالتالي تعميمه ونشره على الخلق كلهم.

ولا ريب أن من يقف مواقف سلبية حيال جهود من يقومون بتفسير القرآن العظيم وفقاً لأسس صحيحة سليمة إن هو إلا من أعداء الأمة الإسلامية من حيث لا يقصد ولا يتعمد وإن هو إلا عنصر سلبي يغزو الأمة غزواً داخلياً فيتسبب في إعاقة مسيرتها نحو الأمام ويجمد جهود المخلصين من أبنائها والعاملين على خدمة الإسلام ونشره والدعوة إليه من خلال جهودهم المباركة في تفسير القرآن العظيم تفسيراً صحيحاً يتفق مع مقاصده ومعانيه قلباً وقالباً وكما أراد الخالق جل وعلا منه وابتغى. انتهى.

يقال لهذا وأمثاله: إن تفسير القرآن على غير تفسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الذين ساروا على مناهجهم في ذلك تغيير لمعانيه التي أرادها من تكلم به سبحانه، فهل يجوز هذا وهل يكون دين الأمة محفوظاً ومستقيماً بهذه الصورة، وبماذا نحتج على الخوارج بتفسيرهم للقرآن وكذلك الرافضة والقدرية والجبرية وغيرهم من الفرق التي لا يوجد منها فرقة إلا وتحتج بالقرآن.

ص: 444

وأقلّ القليل من الفِرق والطوائف الضالّة من تحتج بألفاظ وحروف محرّفة من القرآن وإنما يحتجون بما فهموه من معانٍ لم يُردْها من تكلم به سبحانه وما فسّره بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا من سار على نهجهم.

إن أيّ شخص لوْ تكلم بكلام ثم فُهِمَ من كلامه غير مراده لصار هذا بمثابة تغيير كلامه، وهل المراد من الألفاظ إلا المعاني؟.

كيف بكلام الجليل سبحانه؟ أيجوز أن يأتي كل جيل فيفسرونه على مقتضى أحوالهم وأمورهم وما أحدثوه؟.

إن هذا تبديل وتغيير خطير، فلا بد إذاً من ضابط لتفسير كلام الله وقد تقدم ويأتي إن شاء الله زيادة بيان.

قال شيخ الإسلام بعد الكلام المتقدم الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن للصحابة تفسير القرآن قال:

وذلك أن الله تعالى قال: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) وقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وقال: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ).

وتدبّر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وكذلك قال تعالى:(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وعقل الكلام متضمن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرّد ألفاظه، فالقرآن أوْلى بذلك.

ص: 445

وقال رحمه الله: ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جداً، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم.

وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر.

ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عن كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسْبك به.

ولهذا يعتمد على تفسير الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صَنّف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره.

والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة، وإنْ كانوا قدْ يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال. انتهى (1).

وقد تبين أن النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليل جداً وأنه قليل في التابعين بالنسبة لمن بعدهم ونحن أُمِرْنا بإتباع نبينا والصحابة ونُهينا عن

(1) مجموعة الفتاوى 13/ 332.

ص: 446

الإحداث وأعظمه الإحداث في كلام الله وكلام رسوله بمعانٍ لم يفهمها ولم يتكلم بها النبي ولا الصحابة ولا التابعون.

أما بعض الاستنباط والاستدلال الذي لا يُغير معاني القرآن وقد استنبطه واسْتدل به التابعون الذين تلقوا التفسير عن الصحابة فشيء آخر غير ما سلكه المتأخرون.

فمنهج التابعين في ذلك أن المعنى الذي تلقوه عن الصحابة لا يتغير بخلاف أهل الوقت الذين قَلّ أن يعتمدوا في تفسير الآيات من القرآن على الصحابة أو التابعين بل يذكر احدهم الآية وليس يتحرّى المعنى الذي أراده الله منها بالنظر فيما تكلم به الصحابة والتابعون بل يجري مع فكره وفهمه وهواه وكأن المعنى عنده متقدم على اللفظ فمراده تقرير المعنى الذي يريد هو فيلتمس له الآية أو الحديث وهذا ضلال وقد رأيت من ذلك عجائباً.

وانظر كلام الشيخ عن الشافعي والبخاري وأحمد وغيرهم من العلماء كيف يعتمدون تفسير مجاهد للوصول إلى تفسير الصحابة وللوصول إلى تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أو الاعتماد على فهم الصحابة، فالحذر من هذه التفاسير الحادثة للآيات المخالفة للسلف، وكذلك شروح الأحاديث المخالفة فإن هذا ضلال مبين.

ص: 447

إن هؤلاء الأئمة الكبار إمامهم الصديق رضي الله عنه الذي يقول: أيّ أرض تقلني وأيّ سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم.

والفاروق رضي الله عنه قال عنه أنس: كنا عند عمر بن الخطاب وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ: (وفاكهة وأباً) فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف فما عليك أن لا تدريه.

فلينظر من تجرأ على كلام الله بتأويله على غير مراد مَنْ تكلم به من هو إمامه؟.

لقد كان السلف يعظمون القول بالقرآن بغير علم، قال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبدة الضبي، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليُعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع.

وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن فاتق وعليك بالسداد.

وقال أبو عبيد حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه.

وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله.

ص: 448

وقال أبو عبيد حدثنا هشيم أنبأنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.

تأمل قولهم: (الرواية عن الله) وأن المفسر يقول: يُريد الله بكلامه كذا وكذا، فما حجته إذا كذب على الله وأضل عباده عن مراده؟ نعم الفارق بيننا وبين السلف ترحّل الخوف من القلوب، ولذلك حصلت الجرأة عن كلام علاّم الغيوب.

إن الوعيد على من قال بالقرآن برأيه شديد وهو معلوم، فقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من قال في القرآن برأيه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار).

قال بعض المتأخرين تحت عنوان: (معجزة القرآن وكيف تختلف) قال: ولكن الذي يجب أن نعرف أن للقرآن عطاء لكل جيل يختلف عن عطائه للجيل السابق (1).

إن هذا كلام خطير جداً ولذلك صار كل جاهل متعالم يفسر القرآن على مقتضى أنه يعطى لكل جيل عطاء يختلف عن عطائه للجيل السابق، إنه التلاعب بكتاب الله وعدم هيْبته وترحّل الخوف من القلوب.

(1) كتاب محمد متولي الشعراوي الذي سماه: (من فيض الرحمن في معجزة القرآن) ص31.

ص: 449

وقد انفتح باب الدعوى الطويلة العريضة التي يوضح معناها هذا البيت:

وإني وإن كنتُ الأخير زمانه

لآتٍ بما لم تسْتطعه الأوائلُ

كل هذا ناشئ عن الاستقلال بعقول قاصرة وفهوم ناقصة وناشئ أيضا ًعن احتقار للسلف وإعجاب بالنفس حجابه كثيف.

إن من ينظر في تفاسير السلف للقرآن مثل ابن جرير والبغوي والقرطبي وابن كثير رحمهم الله وغيرهم من عامة من فسّر القرآن من السلف وهو من الأئمة يرى تفاسير الصحابة والتابعين منقولة لبيان معاني القرآن، فلماذا لم يقولوا: إن القرآن متجدّد بمعانيه وروحه في كل عصر وأن له عطاء لكل جيل يختلف عن عطائه للجيل السابق، أهؤلاء أهدى من السلف؟ أم أنهم يفتحون باب ضلالة؟.

ويقول أيضاً صاحب الكتاب السابق: إن هناك آيات من القرآن تعطينا الآن عمقاً جديداً في معناها: ذلك العمق لم يكن أحد يصل إليه بالفهم الدقيق في أول وقت نزول القرآن.

هذا الكلام فيه تفضيل لعقول المتأخرين وفهومهم العميقة الدقيقة على من نزل القرآن في وقتهم، ومعلوم أنهم النبي والصحابة فانظر ما يقع به هؤلاء الجهلة المتعالمون.

ص: 450

بُعداً وسحقاً لمن ظن أنه فهم من القرآن ما لم يكن أحد يصل إليه من القرون المفضلة أو يظن أنه يُساويهم في فهم القرآن وهل يعتقد مسلم أن الله يخاطب جيلاً بما يختلف عن خطابه للجيل السابق وأنه يأمرهم وينهاهم ويقصّ عليهم ما يختلف عن غيرهم كل حسب جيله وزمانه؟ أيّ فهم هذا؟ هذا تغيير للقرآن مع بقاء حروفه.

قال ابن تيمية رحمه الله: لكن المقصود أن يُعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم مما يُظنُّ أنه فضيلة للمتأخرين ولم تكن فيهم فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم أوْ من جنس العبادات أو من جنس الخوارق والآيات أو من جنس السياسة والملك، بل خير الناس بعدهم أتْبَعهم لهم (1).

مَنْ شك في كلام الشيخ هذا فليراجع تعلم دينه، وإن هذا والله في كل شيء من أمور الدنيا والآخرة ولكن المغرور مغرور لا حيلة فيه، إن خير القرون لا يختار الله لهم إلا خير الأمور في كل شيء.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني) الحديث، وقال:(لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه).

(1) مجموعة الفتاوى 27/ 390.

ص: 451

وقال ابن تيمية: ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمن خالف قولهم وفسّر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعاً، ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية (1). انتهى.

وقد تقدم نماذج من التفسير الذي كثر في وقتنا وهو بخلاف تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم، والتفاسير الحادثة المخالفة لها أسباب وهو ما أحْدثه الناس بعد القرون المفضلة في العلم والعمل وغيره.

قال ابن تيمية: والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دَعَتْ أهلها إلى أن حَرّفوا الكلم عن مواضعه، وفسّروا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بغير ما أُريد به وتأولوه على غير تأويله، فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه وأنه الحق وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم، وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق.

(1) مجموعة الفتاوى 13/ 362.

ص: 452

وكذلك وقع من الذين صنفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره (1).

وعلى مقتضى هذه القاعدة سوف يكون الكلام على بعض النصوص المفسرة في وقتنا بغير معناها مثل قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

(الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) ونحو هذه الآيات يجعلون المراد بذلك إحسان الأعمال الدنيوية وصلاحها بتأديتها بجد واجتهاد مهما كانت هذه الأعمال، وقد انتشر هذا في كتب أهل الأمصار ومناهج الدراسات وغيرها وهو تفسير بمعنى فاسد، إذ المراد بالأعمال الأعمال الدينية يوضح ذلك قول الفضيل رحمه الله لما سئل عن قوله تعالى:(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال: أخلصه وأصْوبه، والخالص ما كان لله والصواب ما كان على السنة. انتهى.

وقد بيّنت ولله الحمد في هذا الكتاب ما يكفي مريد الحق غير أن هذا والذي بعده زيادة بيان.

(1) مجموعة الفتاوى 13/ 362.

ص: 453