الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكنيسة
بدأت هذه العلوم التجريبية الحديثة في بلاد الغرب على أصول تقدم ذكرها مثل عدم الإيمان بغير المحسوس الذي المراد الأعظم منه جحد مكوِّن لهذه المكوِّنات ومُوجدٍ لهذه الموجودات فأول خطوة خَطَوْها وأكبر أصل أصَّلوْ أن لا خالق للكون، فنظروا في الكون على هذا المقتضى، ولا تسأل عن ضلال مَنْ دين أبي جهل أحسن منه لأن أبا جهل داخل في قوله تعالى:(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ).
أبو جهل يقر بوجود الرب عز وجل وأنه خالقه ورازقه بل ويعبده لكنها عبادة شركية لا تنفعه.
أما هؤلاء فكما رأيت أصولهم، فهم معطلة دهرية، والمراد هنا أن أرباب الكنائس النصرانية علموا أن أرباب العلوم التجريبية معطلة جاحدون للخالق وعملوا أيضاً أنهم يقولون: الأرض على شكل الكرة وأنها تدور، فقامت قائمة الكنائس عليهم لأنهم أقرب منهم إلى الحق وإن كانوا كفاراً فما زالوا على إقرار بالربوبية والنبوات وبقية كتب أنبيائهم عندهم، ورغم تحريفها ففيها ما لم يحرف من معرفة الخالق والنبوة ونحو ذلك، فالمشرك خير من المعطّل الملحد الدهري.
والمراد أن أرباب الكنائس أنكروا على المعطلة ما افْتَروْه وحصل بين الطائفتين شرٌّ عظيم.
وكان مما أغرى المعطلة بما عندهم إنكار الكنيسة لِكروية الأرض واستدلالهم على هذا الإنكار بما ليس بدليل، والمعطلة لا يشكّون في ذلك فقد ظهر لهم بجلاء فرَأوا أن الكنيسة تكابرهم مكابرة فرفضوا كل ما يأتي به أربابها.
كذلك زعم المعطلة أن الأرض ليست هي مركز الكون وليست ثابتة بل تدور حول نفسها وحول الشمس مما زاد غيظ أرباب الكنائس عليهم لأنهم يجدون في كتبهم أن الأرض مركز الكون وأنها ثابتة وعرفوا أن هؤلاء المعطلة لا يقرون بالخالق.
والكنيسة أخطأتْ في أمور أغرت المعطلة وزادت في تباعدهم عن تعاليمها والمعطلة فرحوا بما عندهم من معرفة أن الأرض على شكل الكرة وأغراهم الشيطان أن طريقهم في العلم والمعرفة هو الصواب الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره، فأحسنوا الظن بنفوسهم وعلومهم لبعض حق أصابوه في المخلوقات وأساءوا الظن بأرباب الكنائس لمكابرتهم إياهم على ما لا تصلح المكابرة فيه، واستمر كل على ما هو عليه، طرفان متباعدان لا يلتقيان.
أخطأت الكنيسة بإنكار كروية الأرض، وسبب الخطأ فُهُومُهُمْ الفاسدة، أما ما بقي في كتبهم من حق مَوْروث عن أنبيائهم فقطعاً ليس فيه ما يعتمدون عليه لِبَرْهَنَة هذا الإنكار.
وقد وقع في هذا الخطأ من فَهِمَ بعض آيات القرآن على غير ما أراد الرب سبحانه حيث ظنوا أن قوله تعالى: (وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أن هذا يُنافي كونها على شكل الكرة، وهذا معلوم أنه غلط إذْ لا منافاة ولله الحمد ولا تعارض، والذي يُدْرَك على حقيقته بالعقل الصريح محال أن يُعارضه النقل الصحيح، وإنما يأتي الخلل إما من المنقول بأن يكون غير صحيح أو صحيح ولكن الفهم لمعناه والمراد منه فاسد.
أو يكون ما يُدّعى أنه عقلي صريح ليس كذلك بل خطأ وغلط، ومن هنا تأتي المصائب، ومن هنا يكون النزاع بين الطوائف المختلفة مع أسباب أخرى أيضاً.
نحن نبصر الأرض بأبصارنا المحدودة على هيئة السطح المستوي، والسِّرّ في ذلك عظم جرمها، ولو كانت أبصارنا أقوى مما هي عليه لبان لنا خطأ ما تَوَهّمناه من التعارض.
والجسم الكروي كلما كبرُ كلما ضعف تمييز انحناءاته بالبصر، والذي يرتفع فوق مكان عال من الأرض كالجبال الرفيعة يرى ما لا يراه من على وجه الأرض.
وليس المراد هنا بيان شكل الأرض فقد أصبح معلوماً يقيناً، وطرق معرفته مُتَعدّدة معروفة.
إنما المراد أن أرباب الكنائس كابروا أولئك مما زادهم إغراءً بما عندهم وتمادياً في تعطيلهم.
ولقد أصاب أهل الكنائس في إنكارهم على المعطلة جحد الخالق وكون الأرض تدور لأنها منفصلة من مادة أزلية لا بداية لها وعلموا أن ذلك معارض للحق الذي بقي في كتبهم على حاله، وأن معنى كلام المعطلة أن الأرض ليست مركز للكون وأسفله، فمكابرة المعطلة في جحد الخالق وزعمهم دوران الأرض لأجل انفصالها عن مادة أزلية أعظم بما لا نسبة له من غلط أرباب الكنائس، والكفر بعضه أشد من بعض.
قال تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) وأهون أهل النار عذاباً أبو طالب (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) والنار دركات بعضها أشدّ من بعض.
هذه إشارة يُسْتخلص منها ويتبيّن أن شراسة وغيْظ المشغوفين بهذه العلوم الحديثة على أرباب الكنائس إنما باعثها الهوى الذي يُعْمي صاحبه عن العدل الذي قامت به السموات والأرض، إن الذي ينظر في كتب كثير من المقلِّدة الأتباع لأرباب العلوم الحديثة يرى الدفاع المستميت عن المعطلة والسبب كلال عين الرضا عن رؤية العيب.
ولو أرشدوا لَنَقِمُوا على الطرفين وكانت نقمتهم أعظم على المعطلة الدهرية أرباب العلوم الحديثة من جهة تعطيلهم، وينقمون على أرباب الكنائس كفرهم وشركهم، لكن تكون النقمة على المعطلة أعظم من النقمة على المثلثة، كيف وكثير ممن كتبوا عن هذه العلوم لم ينقموا على أهل الكنائس شركهم إنما نقموا عليهم أشد النقمة لمعارضتهم مَنْ سَمّوْهم:(علماء). صبوا عليهم جام غضبهم لأجل ذلك لا لأجل الكفر، والرب سبحانه من أسمائه (العدل) وحكمه كله عدل لا ظلم فيه ولا مثقال ذرة، وقد أنزل على نبيه فيما يخص أهل الكتاب وهو لنا أيضاً:(وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)، وقال تعالى:(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ) وغير ذلك من الآيات البيّنة في الأمر بالعدل في كل شيء ومع كل أحد.
وليعلم الناظر في هذا أننا ولله الحمد نُنكر على من ينفي ما لا يعلمه إذ حجّته عدم علمه، لأن عدم العلم بالشيء ليس بعلم فلا يوجب النفي ولا الإثبات وإنما التوقف وقول (الله أعلم) فهذه آداب شرعنا وقد قال تعالى في ذَمّ من يُنكر الشيء لعدم علمه به (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ) فهذا كَذَّبَ بما لم يعلم وجوده أو بما لم يعلم حقيقته لا بما يعلم أنه كذِب، وفرْقٌ بين هذا وهذا.
فإذا قيل: أنتَ أنكرتَ الذرة التي اكتشفها الباحثون والعلماء والجُدد وأمرها ظاهر بَيّن في العلم كله اليوم فهذه مكابرة، قيل: أما الذرة نفسها
التي يصفون فإن القوم يقرون أنها لا تُرى ولا بأكبر المجاهر فكيف بما يدور حولها من الكترونات وبروتونات ونيترونات؟
فهم إنما يظهر لهم آثار يُحيلونها إليها مع عدم وجودها على وَصْفِهم، كما يُحيلون دوران الأرض والكواكب إلى سديم معدوم لا وجود له، وإلى التجاذب الذي قررّه نيوتن فغايتهم نظريات مرسومة على الأوراق يَعْضدونها بأفلام مُمَثَّلةً على مقتضى عقائدهم في الكون وذراته، والمفتون المغرور من خُدِع بنظريات مرسومة مُلَوّنة وأفلام سينمائية وتلفزيونية أبرزها وأظهرها الخيال الضال، وقد راج المُحال في عصرنا لما كُثر التفلّت من تعاليم الدين الحق وكُثر التنكر لها وانطلق العقل من عِقال الشرع الذي مجاله الآمن وحي خالقه وخالق الكون سبحانه.
إن خروج العقل عما حَدّ له الشرع ولا شك يورده متاهات الحيرة والضلال، لأن الآمر بذلك والداعي إلى صراطه المُوغِل في الظلمات هو القائل لربنا عز وجل:(وَلأُضِلَّنَّهُمْ) وقد جعل الرب سبحانه له نصيباً مفروضاً يُحقِّق عليهم وبهم هذا الضلال والإضلال، قَدَرٌ نافذ وحكمة بالغة، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) ولكن حكمته وأقداره السابقة وجود خليقته أن (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) ومن أراد إحراز دينه وتثبيت يقينه في مزَلّة، هي وعِزَّةِ ربي مَضَلّة فلينظر في كتاب (شفاء العليل في الحكمة والقضاء والقدر والتعليل) لابن القيم رحمه الله ففيه
الجواب عما يحوك في الصدر من أسباب سَبْق كتابة وإرادة شقاء الأشقياء وهي مسألة كبيرة جليلة، من أجل الخوض فيها بلا علم حار من احتار في خَلْق الكفار ومن يخلقه الرب وهو يعلم أنه يصير إلى النار.
وما الحكمة في خلق الشرور المحضة مثل إبليس والشياطين والنار وحدود الشريعة المطهرة ما حكمتها وحكمة وجود ما ينافي الطباع ويُنغّص العيش ويُكَدّر الحياة، كل هذا وغيره مما لا يجد له المتأخرون أجوبة شافية كافية، تجدها في كتاب شفاء العليل وغيره من كتب هذا العالِم الجليل وشيخه -رحمهم الله تعالى-.
والمراد أن الذرة هي عند القوم أصل الكون حيث أن السديم المزعوم يتكون منها ولذلك يقول صاحب كتاب توحيد الخالق: (الذرة لبنة البناء في الكون) ويزعم أن سبب اختلاف العناصر المادية يرجع إلى اختلاف عدد الجسيمات في الذرة وترتيبها، وهذا هو كلام أرباب العلوم الحديثة (1).
وأنا ذكرت ما ذكرت لعلمي أن ضحايا كثيرة لهذا العلم الحديث هلكتْ باختيارها الضلال على الهدى والغيّ على الرشاد.
لقد ضَلّت الخوارج بعقولها وكذلك القدرية والجهمية والمتكلمة والرافضة وغيرهم من طوائف الضلال، وهذا ليس موضوعنا وإنما نأخذ منه القَدْر المشترك بين هذه الطوائف وبين المتأخرين الذي لجّجوا في بحور
(1) توحيد الخالق ص181.
الظلمات إنه طلب العلم والهدى من غير مضانَّة لا مما ضُمِنَ إضلاله فليس بعد الحق إلا الضلال، كذلك احتقار السلف الصالح ولاسيما الصحابة رضوان الله عليهم، وأي شيء أهل الوقت بجانب الصحابة رضوان الله عليهم، لقد فتح الله عليهم من العلم بالله وبمخلوقاته مالا يشاركهم فيه مشارك وحسب من جاء بعدهم اقتفاء آثارهم، وإن من يستقرء تاريخ الأمة بعدهم يرى أن كل من كان إلى منهجهم أقرب ولِهَدْيهم ألزم كان إلى الفلاح أقرب.
وبعكس ذلك تماماً من غيّر وبدّل، وعن طريقهم وسَمْتهم تحوّل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.