الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دوران الأرض
ولما أن صاحب كتاب توحيد الخالق وأمثاله رضوا أصول القوم من السديم وذراته وانفصال ما انفصل عنه من الكواكب التي بينها الأرض صار لزاماً لهم المتابعة في المسير وإلا انخرق النظام، ولذلك قال صاحب كتاب توحيد الخالق ما قال عن دوران الأرض تبعاً لأصول المقلِّدين في السديم.
أما من يقول بثبات الأرض فلا يُقِر بهذا السديم أصلاً فضلاً عن دورانه وذرّاته، وإنما يقف حيث أوقفه الله ورسوله بأن الكون خلقه الله من مادة وهي (الدخان) المذكور في القرآن، وأن الأرض هي أسفل العالَم ومركزه وأنها كما قال تعالى:(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء) وقوله تعالى: (أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً) الآية. وقد وضّحتُ ذلك ولله الحمد في (هداية الحيران في مسألة الدوران).
والمراد هنا أن يقول في كتابه (توحيد الخالق) ص33: وإذا تأملت إلى هذه الأرض التي تسكن فيها وجدتها تسير مع المجموعة الشمسية كأنها على عِلم بِدَوْرها وعلاقاتها مع غيرها فكان ذلك الإتزان في السير، ونحن نعلم أن الأرض صماء عمياء جامدة لا عقل لها ولا تدبير ولا علم،
كل ذلك شاهد قائم يصيح في أهل العقول قائلاً: إن ربكم قد أحاط بكل شيء علماً. انتهى.
هكذا صاحب كتاب توحيد الخالق يُقرّر نظريات الملاحدة الباطلة ويُثبت الخالق وأنه خلق الأرض على مقتضى نظريات الكفرة، وهذا ضلال مبين ويحسب هو وأمثاله أنهم بذلك يُحسنون صُنْعاً.
إن الذي يعتقد دوران الأرض يستلزم اعتقاده نشأة الكون على مقتضى زعم الملاحدة في السديم، وهذا يجرّه حتماً إلى اعتقاد المجرات المزعومة في الفضاء الذي لا ينتهي، وقد تقدم بيان المجرات من كلام صاحب كتاب توحيد الخالق في قوله تعالى:(فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) وكلامه الخيالي فيها كما يزعم الملاحدة، وإنما يُفارقهم بإثبات الخالق.
فيقال له أنت اثبتَّ وجود الخالق على مقتضى فضاء لا ينتهي فأين مكان هذا الخالق وأين هو وأين سمواته المبنية ذات الأبواب والتي ليس لها فطور والتي تنشق يوم القيامة لنزول الملائكة كما قال تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً).
ونحن نقرأ في سبعة مواضع من القرآن (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فأين هذا العرش؟
إن اعتقاد فضاء لا ينتهي لا يتفق معه اعتقاد وجود ما تقدم ذكره.
فإذا قالوا: السموات والعرش والرب فوق هذا كله، قيل لهم: هل تقولون إن السموات السبع والعرش العظيم شيء ثابت مستقر وأن السماء بناء حقيقة كما في آيات عديدة من القرآن أم أنها دائرة سابحة مع المجرات.
إن قلتم أن هذه المخلوقات العظيمة من السموات السبع والعرش العظيم ثابتة انتقض غَزْلكم وبطلت نظرياتكم من سديمها إلى مجراتها، لأن السموات بناء كروي محيط بالأرض من كل جانب، وبعضها في جوف بعض كما أن الأرض في جوف السماء الدنيا المباشرة لنا القريبة منا، وقد تقدم ذكر الإجماع على كرويّة السماء.
وإن قلتم: إنها تدور مع المجرات جئتم ببهتان عظيم حيث جعلتم عرش الرحمن يدور به ولم تميزوه عن سائر الكواكب مع أنه عظيم مجيد كريم والرب سبحانه فوقه فهل يدور الرب وعرشه مع مجراته أم ماذا؟ تعالى الله علواً كبيراً عن هذا الضلال المبين.
كذلك تورد عليكم ظاهرة العلو والسفول، فمن المعلوم ولله الحمد في عقيدة أهل الإسلام أن الرب سبحانه هو العلي الأعلى وأنه فوق مخلوقاته عالٍ عليها بذاته مستوٍ على عرشه، فإن كان يدور مع مجراته المزعومة فلا يكون هو الأعلى بل يكون مرة أعلى ومرّات أسفل تعالى الله وذلك بحكم الدوران والتقلّب المزعوم، وإن كانت السموات ثابتة
والعرش ثابت والرب مستو على عرش ثابت تحمله الملائكة وهو سقف العالَم كله والجنة تحته بطلت خيالاتكم.
وإن قلتم: نقول: السموات والعرش والجنة والرب فوق ولا نفصل قيل لكم: هذا مُفصّل بالكتاب والسنة ومبيّن ومُوَضح وكأن المؤمن يراه بعينه بل درجة الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه) كما في الحديث الصحيح (1)، فهل نَدَعُ ما جاء به نبينا لِما جاءت به المعطلة؟.
ليعلم من ضلّ عن ربه أن القلب له وِجّهة يتوجه إليها وقبلة يستقبلها هو مفطور على ذلك، والشريعة تفصل ذلك، فوِجْهة القلب وقبلته جهة العلو إلى ربه معبوده كما أن قبلة بدنه في الصلاة بيته سبحانه، ولذلك فالعلو والسفول ثابت في الكون بخلاف نظريات الملاحدة المضلّة فلا ثبات فيها للعلو ولا للسفول وإنما حركات الدوران مستمرة وبسرعة هائلة ومن هنا يأتي الضلال عن ذي الجلال.
وما أسرع ما يقع من صَدّق هذه النظريات في مذهب وحدة الوجود بحيث يكون الرب عنده هو المخلوقات نفسها، فهذا الحلول العام أو يقع في الحلول الخاص بأن يحلّ الرب في بعض الأعيان.
لأن القلب مفطور على محبة خالقه وطلبه وإرادته فإذا جال في الفضاء الذي لا حَدّ له لم يَرَ إلا ملايين من المجرات متناثرة في فضاء لا ينتهي وكواكب دائرة بسرعة هائلة فأين الله؟ كيف والكون لا يزال
(1) رواه البخاري (1/ 27) ومسلم (1/ 37) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل المشهور.
يتسع بزعمهم.
إن الملاحدة ومن يُقَلّدهم إن أثبتوا سموات سبع شداد طباق مالها من فطور ولها أبواب والكرسي والجنة والملائكة والعرش وربه فوقه، إن أثبتوا ذلك كما ورد في الكتاب والسنة والإجماع، وقد تقدم بيان ذلك كله، إن أثبتوه صار للفضاء حداً ينتهي إليه والذي لا نسبة بينه وبين فضائهم لصغره وضيقه وهو الفراغ الذي بين جرم السماء وجرم الأرض.
وأنا أقول: صغره وضيقه بالنسبة لفضائهم المتخيَّل والذي لا وجود له خارج أذهانهم.
وإذا صار للفضاء حداً ينتهي إليه فإما أن تصطدم مجراتهم ببناء السماء وبالكرسي والعرش وبالجنة أو أنه لا مجرات إلا في خيالات مظلمات، والمجرة واحدة وهي نجوم صغيرة بالنسبة لغيرها من النجوم والتي نراها بعيوننا وكأنها سحاب رقيق تَشقه فجوة مستطيلة كمجرى النهر.
وقد بيّنت في (هداية الحيران) أن السفر إلى هذه المجرات خطْفة شيطانية وسفر خيالي.
والعجب من صاحب كتاب توحيد الخالق فقد تكلم في مقام الإحسان فقال: (المقام الأول وهو أعلاهما: أن تعبد الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة وهو أن يتنوّر القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة بالعرفان
حتى يصير الغيب كالعيان، فمن عبدَ الله عز وجل على استحضار قربه منه وإقباله عليه وأنه بين يديه كأنه يراه أوجب له ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم). انتهى ص337.
يقال له: أين هذا الرب الذي كأن العبد يراه؟.
إن كلامك في مجرات الملاحدة وفضائهم الذي زعمت أن الله خالقه يُضلّنا ضلالاً بعيداً عن وجود الله فضلاً عن أن نعبده سبحانه وكأننا نراه.
وكأن صاحب كتاب توحيد الخالق تَوَلّج في هذه الظلمات وما عرف تعارضها وتناقضها مع ما جاء في الكتاب والسنة، فلَوْ راجع الأمر قبل الفوات لكان خيراً له لأن كتبه مبثوثة في كل مكان والشباب خاصة قد علمتُ أنهم يقتنون كتبه ويقرءون له كثيراً لأنه يتكلم في علومهم.
والمقصود أن دوران الأرض ظلمة بين ظلمتين الظلمة الأولى السديم الذي تفرّع منه الزعم بأن الأرض تدور، والثاني المجرات التي تفرّعت من هذا الدوران.
ومن العجائب أن أصبح هذا الدوران عند كثير من أهل الوقت من المسلّمات التي لا يُنازع فيها إلا جاهل، والسّر في كون إبليس أعطاها كل هذه العناية والرعاية هو أن نفي دورانها يهدم نظريات الملاحدة
ويجتثها من أصولها حيث تبطل نظرية السديم ونظرية المجرات وما يتبع ذلك من الضلال الذي يصعب حصره.
وأنا تحدّيت كل أحد بالمباهلة في عِدّة مواضع على أن الأرض ثابتة.
قال محمد متولي الشعراوي في (الأدلة المادية على وجود الله): ولكن الحق سبحانه وتعالى قال: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) وما دام الله هو الذي جعل فلا بد أن يكون ذلك قد حدث ساعة الخلق، فأوجد الليل والنهار خلفة على الأرض ولكننا كما أوضحنا، فهذه هي البدايات، ولكن الله يقول لنا: إن في ساعة البداية كان الليل والنهار خلفة، إذن فلا بد أن يكون الليل والنهار قد وجدا معاً ساعة الخلق في الأرض، بحيث أصبح كل منهما خلفة للآخر، فلم يأتي النهار أولاً ثم خلفه الليل، لأنه في هذه الحالة لا يكون النهار خلفة بل يكون بداية، ولم يأت الليل أولاً ثم يخلفه النهار لأنه في هذه الحالة لن يكون الليل خلفة بل يكون بداية ولا يمكن أن يكون الليل والنهار كل منهما خلفة للآخر إلا إذا وجدا معاً ونحن نعلم أن الليل والنهار يتعاقبان علينا في أي بقعة من بقاع الأرض، فلا توجد بقعة هي نهار دائم بلا ليل، ولا توجد بقعة هي ليل دائم بلا نهار، بل كل بقاع الأرض فيها ليل وفيها نهار.
(
ولو أن الأرض ثابتة لا تدور حول نفسها، ووجد الليل والنهار معاً ساعة الخلق فلن يكون خلفة ولن يخلف أحدهما الآخر، بل يظل الوضع
ثابتاً كما حدث ساعة الخلق، وبذلك لا يكون النهار خلفة الليل ولا الليل خلفة النهار، ولكن لكي يأتي الليل والنهار يخلف كل منهما الآخر، فلابد أن يكون هناك دوران للأرض لتحدث حركة تعاقب الليل والنهار، فثبوت الأرض منذ بداية الخلق لا يجعل الليل والنهار يتعاقبان، ولكن حركة دوران الأرض حول نفسها هي التي ينتج عنها هذا التعاقب أو هذه الخلفة التي أخبرنا الله سبحانه وتعالى بها إذن فقول الحق سبحانه وتعالى:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً) يحمل معنيين المعنى الأول: أنهما خلقا معاً، فلم يسبق أحدهما الآخر، وهذا إخبار لنا من الله سبحانه وتعالى بأن الأرض كروية، والمعنى الثاني: أن الأرض تدور حول نفسها، وبذلك يتعاقب الليل والنهار).
أنظر كيف تُغضب معاني كلام الله لِمُجاراة هذه العلوم الضالّة المضلّة يقول: (إذن فلا بد أن يكون الليل والنهار قد وُجِدا معاً ساعة الخلق في الأرض بحيث أصبح كل منهما خلفة للآخر، ثم يقول مجاراة لعلوم القوم: ولو أن الأرض ثابتة لا تدور حول نفسها وَوُجد الليل والنهار معاً ساعة الخلق فلن يكونا خلفة ولن يخلف أحدهما الآخر بل يظل الوضع ثابتاً كما حدث ساعة الخلق).
يقال له: الليل والنهار قد وُجدا معاً ساعة الخلق وصار كل واحد منهما خلفة للآخر في نفس الوقت وحصل هذا والأرض ثابتة فما لنا ولهذيان المعطلة؟.
فالرب سبحانه خلق الأرض أولاً قبل السماء وما فيها من الشمس والقمر والنجوم قال تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
قال ابن كثير رحمه الله: فذكر أنه خلق الأرض أولاً لأنها كالأساس والأصل أن يُبدأ بالأساس ثم بعده السقف كما قال عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ). انتهى.
إن علوم الملاحدة ومن قلّدهم ليس فيها للكون أساس ولا سقف فما كان اليوم أسفل يكون غداً أعلى وهكذا.
والمراد هنا أن الرب عز وجل لما خلق الأرض خلق السموات بما فيهن من الشمس والقمر والنجوم، والشمس خلقها من البداية في
السماء جارية دائرة على كرة الأرض، كذلك القمر والنجوم، فهي سراج أهل الأرض يدور عليهم لتعاقب دَوْلتي الليل والنهار فمِن حين خلق الله الشمس وصل نورها إلى الأرض فهذا النهار.
ومعلوم أنها ليست تغمر الأرض كلها بالضياء وإنما نصفها فما غمرته بضيائها صار مقابِلُهُ ظل كرة الأرض وهو الليل، وحيث أن الشمس من البدء خلقها الله جارية في كرة السماء فبذلك جعل الله الليل والنهار خِلْفة، يأتي هذا فيذهب هذا، وما عدا ذلك فهذيان الملاحدة ومُقَلِّديهم.