الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام في القدر
ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق تحت عنوان: (التعذيب والكتابة في اللوح): ويقول بعض المرتابين: إذا كان الله قد كتب علينا في اللوح أننا سنعمل الشر فلماذا يعاقبنا على ما قد كتب علينا؟.
ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: والجواب واضح وهو أن علم الله السابق الذي كتب في اللوح لم ينزل إلى الأرض لإرغامنا على فعل الشر والخير حتى نحتج بهذا السؤال، فليس لعلم الله السابق وما كُتِب في للوح قوة تسوقنا مُكرَهين إلى فعل الأشياء، بل علم الله السابق صفة انكشاف لما سنعمل بحريتنا لا صفة تغير لأفعالنا، وكل إنسان منا يشعر تمام الشعور أنه يمارس عمله بحرية تامة؛ ويشهد بذلك ما في جسم الإنسان من عضلات إرادية تعمل تحت إرادة الإنسان، وعضلات لا إرادية هي تلك التي لا دخل للإنسان في توجيهها، كعضلة القلب، وعضلات المعدة، ولذلك لا ينبني على أعمال هذه العضلات اللاإرادية أي ثواب أو عقاب.
فإذا علمت أن شخصاً قد مشى إلى عمل من خير أو شر فهل علمك يؤثر فيما عمله الشخص المذكور؟ كذلك فإذا فعلت خيراً مثلاً،
وكتب شخص ما فعلت من خير، فهل يقول أي عاقل: إن تلك الكتابة هي التي أرغمتك على فعل الخير؟ كلا، إن كتابة الشخص ليست إلا تسجيلاً لما فعلت، والكتابة في اللوح ليست إلا تسجيلاً لما ستفعل باختيارك، وليس من فرق بين التسجيل لفعلك قبل حدوثه، والتسجيل بعد حدوثه إلا لذلك الفرق بين علم الله الواسع الشامل السابق، وعلم الإنسان المحدود اللاحق. انتهى (1).
كلام صاحب كتاب توحيد الخالق في القدر هنا خوض بلا علم بل بجهل وضلال، والخوض بشأن القدر حاصل في هذه الأمة والأمم قبلها، ومعلوم أن الإيمان بالقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان والكلام فيه مزلّة ومضلّة إلا من وُفّق للعلم به على مقتضى مذهب أهل السنة والجماعة.
فقول صاحب كتاب توحيد الخالق: (عِلم الله السابق الذي كتب في اللوح لم ينزل إلى الأرض لإرغامنا على فعل الشر والخير حتى نحتج بهذا السؤال فليس لِعلم الله السابق وما كُتب في اللوح قوة تسوقنا مكرهين إلى فعل الأشياء) كلام ركيك، حيث لم يجعل لعلم الله تأثيراً إلا أنه كاشف فقط حيث قال بعد ذلك:(بل علم الله السابق صفة انكشاف لما سنعمل بحريتنا لا صفة تغيير لأفعالنا) هذا كلام جاهل بالقدر،
(1) توحيد الخالق، (ص368).
فالعلم السابق ليس كاشفاً لما سيعمل العباد فهذا يُشعر بمذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد يخلق فعله اسْتقلالاً بل علم الله الذي كتبه في اللوح مُقارن لإرادته سبحانه أن يقع هذا المعلوم كما أراد، فقط أن علمه وإرادته سبحانه متقدمة وقوع الفعل من العباد كما تقدم ذلك وجودهم، فإذا وُجدوا أظهر معلومة فيهم كما كتبه علماً في اللوح فعملوا على مقتضى ما عَلِم وأراد وكَتب، فهذه ثلاث مراتب:(العلم) و (الإرادة وهي المشيئة) و (الكتابة) بقيت مرتبة رابعة إذا علمها العبد واعتقادها يحل الإشكال ويتبيّن الحق من الضلال، وهي مرتبة (خلق الأفعال) وهذه مراتب القدر الأربع من لم يُحْكمها اضطرب في شأن القدر، فنفي أن يكون لعلم الله السابق قوة تسوقنا إلى فعل الأشياء، هذا من جنس مذهب القدرية.
أما قوله: (مكرهين) فنفيه الإكراه هنا يزيد الأمر وضوحاً وكأنّ العبد يفعل بإرادة وقدرة مستقلة وهذا باطل وهو مذهب القدرية.
وأهل السنة يثبتون خلق الله سبحانه لأفعال العباد وينفون أن يكون ذلك إكراهاً أو إرغاماً أو جبراً إذ العبد يفعل بقدرة واختيار وإرادة، فهذا يُخرجه من أن يوصف بأنه مكره ومجبر، والله سبحانه هو الخالق لفعله بأن جعله قادراً مختاراً مريداً، وهذا يخرجه من أن يوصف بأنه خالق لفعله.
فقوله: (لما سنعمل بحريّتنا، وقوله: وكل إنسان منا يُشعر تمام الشعور أنه يُمارس عمله بحريّة تامة) يُشعر أن العبد يخلق فعله وهذا إثبات خالق مع الله، وخلق الله لأفعالنا لا ينفي أننا نعمل بحريتنا واختيارنا إنما ينفي أن تكون هذه الحرية والاختيار اسْتقلالاً منا إذْ أن حرّيتنا واختيارنا مخلوق ذلك كله لله فيجعلنا نختار ما يُريد بحريتنا.
أما تشبيه صاحب كتاب توحيد الخالق إيقاع العبد عمله بالعضلات الإرادية وغير الإرادية ثم تمثيله بأن عِلْم شخص بعمل شخص ليس له تأثير بذلك العمل، هذا تشبيه علم الرب عز وجل بعلم عباده وهو باطل والفرق أن الرب سبحانه يعلم ما سيفعله العبد لأنه قد أراده وعلمه وكتبه ويخلقه على مقتضى علمه وإرادته وكتابته
…
أما علم الشخص بعمل شخص آخر فغير مؤثر بخلاف علم الرب سبحانه بعمل العبد فإنه سابق في التقدير مؤثر في الإيجاد.
فإذا قيل: هذا هو الجبر والإكراه والإرغام بعينه، قيل: ليس كذلك، فالمجبور مسلوب الإرادة والاختيار كالأشجار المحرَّكة بالرياح والمرتعش، أما العبد فيعمل بإرادة واختيار تخرجه عن مقام الجبر وإن كان الرب سبحانه هو خالق إرادته واختياره.
والمراد أن صاحب كتاب توحيد الخالق تكلم في علم الله السابق وكتابته وأهمل الإرادة وخلق الأفعال، وهذا تخبيط.
ثم قال صاحب كتاب توحيد الخالق: وقد يسأل مرتاب قائلاً: إذا كان الله قد علم أني سأفعل شراً لماذا لم يمنعني عنه؟.
ثم قال: والجواب: لو عرف هذا المغرور حقيقة طلبه لكف عن الطلب، ولعَلِم بسخف اعتراضه على خالقه الحكيم.
إن السائل لهذا السؤال يريد من الله أن يجبره على فعل الخير، وترك الشر، ومعنى ذلك: أن يسلب الله الإنسان أهم الخصائص الإنسانية، وهي خاصة الإرادة التي تفعل بها ما تشاء لأن الله إذا أرغم الإنسان على فعل الخيرات، وترك الشرور، فذلك معناه: سلب الإرادة والاختيار وتحويل الإنسان إلى آلة كالجماد الذي يتحرك دون إرادة منه أو تدبير، ولقد كرَّم الله بني آدم بمنحهم الإرادة وحرية الاختيار، وإن كان سبحانه يعلم ما سيفعل الخلق إلا أنه لم يشأ أن يعذبنا على ما يعلم منا، بل شاءت إرادته أن يكون الجزاء بعد فترة يظهر فيها العمل، وتشهد به الأرض والملائكة والجوارح والثقلان بما لا يبقى معه أي سبيل للإنسان إلى تكذيبه أو إنكاره، وهل يستطيع كافر اليوم أن ينكر أنه يمارس أعماله بغير إرادة منه؟! وهل يستطيع كافر أن ينكر علم الخالق بما خلق؟ (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(1).
(1) الملك، آية:14.
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)(1). (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)(2). وما علينا إذا لم يقتنع المعاندون بعد ظهور الحق الأبلج، فقد قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم:(إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ)(3). (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)(4). فيفترون بقولهم: إذا كان الله يهدي من يشاء فلماذا يعذبنا وقد أضلّنا؟ ولوْ تدبّر هؤلاء الزائغون آيات القرآن لوجدوا الجواب واضحاً جلياً، ولعلموا أنه لا سلطان لأحد على ربه، وأن معنى ذلك: هو أن الله يفعل ما يشاء لا ما يشاء غيره، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء لكن ربنا هو العدل الحكيم سبحانه فلا يهدي إلا من عمل ما يستحق به الهداية، قال تعالى:(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً) وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) كما أن مشيئة الله العامة لا تُضل إلا من يستحق الضلال، قال تعالى:(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ). انتهى (5).
صاحب كتاب توحيد الخالق في جوابه هذا الطويل مثل كلامه المتقدم اقتصر على الكلام في المشيئة والعلم وليس يذكر خلق الأفعال وهو
(1) غافر، آية:19.
(2)
طه، آية:7.
(3)
الشورى، آية 48.
(4)
القصص، آية:56.
(5)
توحيد الخالق، (ص369).
مذهب أهل السنة في القدر، وللبخاري رحمه الله صاحب الصحيح كتاب في خلق الأفعال، ولا يمكن أن تحصل معرفة القدر إلا بمعرفة مراتبه الأربع، وقد تقدم ذكرها، وكل مرتبة منها عليها أدلّة الكتاب والسنة كالشمس.
فقول السائل: إذا كان الله قد علم أني سأفعل شراً لماذا لم يمنعني منه؟ هذا من جنس ما ذكر الشهرستاني في كتابه (الملل والنِّحل) قال: إعلم أن أول شبهة وقعت في الخلق شبهة إبليس، ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الرأي، واستكباره بالمادة التي خُلق منها، وهي النار على مادة آدم، وهي الطين.
وتشعّبت عن هذه الشبهة سبع شبهات: صارت هي مذاهب بدعة وضلالة، وتلك الشبهات مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة، ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع عنه.
ثم قال في الشبهة الأولى: قد عَلِم قبل خلقي أي شيء يصدر عني ويحصل، فلِمَ خلقني أولاً؟ وما الحكمة في خلقه إياي، ثم ذكر الشهرستاني باقي الشبه.
وقد أوردها ابن القيم في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)(1).
قال ابن القيم: فهذه القصة في المناظرة هي نقل أهل الكتاب، ونحن لا نصدقها ولا نكذبها، وكأنها والله أعلم مناظرة وضعت على لسان إبليس، وعلى كل حال فلا بد من الجواب عنها سواء صدرت عنه أو قيلت على لسانه فلا ريب أنها من كيده، وقد أخبر تعالى:(إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) فهذه الأسئلة والشبهات من أضعف الأسئلة عند أهل العلم والإيمان وإن صعب مَوْقعها عند من أصّل أصولاً فاسدة كانت سَدّاً بينه وبين ودّها، وقد اختلفت طرق الناس في الأجوبة عنها.
فقال المنجمون وزنادقة الطبائعيين والفلاسفة: لا حقيقة لآدم ولا لإبليس ولا لشيء من ذلك، بل لم يزل الوجود هكذا (إعلم أن أرباب العلوم الحديثة هم ورثة هؤلاء).
ولما ذكر قول هؤلاء ذكر قول الجبرية والقدرية ثم قال: وقالت الفرقة الناجية حزب الله ورسوله، ثم أتى رحمه الله بعلم قد لا يُوَفق له كل أحد فمن أراده فليراجعه في موضعه.
والقصد هما أن الشبهة التي أورد صاحب كتاب توحيد الخالق هي ميراث إبليسي، فالرب سبحانه خلق الخلق وقَدّر سعادتهم وشقاوتهم قبل
(1) مختصر الموصلي 1/ 292.
خلقهم وهو أعلم بمن يصلح للهدى ممن لا يصلح وهو حكيم في كل ما يفعل.
والإحتجاج بالقدر مردود وهو ميزان إبليسي فقد قال إبليس: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) أما آدم عليه السلام فقال: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فمن احتج بالقدر على معصيته إلتحق بإبليس، ومن أقرّ بظلمه لنفسه إلتحق بأبيه آدم عليه السلام، لأن القدر يؤمَن به ولا يُحْتج به فقوله: لماذا لم يمنعني؟.
يُقال: الرب سبحانه لم يُجْبرك حتى تقول: لماذا لم يمنعني؟ بل أعطاك إرادة واختياراً ففعلت ما فعلت بإرادتك واختيارك، صحيح أن إرادتك واختيارك كل ذلك مخلوق، ولكنه يُخرجك من أن تكون مُجْبراً على فعلك، والقدر سِرّ الله في خلقه، وقد اسْتأثر منه بعلمٍ ما اطّلع عليه ملَك مقرّب ولا نبي مُرْسَل.
ولو كنتَ صادقاً في عبوديتك لإلهك الحق لعلمتَ أنه لا يَتَوَجّه إليه الاعتراض، فهو سبحانه أحكم الحاكمين.
وهو سبحانه أراد إرادة كونية قدرية أن تفعل الشر لعلمه فيك السابق وحكمته التي يضع فيها الشيء مَوْضعه.
وأراد إرادة دينية أن تفعل الخير لكنك غير قابل لذلك، وبما أنه خلق نفسك ونفوس البشر كلهم متحركة بالإرادة، فالتي لا تتحرك بإرادة الخير لا بد أن تتحرك بإرادة الشر.
والكلام بالقدر ليس هو موضوعنا هنا لكني رأيت صاحب كتاب توحيد الخالق لم يُحسن جواب تلك الشّبه فأشرت إلى ذلك إشارة، ومن أراد الشفاء في شأن القدر فعليه بشفاء العليل.