المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وفي أوائل القرن الحادي عشر الهجري والسابع عشر الميلادي أصيبت - القول المبين في سيرة سيد المرسلين

[محمد الطيب النجار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الناشر

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: بين يدي السيرة النبوية

- ‌مدخل

- ‌البيت العتيق

- ‌مدخل

- ‌بدء بنائه ومحاولات تجديده:

- ‌عام الفيل والطير الأبابيل:

- ‌بقية الأخبار عن عمارة البيت العتيق:

- ‌الحجر الأسود:

- ‌العرب في مكة

- ‌العرب المستعربة في مكة

- ‌الجراهمة والخزاعيون في مكة:

- ‌قصي بن كلاب وأثره في قريش:

- ‌قصة الذبيحين:

- ‌المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المجتمع العربي قبيل ظهور الإسلام:

- ‌اليهودية والمسيحية في بلاد العرب قبل الاسلام

- ‌مدخل

- ‌اليهودية في بلاد العرب:

- ‌المسيحية في بلاد العرب

- ‌الفصل الثاني: من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدء الدعوة الاسلامية

- ‌مبحث من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌رضاعه:

- ‌قصة حليمة السعدية:

- ‌عهد الطفولة والشباب:

- ‌زواجه من السيدة خديجة

- ‌بعض البشائر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل:

- ‌حياة التأمل:

- ‌في غار حراء:

- ‌الفصل الثالث

- ‌من بدء الدعوة إلى الهجرة النبوية

- ‌مدخل

- ‌موقف قريش من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:

- ‌هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة:

- ‌إسلام حمزة وعمر:

- ‌قصة الغرانيق:

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة:

- ‌مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب

- ‌عام الحزن:

- ‌خروجه إلى الطائف:

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌السموات السبع:

- ‌لقاء الأنبياء:

- ‌بيعتا العقبة:

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌بيعة العقبة الثانية:

- ‌اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بمسلمي يثرب:

- ‌الفصل الرابع:

- ‌الهجرة النبوية وتأسيس الدولة الإسلامية

- ‌هجرة المسلمين إلى المدينة:

- ‌المؤامرة الكبرى:

- ‌بدء الهجرة النبوية:

- ‌في غار ثور:

- ‌قصة أم معبد

- ‌حديث سراقة:

- ‌بناء الدولة الإسلامية:

- ‌بناء المسجد

- ‌المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

- ‌المعاهدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود

- ‌تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يضع أساس النظام الاقتصادي:

- ‌الفصل الخامس: القتال في الاسلام

- ‌القتال في الاسلام وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفتح الأعظم

- ‌مدخل

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌السرايا قبل بدر:

- ‌وسرية عبيدة بن الحارث

- ‌غزة بدر الكبرى

- ‌في ميدان المعركة:

- ‌مشهد رهيب:

- ‌اللجوء إلى الله:

- ‌دور الملائكة في يوم بدر:

- ‌موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسرى:

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة السويق:

- ‌استعداد قريش وخروجها للمعركة:

- ‌موقف الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين:

- ‌بدء المعركة:

- ‌‌‌صور من البطولة والإيمان

- ‌صور من البطولة والإيمان

- ‌الرماة يتسببون في تغيير الوضع:

- ‌النتيجة في غزوة أحد:

- ‌دور إيجابي لدرء الخطر:

- ‌أصابع اليهود

- ‌غزوة الأحزاب "الخندق

- ‌موقف المسلمين في المدينة من الأحزاب:

- ‌حفر الخندق:

- ‌من المعجزات النبوية:

- ‌ألا إن في هذا الحادث العجيب لعبرة

- ‌الأحزاب أمام الخندق

- ‌موقف رائع لعلي بن أبي طالب

- ‌مؤامرة بني قريظة على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين

- ‌الخدعة في الحرب:

- ‌الفرج بعد الشدة:

- ‌عاقبة الظلم ومصير بني قريظة:

- ‌من العبر في غزوة الأحزاب

- ‌اليهود بين التوراة والتلمود

- ‌من تعاليم التلمود

- ‌بين يهود الأمس ويهود اليوم:

- ‌غزوة بني المصطلق

- ‌آفة النفاق:

- ‌مثل رائع من الإيمان:

- ‌حديث الإفك:

- ‌عمرة الحديبية وعمرة القضاء

- ‌الحنين إلى مكة:

- ‌خروج الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين للعمرة وموقف قريش:

- ‌حابس الفيل:

- ‌تبادل الرسل بين قريش ومحمداً صلى الله عليه وسلم

- ‌بيعة الرضوان:

- ‌صلح الحديبية:

- ‌استثناء النساء من شروط الصلح:

- ‌عمرة القضاء

- ‌من صلح الحديبية إلى فتح مكة

- ‌مدخل

- ‌غزوة خيبر

- ‌النتيجة في غزوة خيبر:

- ‌كتب الرسول إلى الملوك والرؤساء

- ‌مدخل

- ‌كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم:

- ‌موقف هرقل من كتاب الرسول:

- ‌سرية مؤتة

- ‌خروج الجيش:

- ‌العبرة من غزوة مؤتة:

- ‌الفصل السادس: غزوات الرسول

- ‌يوم الفتح

- ‌مدخل

- ‌غزوة الفتح

- ‌سبب الغزوة:

- ‌موقف غريب لصحابي جليل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في الطريق إلى مكة:

- ‌الجيش يدخل مكة:

- ‌تطهير الكعبة من الأصنام:

- ‌غزوة حنين

- ‌مدخل

- ‌موقف المسلمين:

- ‌الانتصار بعد الهزيمة:

- ‌حصار الطائف:

- ‌تقسيم الغنائم:

- ‌موقف الأنصار بعد توزيع الغنائم:

- ‌إسلام هوازن:

- ‌عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:

- ‌غزوة تبوك وما تلاها من أحداث

- ‌مدخل

- ‌دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد، وإخلاص الصحابة:

- ‌مسير الحملة:

- ‌موقف أمراء الحدود:

- ‌الثلاثة الذين خلفوا:

- ‌بعض العبر في غزوة تبوك:

- ‌عام الوفود

- ‌مدخل

- ‌هدم اللات:

- ‌حج أبي بكر

- ‌الفصل السابع:‌‌ حجة الوداعووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌ حجة الوداع

- ‌وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌موقف المسلمين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل الثامن: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل التاسع: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: وفي أوائل القرن الحادي عشر الهجري والسابع عشر الميلادي أصيبت

وفي أوائل القرن الحادي عشر الهجري والسابع عشر الميلادي أصيبت الكعبة بسيول جارفة وأمطار شديدة صدعت جدرانها حتى أخذت حجارتها تتساقط وحتى فزع الناس واضطربوا، فأرسل والي مصر -حينئذٍ- واسمه محمد باشا الألباني جماعة من المهندسين والبنائين المصريين فهدموا بقية الجدران وبنوا الكعبة من جديد.

وربطوا الحجر الأسود بسوار متين من الفضة حتى لا يتآكل على مر السنين وهذا البناء هو القائم الآن في مكة المكرمة، وهو الذي أسهمت فيه مصر بالحظ الأوفر وهو يبلغ من الارتفاع خمسة عشر مترًا، وطول جداره الشمالي 9.92 مترًا والجنوبي 10.25 مترًا والشرقي 11.88 مترًا والغربي 12.25 مترًا.

ويوجد الباب بالجدار الشرقي ويرتفع عن الأرض بمقدار مترين، وعتبة الباب ومصراعاه مصفحة بصفائح من الفضة المطلية بالذهب، ويلاصق جدران الكعبة من الخارج بناء من الرخام -يسمى الشاذروان- وقد أقيم لتقوية الجدران، وفي الركن الجنوبي الشرقي يوجد الحجر الأسود، وهو الذي يبدأ منه الطواف ويرتفع عن الأرض مترًا ونصف متر.

ص: 33

‌الحجر الأسود:

ويقتضينا الحديث عن المسجد الحرام أن نخصص كلمة عن الحجر الأسود وأن نلقي الأضواء على ما ورد فيه من آثار، سائلين الله أن يكشف لنا طريق الحق، وأن يجنبنا شر الزلل.

ص: 33

ولقد وردت آثار كثيرة في فضل هذا الحجر، وفيها ما يدل على أنه من الجنة، ولا بد لنا أن نقف أمام هذه الروايات وقفة الفاحص المتأمل، حتى يمكن أن يظهر الحق أمامنا وحتى يكون حكمنا متمشيًّا مع روح العدل والإنصاف، فلقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحجر والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس الله نورهما، ولولا أن الله طمس نورهما، لأضاءا ما بين المشرق والمغرب"1.

وفي رواية أخرى2: "لأضاءا ما بين المشرق والمغرب ولأبرآ من استلمهما من الخرس والجذام والبرص".

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسوَّدته خطايا بني آدم"3.

ويذكر العلامة تقي الدين الفاسي رواية أخرى عن ابن عباس تتعارض مع

1 أخرجه أحمد في "المسند" 2/ 213، والترمذي 878، وابن خزيمة في صحيحه 2732 وابن حبان كذلك 3710، والحاكم في "المستدرك" 1/ 456، والبيهقي في "السنن الكبرى" 5/ 75، وعبد الرزاق 8921 وجماعة.

وقد اختلف العلماء فيه، فصححته طائفة، وضعفته أخرى، وقالت ثالثة: الصحيح أنه موقوف على عبد الله بن عمرو كأبي حاتم مثلًا في "العلل" رقم 899 لولده.

فأما قول ضعفه مطلقًا فليس بجيد لمجيئه من عدة طرق ضعيفة تقتضي التحسين.

وكذا التصحيح، ليس بجيد فالحديث لا يبلغ ذلك، ولكن بقيت علة الوقف قائمة.

فإن كان ابن عمرو لم يأخذ ذلك عن أهل الكتاب، فمثل هذا لا يقال بالرأي، فيرجع لحكم الرفع، وإلا فلا.

2 أخرجها البيهقي في "السنن الكبرى" 5/ 75 من وجهين، اجتماعهما قوي، وله شاهد عن ابن عباس عند الطبراني بسند حسن كما قال المنذري في "الترغيب" 2/ 194.

3 أخرجه الترمذي 877 وقال: حسن صحيح، وابن خزيمة في صحيحه 2733- 2734، وغيرهما، ولفظ ابن خزيمة:"أشد بياضًا من الثلج".

وهو حديث حسن باجتماع طرقه، صحيح باجتماع شواهده.

ص: 34

الرواية السابقة المذكورة عن ابن عباس نفسه إذ يقول: "وإنما غيره الله بالسواد؛ لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة وإنه لياقوتة بيضاء"1.

وهذه الروايات وأمثالها تحمل في طياتها ما يهدمها2. إذا يعارض بعضها بعضًا، ثم هي في ذاتها لا تقوم على أساس ولا تستهدف غرضًا سليمًا3، فأما تعارضها فلأن الروايتين المذكورتين عن ابن عباس تفيد إحداهما أن الحجر كان أشد بياضًا من اللبن ثم اسود بذنوب بني آدم وخطاياهم.

وأما الثانية فإنها تفيد أنه اسود قبل أن يطوف به أحد4، أي أن الذنوب والخطايا لم تغير بياضه إلى سواد، وإنما أراد الله ذلك حتى لا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة حينما يرون الحجر وهو ياقوتة بيضاء.

وأما أنها لا تقوم على أساس، ولا تستهدف غرضًا سليمًا، فلأن قيمة هذا لا تزداد إذا كان من أحجار الجنة ولا تنقص إذا كان من أحجار الأرض، ذلك بأن قيمة الشيء إنما تكون في الجوهر لا في العَرَض، وفي اللباب دون القشور5.

1 هذه الرواية أخرجها الجندي في "فضائل مكة" بسند ضعيف، كما ذكر ابن حجر، ونقل ذلك عنه الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" 4/ 344.

ثم إنه لا تعارض مؤكد بين الروايتين كما ذكر المؤلف وإنما فيه بيان الحكمة التي لأجلها قضى الله تعالى أن تغيره الخطايا وتسوده.

ثم على فرض وجود تعارض -وهو غير موجود- فلا عبرة به؛ لأن من شرط المعارض أن يساوي معارضه في الصحة، لا أن يكون أحدهما صحيحًا والآخر واهيًا، فعندئذٍ لا تعارض.

2 كذا قال، وقد عرفت ضعف ما قاله.

3 هذا من أعجب العجب، وكيف لا يكون حديث فيه بيان فضل الحجر، وعظم أثر الذنوب، وبعث الشوق الكامن لزيارة المقدسات يستهدف غرضًا سليمًا!!.

4 لا أدري من أين استفاد ذلك، وجملة ما فيه أنه غيّره، من غير ذكر وقت التغيير.

5 هكذا يضل العقل إذا سمح للخيال أن يطلق الأسماء والصفات، ويسمى ما يريد قشرًا، ويسمى آخر لبًّا.

ثم كيف يجرؤ مسلم بعد ثبوت النص على رده بمزاعم وافتراضات..... =

ص: 35

فالذهب وسط التبر هو الذهب وسط التراب، والحصى بين اللآلئ الغالية هو الحصى بين الرمال السافية.

والكعبة المشرفة قد بنيت من أحجار الأرض ومع ذلك فهي بيت الله الذي يشع بالهدى والنور، ويسمو على ما في الجنة من بيوت وقصور1، ثم ما هي الحكمة في أن ينزل الله من الجنة ياقوتتين مضيئتين ثم يطمس نورهما؟ إنهما إذن يفقدان خاصيتهما الكريمة وينزلان إلى مستوى الحصى والتراب، أو ما كان الأجدر أن يظلا ياقوتتين مضيئتين ليكونا آية الله الخالدة على الزمن، والمنارة الهادية التي تجلو غواشي الشك وتبدد ظلمات الحيرة2؟ ثم ما هي العلاقة بين

= ولا ينقضي عجبي من رد المؤلف لهذه الروايات جميعها، بهذه السفاسف التي اعتمدها، ولم ينطق بها أحد من علماء المسلمين لمخالفتها قواعد العلم وحكمة التشريع. إلا ما جاء عن بعض الملاحدة كما يقال الحافظ ابن حجر حين قال:

وقد طعن بعض الملاحدة فقال: كيف سودته الخطايا، ولم تبيضه الطاعات.

فأجيب بأن الله تعالى أجرى عادته أن السواد يصبغ ولا ينصبغ وبات في ذلك عظة ظاهرة هي تأثير الذنوب في الحجارة، فالقلوب أولى

"إتحاف السادة المتقين" 4/ 344.

أقول: فهل هذه الموعظة البليغة من القشور.

وهل الإعجاز في نزول حجر من السماء إلى الأرض يختص بالكعبة من القشور.

ثم ما هذه أضحوكة الجوهر والعرض، على أنها تخالف قول المؤلف؛ لأن المشتغلين بالفلسفة يقدمون الجوهر على العرض، والجوهر هنا أصل الحجر، والعرض ما ينبعث منه، فقصة الجوهر والعرض ترد على المؤلف ولا تؤيده.

وما أرى له هنا مثلًا إلا كقول القائل: "فخر عليهم السقف من تحتهم"، فقلنا له: حجة ولا قرآن.

1 وهنا نسأله، هل جاء على هذا بنص صريح صحيح، وإن صح، فما علاقة سمو الكعبة المشرفة، بأن لا يكون فيها حجر من الجنة!!.

2 هذه حكمة يجهلها من لم يعرف مقاصد الشريعة، واسمع هذا النقل الآتي: وقد صح في صحيح البخاري وغيره "1052" من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني رأيت الجنة، فتناولت عنقودًا، ولو أصبته لأكلتم ما بقيت الدنيا

"، الحديث قال الحافظ ابن حجر في الشرح 2/ 541:

وصح عند مسلم عن جابر: "ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل"، ثم قال ابن حجر يعدد الأقوال في حكمة ذلك: وقيل: لأنه لو رآه الناس لكان من إيمانهم بالشهادة لا بالغيب، فيخشى أن يقع رفع التوبة، فلا ينفع نفس إيمانها بعد ذلك

قلت: فهذه حكمة من تلك الحكم فافهم ولا تغلط ولا تغالط.

ص: 36

الياقوت المضيء والإبراء من الخرس والجذام والبرص1؟ وإذا قيل: إن الحجر كان أشد بياضًا من اللبن ثم سودته خطايا الناس وذنوبهم، فلماذا لم يره أحد من الناس في زمن بياضه2؟ ولماذا لا يزداد سواده على توالي الأزمنة والعصور3؟

كل هذه الخواطر التي تجول في النفس تجعلنا ننظر إلى مثل هذه الروايات في حيطة وحذر، ونشك في نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما أنه لم يذكر شيء منها في الصحيحين 4، وحينما ذكر الترمذي الحديث المروي عن عبد الله بن عمرو، قال عنه: إنه حديث غريب5.

1 هاتان صفتان، كما يقال: فلان طويل، شعره أسود، فما علاقة الصفتين!.

2 هل كان ينتظر المؤلف أن يأتيه سند صحيح من لدن إبراهيم عليه السلام!.

ومن يطلب الأسانيد عليه أن يحتج بها، لا أن يطعن بها بالواهيات والمزاعم. وإذا كان صح السند عن المعصوم بأنه كان أشد بياضًا من الثلج، فأي حاجة تبقى بعد لواحد من الناس أن يسأل عن صحة ذلك، ومن رآه!!.

3 وهل كشفت في كل عصر من العصور عليه فعلمت أن سواده لم يزد.

وهل ثمة لون من الألوان، لا سيما الأسود ليس له حد يقف عنده، حتى إذا تجاوزه صار إلى لون آخر.

4 وغالب ما ذكر المؤلف ليس في الصحيحين، أفنشك به؟!.

وصاحب الصحيح لم يدع أن ما ليس عندهما ليس بصحيح، بل نصًّا على وجود أحاديث كثيرة صحيحة ليست عندهما، وهو قول كل علماء الإسلام.

5 وقد قدمنا الخلاف في حديث ابن عمرو، في الرواية الأولى، وأما الرواية الأخرى فقوية، وحديث ابن عباس حسن صحيح، كما نص الترمذي نفسه إن كان المؤلف يقنع بكلام الترمذي.

ثم ليس كل حديث قال فيه الترمذي غريب يعني أنه مردود، وغاية مراد أهل الاصطلاح من قولهم "غريب" يعني أنه جاء من طريق واحدة.

مع أن هذا الحديث جاء من أكثر من طريق، كما نجد ذلك في "سنن البيهقي الكبرى" 5/ 75 لوحدها.

ص: 37

ولا بد لنا إذن أن نتلمس السبيل إلى رواية أخرى لا يتطرق إليها مثل هذا الضعف والوهن1.

ولقد ذكر ابن الأثير في تاريخه2: أن إبراهيم عليه السلام حينما أمره الله ببناء البيت الحرام قال لولده إسماعيل: لقد أمرك الله أن تعينني على بنائه، قال: إذن أفعل. فقام معه، فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ثم قال إبراهيم لإسماعيل: ائتني بحجر حسن أضعه على الركن ليكون للناس علمًا، فأخذ حجرًا من جبل أبي قبيس3.

1 المظنونين.

2 ص 1/ 60-61 عند باب "ذكر عمارة البيت الحرام بمكة".

وكان ابن الأثير يقول:

وقال السدي -أحد التابعين: الذي دله على موضع البيت جبريل، فسار إبراهيم إلى مكة، فلما وصلها وجد إسماعيل يصلح نبلًا له وراء زمزم فقال له: يا إسماعيل إن الله قد أمرني أن أبني له بيتًا.

قال إسماعيل: فأطع ربك.

فقال إبراهيم: قد أمرك أن تعينني

وقد جاءت هذه الواقعة في "صحيح البخاري" 3184 في آخر حديث ابن عباس الطويل في قصة إبراهيم من كتاب الأنبياء.

3 الذي في تاريخ ابن الأثير هنا: "ليكون للناس علمًا، فناداه أبو قبيس: إن لك عندي وديعة. وقيل: بل جبريل أخره بالحجر الأسود، فأخذه ووضعه

".

وهذا رواية منقطعة أولًا.

ثم لا تنافي كون الحجر الأسود من الجنة، لأنه لا يمنع أن يكون نزل من الجنة قبل بناء الكعبة، وحل في جبل أبي قبيس، ثم أخذ وقت البناء.

ثم إنه فات المؤلف ما كان أورد ابن الأثير عن ابن عباس فيما مضى من نزول الحجر الأسود من الجنة مع آدم إلى الأرض، وأنه كان يومها أشد بياضًا من الثلج، ونزل معه كذلك غيره كعصا موسى مثلًا 1/ 24 عند فصل "ذكر الموضع الذي أهبط فيه آدم وحواء إلى الأرض"..........=

ص: 38

وقيل: إن جبريل أخبره بحجر هو "الحجر الأسود". فأخذه ووضعه في موضعه، فلما ارتفع البنيان كان إبراهيم يقف على حجر وإسماعيل يناوله، وهذا الحجر هو مقام إبراهيم، وهكذا تعاون إبراهيم وإسماعيل حتى رفعا قواعد البيت وأتما بناءه.

ومن هذه الرواية الهادئة وما يؤيدها من روايات ذكرتها أمهات الكتب التاريخية يتبين لنا أن الحجر الأسود لم ينزل من الجنة، وإنما هو من أحجار جبل أبي قبيس1، وقد أراد الله أن يوضع في ركن من أركان بيته المحرم ليكون علمًا، أي علامة يبدأ منها الطواف وينتهي إليها.

فلما أذن إبراهيم في الناس بالحج كان الحجر الأسود موضع بدء الطواف ونهايته، وكان الطائفون يبدأون باستلامه وكأنهم يسجلون أنفسهم في هذا السجل الخالد2، ويقترن ذلك في نفوسهم بأجل الذكريات عن النبي الكريم، فيزداد

= وقد أخرج ابن سعد في طبقاته 1/ 35 في باب "ذكر من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنبياء" عن ابن عباس نزول آدم، وأنه نزل معه العصا لموسى والحجر الأسود وغيرهما وفيه:

"فلما حج آدم وضع الحجر الأسود على أبي قبيس، فكان يضيء لأهل مكة في ليالي الظلم كما يضيء القمر ليلة البدر....". فهذا يؤيد ما ذكرناه، على أن جميع ما نقلناه في هذه الحاشية لا يصح من قبل الإسناد، لكننا نرد عليه بروايات هي مثل رواياته أو أحسن بقليل.

ثم نذكر بأن جميع هذه الروايات كما ترى غير متعارضة.

فالعجب كل العجب ممن اضطرنا لنسود كل هذه الصفحات، لدفع هذه التحليلات الفاسدة.

1 فانظر لقلة اطلاعه.

2 وقد ورد في ذلك حديث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليبعثن الله هذا الركن -يعني الحجر- يوم القيامة، له عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد لمن استلمه بحق".

أخرجه الترمذي 1/ 113، وابن خزيمة وصححه 2735، وأحمد في "المسند" 1/ 266، وهو حديث جيد قوي الإسناد، وقد حسنه الترمذي. وهذه أيضًا خاصة من خواص ذلك الحجر، الذي ما زال المؤلف يستخف بثبوت أوصافه!!.

ص: 39

حبهم لهذا الحجر المبارك، وينتقل ذلك من قبيل إلى قبيل ومن جيل إلى جيل.

وقد فرض الله الحج على كل مسلم مستطيع وجعله الركن الخامس من أركان الإسلام، وجعل من أركان الحج الطواف ببيت الله الحرام، وجعل من شروط الطواف أن يكون الحجر نقطة البدء ونقطة النهاية في المطاف، ومن السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم استلامه وتقبيله

1.

بيد أن بعض المسلمين على طول الزمن وبعد العهد بالرسول عليه الصلاة والسلام قد تغير تفكيرهم فأصبحوا يغالون في تعظيم هذا الحجر حتى لقد خيل إليهم أن الحج لا ينفع إلا بتقبيله ووضع الجباه عليه، وقد رأيت بنفسي فريقًا منهم يطوفون بالبيت حتى إذا جاءوا أمام الحجر الأسود لم يكتفوا بالإشارة إليه كما هو المطلوب عند الزحام، بل سلكوا من أجل الوصول إليه سبيلًا يوقظ الفتنة ويزري بالكرامة، فترى الرجل منهم يدفع نفسه نحو الحجر مزاحمًا بل مهاجمًا، وكأنه في حرب مع إخوانه الطائفين، وقد تكون معه أخته أو ذات رحمه، فيدفعها بعنف وقسوة حتى يرتطم وجهها ورأسها بالحجر، ثم يقول لها:"حجي، حجي" وكأنه يرى أن الحج لا ينفع ولا يتم إلا بهذه الطريقة2.

وبمثل هذه التصرفات ينفتح المجال أمام الخرافات والأباطيل التي لا تعتمد

1 سنية ذلك متفق عليها بين البخاري 2/ 210 ومسلم 2/ 225، وغيرهما من حديث جابر، وابن عمر، وابن عباس، وعمر بن الخطاب وغيرهم. وسيأتي بعض ذلك.

2 نعم لا ينبغي للمسلم أن يصل إلى هذا الحد، فإنه عند الزحام تكفيه الإشارة، ولذلك بوب البخاري في صحيحه:"باب من أشار إلى الركن إذا أتى عليه".

وأورد حديث ابن عباس: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه" رقم 1612.

ص: 40

على أساس ولا ينهض بها دليل1.

أجل -لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر ويقبله أحيانًا ولكن ليس ذلك شرطًا في صحة الطواف ولا في صحة الحج والعمرة2، وإنما هو لحكمة يعلمها الله وإن خفيت علينا، وهي الحكمة التي خفيت من قبل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قبل هذا الحجر، ثم قال:"والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أن رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك"3.

ويعجبني قول بعض الشعراء حينما منعه الزحام عن تقبيل الحجر واستلامه فاكتفى بالإشارة إليه ثم أنشد:

أقول وقد زوحمت عن لثم أسود

من البيت إن تحجب فما السر يحجب

فإنك مني في المحل الذي به

مكان سواد العين أو أنت أقرب

ولقد تعرض الحجر الأسود لأحداث كثيرة، ولولا أن الله قدر له الحفظ والبقاء لعصفت به الكوارث، وتبدد بين ركام الحوادث. فعندما وقعت الفتنة بين عبد الله بن الزبير وبين الأمويين أعاد عبد الله بناء الكعبة بعد تصدعها على يدي

1 إلا عند من يعتمد في ذلك على ما في "صحيح البخاري" 1611 وغيره عن ابن عمر أنه سأله رجل عن استلام الحجر فقال ابن عمر: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.

قال الرجل: أرأيت إن زحمت، أرأيت إن غلبت.

قال ابن عمر: اجعل "أرايت باليمن".

وقال الحافظ ابن حجر في "الشرح" 3/ 476: والظاهر أن ابن عمر لم ير الزحام عذراً في ترك الاستلام، وقد روى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمي

انتهى.

وعلى كل حال فإنه يسع المسلم ما وسع نبيه صلى الله عليه وسلم من جواز الترك للاستلام، وقد كان ابن عباس وغيره من الصحابة يكرهون المزاحمة، وقال ابن عباس: لا يؤذي ولا يؤذى.

2 بدليل تركه لذلك كما في الحديث الماضي عن ابن عباس.

3 رواه البخاري 1610 وغيره.

ص: 41

الحصين بن نمير، وصب طوقًا من الفضة حول الحجر ليثبته في موضعه، ولكن الفضة تزلزلت بعض الوقت وتعلقت حول الحجر حتى خشي الناس عليه أن يسقط من مكانه. فلما ذهب الرشيد إلى الحج، أمره بالحجارة التي بينها الحجر الأسود فثقبت بالماس من فوقها ومن تحتها.

ويذكر التاريخ: أن عدو الله أبا طاهر القرمطي وفد إلى مكة سنة 317هـ وفعل فيها هو أصحابه أمورًا منكرة، ومنها: أن بعضهم ضرب الحجر الأسود بدبوس فكسره ثم قلعه من موضعه وذهب به إلى البحرين، وبقي موضعه خاليًا كالعين المفقوءة، يذكر الناس بما أقدم عليه هؤلاء الآثمون من الذنب والخطيئة، ويضع الناس فيه أيديهم كما كانوا يلمسونه في حال وجوده، وبذل كثير من الولاة والحكام المسلمين محاولات عنيفة لاسترداده، ولكن لم يتم ذلك إلا -في سنة 339هـ. وقال القرامطة عند رده:"أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئة الله"1.

والقرامطة -كما عرف من تاريخهم- جماعة من أصحاب المذاهب الهدامة والعقائد الفاسدة2 وقد أرادوا بخلع الحجر إحداث فتنة بين المسلمين تؤدي إلى ما يريدونه لأنفسهم من النفوذ والسلطان، فلما وجدوا أنهم سيكونون وقودًا لتلك الفتنة أرغموا على رده إلى موضعه، وستروا أغراضهم السيئة بقولهم:"أخذناه بقدرة الله، ورددناه بمشيئة الله".

أما من ناحية التشهير بالمسلمين عن طريق هذا الحجر، فإنه لم يخل عصر من العصور من محاولات يقوم بها الملاحدة للنيل من مبادئ الإسلام وتعاليمه،

1 ذكر هذه الحادثة ابن الجوزي في "المنتظم" ص3811 في حوادث سنة 317 هجرية، وذكر أنه قلع مع الحجر باب البيت، وقبة زمزم، وفعل قتلًا وسلبًا أخزاه الله:

وكذلك ذكر هذه الواقعة ابن كثير في "البداية" 11/ 160-161 مع مزيد تفصيل.

2 وقد ذكر ابن كثير من ذلك أشياء في "البداية" 11/ 162 فيها كفر صريح.

ص: 42

ويرون في الحجر الأسود نقطة ضعف يمكن أن ينفذوا منها إلى أغراضهم الخبيثة

أجل، إنهم يقولون: إن الحجر الأسود بقية من بقايا الوثنية، وإن وجوده بالبيت الحرام وتقبيل الناس له وتضرعهم إلى جواره إحياء لعبادة الأصنام.. ونحن نقول لهم: ليأت لنا هؤلاء بمسلم واحد يعرف مبادئ الإسلام يؤمن بأن هذا الحجر ينفع أو يضر، أو يشفع لمذنب أو يستجيب لداع، فإن لم يفعلوا -ولن يفعلوا- فليقفوا عند حدهم، وليعلموا أن تعاليم الإسلام ومبادئه قد استمدت قوتها من الحجة والبرهان، وليس فيها ما ينأى عن الحكمة ويستعصي على الفهم، وأن هذا الحجر الماثل في ركن الكعبة إنما هو نقطة يبدأ منها الطواف وينتهي إليها، وأن تقبيله واستلامه ليس تقديسًا ولا عبادة، وإنما هو تسجيل عملي لبدء الطواف وانتهائه

والحجر الأسود -بعد ذلك- أثر تليد يحمل إلى الإجيال -عبر القرون- ذكرى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهي ذكرى خالدة تعتز بها النفوس، ويقوى في ظلها الإيمان

ص: 43