الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 سورة الرعد، الآية 16.
2 سورة الأنعام، الآية 17.
3 سورة الحج، الآية 73.
موقف قريش من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:
وكان من الطبيعي أن تقف قريش من الدعوة الإسلامية موقف العداء السافر، لأنها رأت فيها الخطر الداهم الذي يهدد كيانها المادي والأدبي، فلقد كانت الكعبة مركز عبادة الأصنام، وكانت محج العرب ومورد ثروتهم، وكان زعماء قريش يستمدون مجدهم وفخارهم وعزهم وعظمتهم على سائر الناس من صلتها بالبيت الحرام، وقيامهم على حراسة الأصنام وسقاية الحجاج، كما كانوا يعتبرونها مورد رزق وينبوع ثروة بالتجارة التي يحترفونها، فانتصار محمد صلى الله عليه وسلم معناه ضياع سلطانهم الأدبي والمادي وهو أعز ما يعتمدون عليه في حياتهم، لذلك عظم الأمر واشتد، فصممت قريش على أن تقف من محمد صلى الله عليه وسلم موقف
الحزم والصرامة، وأن تعمل على قتل الدعوة الإسلامية باضطهاد صاحبها ومن اتبعه.
فأما موقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أفاضت كتب السيرة في سرد المساءات التي لقيها الرسول صلى الله عليه وسلم منهم1. ونضرب لذلك بعض الأمثلة عسى أن يكون فيها عبرة وتبصرة، وعسى أن تكون درسًا عمليًّا يعلم الناس كيف يكون الصبر على البأساء والضراء، وكيف تكون التضحية المخلصة من أجل المبدأ والعقيدة.
فمن ذلك ما روي عن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول: "أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبه، ويقول: لا تطيعوا محمدًا فإنه كذاب، فقلت: من هذا؟
قالوا: محمد وعمه أبو لهب2.
وكذلك ما فعلته زوج أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان، فكثيرًا ما كانت ترمي الشوك في طريقه، وتلقي بالقاذورات النجسة أمام بيته، ولم تترك عملًا فيه إيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم إلا وفعلته، حتى لم تكتف بهذا الإيذاء العملي، بل كانت تسب الرسول عليه الصلاة والسلام وتذمه، وتوقع العداوة بينه وبين
1 انظر "الروض الأنف" 2/ 4 وما بعدها، و"المواهب اللدنية" 1/ 225 وما بعدها، "تاريخ ابن الأثير" 2/ 42 وما بعدها، "دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 274 وما بعدها، ولأبي نعيم 270 وما بعدها، "طبقات ابن سعد" 1/ 200 وما بعدها. "البداية والنهاية" 3/ 42 وما بعدها.
2 أخرجه أبو نعيم، كما في "جامع المسانيد والسنن" 6/ 476، والطبراني في "المعجم الكبير" 8175، والدارقطني في سننه 3/ 44 وابن حبان في صحيحه 6562، والحاكم 2/ 611 وغيرهم وهو حديث حسن صحيح.
وانظر "مجمع الزوائد" 6/ 23، و"المطالب العالية"4277. وقد عزاه لابن أبي شيبة و"دلائل النبوة" 5/ 380 للبيهقي. والنسائي في "القسامة" 8/ 55.
الناس1. فأنزل الله في شأنها من كتابه الكريم ما يدل على ما ينتظرها يوم القيامة من سوء المصير، حيث يقول:
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} 2.
أما أبو جهل -لعنه الله- فكثيرًا ما أساء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ألقى عليه مرة أثناء صلاته ورحم شاة مذبوحة، فتحمل الأذى، وذهب إلى بنته فاطمة رضي الله عنها فأزالت عنه النجاسة والأقذار3، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في البيت الحرام. فلما لم ينته، تعرض له بالمنع. فقابل الرسول صلى الله عليه وسلم عمله بالشدة وهدده.
فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا ومنزلًا؟
فرد الله تعالى عليه تهديدًا ووعيدًا: {كَلَاّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلَاّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 4.
وكان عقبة بن أبي معيط يجاور رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله، ومما صنعه ذلك
1 انظر المراجع في الحاشية السابقة.
2 سورة تبت، الآيتان 4-5.
3 أخرجه البخاري 6 / 106، ومسلم ص:1419.
4 سورة العلق، الآيات: 15-16-17-18-19.
والحديث أخرجه الترمذي 3346 وقال: حسن غريب صحيح، وأحمد في "المسند" 2321، 3045، وهو حسن صحيح كما قال الترمذي.
وقد عزاه السيوطي في "الدر" 6/ 626 لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن جرير والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم، والبيهقي والترمذي وأحمد.
قلت: وقد أخرج مسلم في صحيحه رقم 2797 وغيره من حديث أبي هريرة نحوه.
الشقي: ما رواه البخاري1 في صحيحه قال: بينما يصلي النبي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر، حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم} 2.
وكان الأسود بن عبد المطلب ابن عم السيدة خديجة كان هو وحزبه إذا مر عليهم المسلمون يتغامزون بهم سخرية واستهزاء. وفيهم نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} 3.
وكان الوليد بن المغيرة عم أبي جهل من أكابر قريش في المركز الاجتماعي والمادي، وكان كذلك من أكابر المجرمين الذين كادوا للرسول صلوات الله وسلامه عليه4.
سمع القرآن مرة من النبي صلى الله عليه وسلم فقال لقومه: والله لقد سمعت من محمد كلامًا، ما هو من كلام الإنس ولا الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو وما يعلى عليه.
1 صحيحه رقم 3678، وانظر "فتح الباري" 7/ 22، 7/ 165، 8/ 553. و"دلائل النبوة" 2/275 للبيهقي، وما ذكرت من مراجع هذا الفصل فيما مضى.
2 سورة المؤمنون، الآية 28.
3 سورة المطففين، الآيتان: 29-30.
وقد روي عن ابن عباس قال: "الذين أجرموا": الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث. "تفسير القرطبي" 20/ 267، و"مجمع الزوائد" 7/ 47 وقد ذكره في تفسير قوله تعالى:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . وقد ذكر فيهم الأسود بن المطلب وهو الصواب كما عند ابن الأثير 2/ 46- 47 أيضًا وغيره.
4 انظر الحاشية السابقة.
فقالت قريش: صبأ1 والله الوليد. لتصبأن قريش كلها.
فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. ثم توجه إليه وجلس أمامه حزينًا، وكلمه بما حمسه ضد محمد صلى الله عليه وسلم مما جعل الوليد يأتي القوم في ناديهم ويخاطبهم قائلًا: أتزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه يهوس، وتقولون: إنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهن، وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعرًا قط؟ وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب؟
فقالوا في ذلك: اللهم لا. ثم قالوا: فما هو؟ ففكر قليلًا ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه فرق بين الرجل وأهله وولده؟
فاهتز النادي فرحًا بهذا الرأي الذي سيفرق بين محمد وعشيرته، وسيباعد بينه وبين الناس، وأنزل الله ردًّا عليه في آيات بينات مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم:
وغير هؤلاء وهؤلاء، وممن عميت بصائرهم وطمس الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم، وقد هلكوا جميعًا بعد الهجرة؛ فمنهم من قتل ومنهم
1 بدّل دينه.
2 سورة المدثر، الآيات 11-26.
والقصة هذه رويت من وجوه مرسلة وأخرى معضلة عند ابن إسحاق 1/ 270 وأبي نعيم في "الدلائل" رقم 183-184-185، والبيهقي، وغيرهم، وسندها جيد قوي.
من ابتلاه الله بالأمراض الفتاكة فقضت عليه.
وأما عن موقفهم من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين اتبعوه وأيدوه، فقد كانوا أشد قسوة وعنفًا.
وحسبنا ما روي عن بلال بن رباح رضي الله عنه فقد لاقى من أميه بن خلف أنواعًا من الأذى، وألوانًا من التعذيب لا يصبر عليها إلا مؤمن قوي الإيمان، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه سيده على وجهه وظهره، ثم يضع حجرًا على صدره، ويقول له: ستظل هكذا حتى تكفر بمحمد وتؤمن باللات.. ولكنه احتمل كل هذه الآلام، وصبر على الأذى والنكال، وكلما التمسوا منه جوابًا، لا يرد عليهم إلا بتلك الكلمة التي ملكت نفسه ومشاعره: أحد، أحد.
وقد رآه أبو بكر يومًا يقاسي أشد العذاب. فقال لسيده أمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ فقال: أنت أفسدته وفتنته عن دين آلهتنا وعبادة أصنامنا.. فعرض عليه أبو بكر ثمنًا له، وما زال يساومه حتى اشتراه وأعتقه في سبيل الله بعد أن خلصه من تعذيب سيده1.
وفي هذا نزل قول الله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلَاّ الأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2.
1 جاءت قصة بلال هذه مطولة ومختصرة، ومن وجوه كثيرة، وانظر "سيرة ابن هشام" 1/ 318 و"الاستيعاب" 2/ 23، وابن سعد 3/ 16511، و"حلية الأولياء" 1/ 150.
2 سورة الليل، الآيات 14-21 وقد جاءت في سبب نزولها غير ما ذكر المصنف، وانظر "الدر المنثور" 6/ 606-607.
والمقصود بكلمة الأشقى في الآية الكريمة هو أمية بن خلف، والأتقى هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه1.
وقد نبه الله عز وجل إلى أن بذل أبي بكر الصديق لماله في شراء بلال وغيره، لم يكن إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وكفى بهذا شرفًا وفضلًا.
وما روي عن عمار بن ياسر وأبيه وأمه -رضوان الله عليهم- فلقد كان أبوه ياسر حليفًا لبني مخزوم، ولما كان عمار وأبوه وأمه واقعين تحت نفوذ المشركين من بني مخزوم، فإنهم أوقعوا بهم من العذاب ما لا طاقة لأحد به، فكانوا إذا اشتدت حرارة الشمس ألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس.. ويا لها من قسوة بالغة إذا عرفنا حر مكة في فصل الصيف، ولقد مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في العذاب فقال لهم:"صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة. أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة"2.
وقد مات ياسر في العذاب، أما امرأته سمية فقد أغلظت القول لأبي جهل
1 قد جاء أن الأتقى هو أبو بكر، عن عروة بن الزبير، عند ابن أبي حاتم، وعن عبد الله بن الزبير، عند الحاكم وصححه.
وعن الزبير، عند البزار وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن عدي وغيرهم. وعن ابن عباس، عن ابن مردويه.
كما ذكر جميع ذلك في "الدر المنثور" 6/ 607.
وأما الأشقى فالصحيح عموم القصد، وأن المقصود بذلك كل من كذب بالإسلام وعصى أوامره. كما جاء ذلك في حديث أبي أمامة موقوفًا ومرفوعًا. على أن عموم اللفظ لا يمنع من خصوص السبب. والله أعلم.
2 القصة صحيحة، وانظر "المستدرك" 3/ 388، و"دلائل النبوة" 2/ 282 للبيهقي، و"مجمع الزوائد" 9/ 293 للهيثمي، و"الاستيعاب" 4/ 230، و"الإصابة" 4/ 335، و"الكامل" 2/ 45 لابن الأثير، وغير ذلك. وانظر الآتي.
مرة، فطعنها في قبلها بحربة في يده فماتت، وشددوا العذاب على عمار بتعريضه للشمس المحرقة بين صخور مكة ورمالها تارة، وبوضع الصخر على صدره تارة أخرى، قائلين له: لا تُترك حتى تسب محمدًا وتقول في اللات والعزى خيرًا ففعل فتركوه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال:"ما وراءك؟ " قال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا، وقص عليه الخبر، فقال:"فكيف تجد قلبك؟ " قال: أجده مطمئنًا بالإيمان، فقال:"يا عمار إن عادوا فعد"، فأنزل الله تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} 1.
وكذلك ما روي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه فلقد كان من السابقين في الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويألفه قبل النبوة، ولما أسلم أخذه الكفار وسحبوه على وجهه وعذبوه عذابًا شديدًا، فنزعوا ثوبه عن جسده وألقوه على الرمضاء وجاءوا بالحجارة المحماة ووضعوها على ظهره، ولووا رأسه، كل من أجل أن يعود في الكفر ولكنه لم يجبهم إلى شيء مما أرادوا، ولم يزده التعذيب إلا إيمانًا وتثبيتًا2.
ولقد اشتكى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مما يقاسيه في سبيل الله طالبًا منه التوجه إلى الله
1 سورة النحل، الآية 106.
وقد عزا السيوطي القصة من حديث ابن عباس لابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه. ومن حديث عمار لعبد الرزاق، وابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل".
ومن حديث محمد بن سيرين، وأبي مالك، وأبي المتوكل، ومجاهد وغيرهم، عزاه لجماعة، كما في "الدر المنثور" 4/ 249-250 وانظر ما مضى.
2 جاءت قصة تعذيبه من وجهين مرسلين، عن الشعبي وقتادة، كما في "أسد الغابة" 2/ 103، ومن وجه ثالث مرسل عن عروة بن الزبير، ورابع عن أبي ليلة الكندي، عند ابن سعد في "الطبقات" 3/ 165.
وهذه الوجوه يشد بعضها بعضًا. وانظر الآتي. و"الكامل" 2/ 46، و"البداية" 3/ 60 وغير ذلك.
لكي يكشف عن المسلمين هذا الكرب والبلاء، فضرب له الرسول صلى الله عليه وسلم مثلًا مما كان يصيب المؤمنين السابقين وطمأنه على مستقبله ومستقبل المسلمين، وفي ذلك يقول خباب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال:"قد كان من قبلكم يؤتى بالرجل فيحفر له حفرة فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فوق رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصرفه ذلك عن دينه. والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"1.
بل لقد كان ممن أوذي في الله، أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- على الرغم من مكانته في قريش، فلقد وجه إليه المشركون كثيرًا من الأذى والعنت حتى خرج مهاجرًا إلى الحبشة، فلقيه ابن الدغنة وهو من سادات العرب، فسأله: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي. وإني أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي.
فقال: مثلك يا أبا بكر لا يخرج، وأنت في جواري وحماي.
فرجع مع ابن الدغنة، وعرفت قريش أن أبا بكر في جواره وحماه فطلبت قريش من حامي الصديق أن يأمره بعبادة ربه في داره، ولا يجهر بصلاته وقراءاته، وقالوا: إنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.
فلبث أبو بكر في داره يعبد ربه، ثم بدا له أن يبني مسجدًا بفناء داره، فبناه وكان يصلي ويقرأ القرآن، فيهرع إليه نساء المشركين وأبناؤهم ينظرون إليه
1 رواه البخاري في صحيحه 8/ 327. وغيره.
وانظر "البداية والنهاية" 3/ 59 -60، وتعليق الحافظ ابن كثير على هذا الحديث.
ويستمعون إلى ما يقرأ -وكان أبو بكر رجلًا بكاء، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن- فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة وقالوا له: إن أبا بكر قد أخل بالشروط، فابتنى مسجدًا، وأسمع الناس صلاته وقراءته، وقد خشينا الفتنة على نسائنا وأبنائنا. فأتى ابن الدغنة أبا بكر وقال له: إما أن تلتزم شرط الجوار وإما أن تُرجِعَ إليَّ ذمتي.
فقال أبو بكر: إني أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله1، وكان ذلك سببًا في أن لحق بأبي بكر الكثير من الأذى والاضطهاد.
هذا إلى جانب ما كانوا يسمعونه من فحش القول واللغو من الكلام أينما كانوا، فلم يزدهم إلا استمساكًا بدينهم وحرصًا على عقيدتهم، ولا غرو، فهم لم يدخلوا في دين الله لغرض دنيوي يرجون حصوله، بل شرح الله صدورهم للإسلام، وخالطت بشاشته قلوبهم.
وهكذا كانت تلك الفترة من أروع الفترات في تاريخ الإسلام والمسلمين. وكان هؤلاء الأبطال مُثلًا عليا في التضحية والفداء وقوة العزيمة وثبات الإرادة، فضربوا للناس الأمثال، وخلدوا ذكرهم بجلائل الأعمال، ورسموا لأصحاب المبادئ السامية كيف يجاهدون في سبيل الله، وكيف يعملون لنصرة الحق وهزيمة الباطل.
ومن خلال هذه الفترة الرهيبة التي مرت بالرسول صلى الله عليه وسلم لجأ المشركون إلى طريقة الإغراء والترغيب، وظنوا أنهم سوف يستطيعون أن يفتنوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عن دينه أو يحولوه عن وجهته.
1 قصة أبي بكر هذه مع ابن الدغنة، ذكرها ابن إسحاق في السيرة عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وصرح بالتحديث كما في "البداية" 3/ 93-94 عنه. ثم ذكر له فيها إسنادًا آخر. والإسنادان قويان صحيحان. وقد أخرجه عن ابن إسحاق جماعة.
ولكن لم يعبأ محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما قدموه من مغريات ومرغبات، بل لقد وضعها جميعًا تحت قدميه وآثر المضي في طريقه ما فيه من متاعب وآلام. ويروون في ذلك أن عتبة بن ربيعة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورًا لعلك تقبل بعضها، إن كنت تريد بهذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تصير أكثرنا مالًا.. وإذا كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.
فلما فرغ من قوله تلا عليه محمد صلى الله عليه وسلم سورة السجدة، وأنصت عتبة إلى هذا الكلام المعجز والأسلوب الفريد، ثم تأمل في شخص محمد صلى الله عليه وسلم فرأى أمامه رجلًا مكتمل العقل ناضج الفكر لا مطمع له في مال ولا في تشريف ولا في ملك، وإنما يدلي بالحق ويدعو إلى الخير ويدفع بالتي هي أحسن، فانصرف عتبة إلى قريش مأخوذًا بجمال ما رأى وما سمع، مفتوحًا بعظمة هذا الرجل وسحر بيانه، فلما أفضى إليهم بما انطبع في نفسه نحو محمد من إعجاب وتقدير، غضبوا عليه وسخروا منه وقالوا له: سحرك محمد يا أبا الوليد1.
وكما لجأوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم يستميلوه ويغرونه، فقد لجأوا إلى عمه أبي طالب يوغرون صدره على ابن أخيه حتى يتخلى عن نصرته - وذلك أن رجالًا من أشراف قريش وفي مقدمتهم أبو سفيان بن حرب مشوا إلى أبي طالب فقالوا: يا
1 أخرجه أبو نعيم في "دلائل النبوة" رقم 182، 185 عن جابر وابن عمر، وهو عند ابن أبي شيبة في "المصنف" 18409، عن جابر، وكذلك هو عند البيهقي وابن إسحاق 1/ 217 عن محمد بن كعب القرظي، فالقصة قوية باجتماع هذه الوجوه.
وانظر "مجمع الزوائد" 6/ 20 وقد عزاه لأبي يعلى، و"الخصائص" 1/ 284.
أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه؟
فردهم أبو طالب ردًّا جميلًا، ولكن محمدًا مضى في طرق إعلان دعوته، وازداد مضيه وإقدامه يومًا بعد يوم، فمشت قريش إلى أبي طالب مرة ثانية وأخذوا معهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، وكان أنهد فتى في قريش وطلبوا إليه أن يسلم إليهم محمدًا ويتركوا له عمارة ليتخذه ولدًا، فسخر أبو طالب من رأيهم ولم يجبهم إلى طلبهم.
ولما نفد صبرهم وأعيتهم الحيل وطفح الكيل ذهبوا إلى أبي طالب مرة ثالثة منذرين متوعدين. فقال له: يا أبا طالب إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإننا والله لا نصبر على هذا من شَتمِ آباءنا وتسفيهِ أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين.
وقد وجم أبو طالب أمام هذا الموقف الخطير الذي صممت عليه قريش وأصابه هم عظيم. ولا غرو فقد أصبح بين أمرين أحلاهما مر، فإما أن يترك ابن أخيه لقريش تنزل عليه النقمة والعذاب، وتفعل ما تشاء حتى تقضي على دعوته، وإما أن يقف وجهًا لوجه أمام قريش في حرب دامية لا يدرك مداها، ولا تعرف نهايتها
…
ومن أجل ذلك كله فإنه استدعى محمدًا صلى الله عليه وسلم وقص عليه الموقف الأخير الذي انتهت إليه قريش، ثم قال له: فأبق علي وعلى نفسك يابن أخي ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
وهنا يتجلى الإيمان في أروع صوره وأسمى مظاهره، ذلك بأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم
توقع أن عمه سيخذله أمام هذا الضغط العنيف من قريش ويسلمه إليهم، فنظر في هذا الأمر من خلال المعاني العميقة التي انطبعت في نفسه بعد نزول الوحي عليه، والحصانة القوية التي أفرغتها العناية الإلهية في قلبه، وحينئذٍ هان كل شيء في هذا الوجود أمام أداء تلك الرسالة الكبرى التي كرمه الله بها وقال كلمته المأثورة:"والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته".
وقد عجب أبو طالب لهذا الموقف الرائع من ابن أخيه، وثارت في نفسه عاطفة قوية غلابة لمؤازرته في هذه المحنة الأليمة، فقال له -وقد رآه يخرج وينصرف: أقبل. ثم قال له: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت. فوالله لا أسلمك لشيء تكرهه أبدًا.
أجل، أصر أبو طالب على الدفاع عن ابن أخيه، محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر بني هاشم وبني المطلب عن قول محمد صلى الله عليه وسلم وموقفه ثم دعاهم إلى حمايته، وطلب منهم أن يمنعوه من قريش، فاستجابوا له جميعًا، إلا أبا لهب فإنه أمعن في غيه وضلاله وصارحهم بالعداوة للدعوة الإسلامية وصاحبها وأنصارها.
وفي ذلك يقول أبو طالب من قصيدة طويلة:
ولما رأيت القوم لا ودّ فيهم
…
وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
…
وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة
…
وأبيض عضب من تراث المقاول