الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
مدخل
…
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
وقد جعل الله الذي يقدر الليل والنهار حياة الرسول صلى الله عليه وسلم موقوتة بإتمام رسالته، فلما تمت الرسالة ونزلت الآية الكريمة:
كان ذلك آية على أن اليوم الذي قدره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا يوشك أن تغرب شمسه، وقد أحس الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- بذلك، فجلس على المنبر في أخريات أيامه وقال لأصحابه2:"إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده".
فبكى أبو بكر حينما سمع هذا الكلام وقال: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر وقال:
"إن أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، فلو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام".
ثم بدأت أعراض المرض تظهر على الرسول صلى الله عليه وسلم في أواخر صفر من السنة
1 سورة المائدة، الآية 3.
2 أخرجه مالك والشيخان والترمذي وغيرهم، وانظر طرقه وألفاظه في "إتحاف السادة المتقين" 10/ 287 و"صحيح البخاري" 5/ 73، و"سنن الترمذي" 3660، و"مصنف عبد الرزاق" 9754، و"فتح الباري" 10/ 569، وغير ذلك.
الحادية عشرة للهجرة1، وكان حينئذٍ في بيت ميمونة بنت الحارث، وأخذ ينتقل بين بيوت أزواجه، فلما اشتد عليه المرض استأذن منهن أن يمرض في بيت السيدة عائشة، فأذِنَّ له.. ولما دخل إلى بيت عائشة واشتد عليه الوجع قال للحاضرات من زوجاته:"هريقوا 2 علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس".
فأجلس في مخضب3، وصب عليه الماء حتى شعر بشيء من الراحة، فأشار إليهن بالاكتفاء4.. ثم خرج إلى الناس متوكئًا على علي بن أبي طالب والفضل بن العباس5، وتقدم العباس أمامهم، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخط
1 وحدد ذلك، ابن حبان في ثقاته 2/ 130 فقال: بدأ الوجع يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، وانظر "تاريخ الطبري" 3/ 188، و"السيرة" 3/ 67، و"مسند أحمد" 6/ 431 قلت: وهذا هو الأشهر.
وفي "المواهب" 4/ 516: قيل: كان ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم في بيت زينب، وقيل: ريحانة، والأول هو المعتمد وأنه في بيت ميمونة.
وذكر الخطابي أنه ابتدأ به المرض يوم الاثنين. وقيل: يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء.
2 صبوا.
3 مثل المغطس في أيامنا، وهو حجر منقور يجلس فيه المرء ليجتمع الماء المصبوب حوله ولا يتفرق.
4 الحديث أخرجه البخاري 3/ 482 وغيره.
5 في رواية البخاري: بين عباس بن عبد المطلب ورجل آخر.
وفي رواية مسلم: فخرج بين الفضل ورجل آخر.
وفي رواية لغيرهما: بين رجلين أحدهما أسامة.
وعند ابن حبان: بريرة وتوبة.
قلت: ولعله تناوب عليه في ذلك من داخل البيت نساء، ثم من صحن الدار أسامة، ثم خرج معه العباس والفضل، أو أن الخروج تعدد، أو أن كل راوٍ أراد المباشر له بحسب ما رأى، والجمع على كل حال ممكن.
برجليه حتى جلس في أسفل مرقاة المنبر، وثار الناس إليه، فحمد وأثنى عليه ثم قال1:
"أيها الناس، بلغني أنكم تخافون عليّ الموت، كأنه استنكار منكم للموت، وما تنكرون من موت نبيكم؟ ألم أنع إليكم وتنع إليكم أنفسكم؟ هل خُلِد نبي قبلي فيمن بعث فأخلد فيكم؟ ألا إني لاحق بربي وإنكم لاحقون به.
وإني أوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرًا، وأوصي المهاجرين فيما بينهم، فإن الله عز وجل قال:{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 2.
وإن الأمور تجري بإذن الله، فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} 3.
وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلكم: أن
1 هذه الرواية التي أوردها المصنف أولًا من خروجه صلى الله عليه وسلم بين الفضل والعباس تقدمت صحتها، وأما هذه الخطبة التالية فواهية ضعيفة، كما جزم بذلك أهل السير، لتفرد سيف بن عمر بها، وهو واهٍ وأفحش القول فيه ابن حبان واتهمه.
ولذلك صدر القسطلاني هذه الخطبة بقوله: حديث ضعيف 4/ 532.
قلت: وما يدلك على ضعف هذا الحديث وهذه الخطبة، ما صح في الصحيحين من إنكار عمر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، وما جرى في ذلك من اللغط الكبير عند جماعة من الصحابة.
فلو كان صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث، فكيف يخفى على عمر وأمثاله وجماهير الصحابة، مع أنه لا يمكن أن ينتشر حديث وقتها مثل انتشاره لو كان.
2 سرة العصر، الآيات 1-2-3.
3 سورة محمد، الآية 22.
تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم الثمار؟ ألم يوسعوا عليكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟
ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين، فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم ألا ولا تستأثروا عليهم".
فقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم:
يا نبي الله، أوصِ بقريش.
فقال: "إنما أوصي بهذا الأمر قريشًا، والناس تبع لقريش: برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم، فاستوصوا آل قريش بالناس خيرًا.
يا أيها الناس: إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، فإذا بر الناس برهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوا لهم" 1.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 2.
وقد استمر مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر يومًا3، ولما كان اليوم الثالث عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وحينما كان المسلمون يؤدون صلاة الفجر، وإذا بهم يفاجئون برسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى إليهم في هدوء ويطلع عليهم من باب حجرة السيدة عائشة، وقد أشرق وجهه بالسرور، ولمعت بين ثناياه ابتسامة عريضة، فهم أبو بكر -وكان يؤم المسلمين في الصلاة- بأن
1 هذا حديث واهٍ كما قدمنا.
2 سورة الأنعام، الآية 129.
3 قال القسطلاني في "المواهب اللدنية" 4/ 516: اختُلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا، وقيل أربعة عشر، وقيل اثنا عشر، وقيل عشرة أيام، وبه جزم الهيثمي، وأخرجه البيقهي بإسناد صحيح، انتهى "منتقى القاري" ص 289.
يخلي مكان الإمامة للرسول صلى الله عليه وسلم وظن أنه يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمّ المسلمون أن يفتنوا بصلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل إلى الحجرة وأرخى الستر على الباب1.
ثم بدأت اللحظات الأخيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة الفاصلة يغدو ويروح بفكره متنقلًا في أرجاء الماضي العظيم الذي انطوت أيامه، بما اشتملت عليه من جلائل الأعمال، فيراه بين يديه نورًا يضيء جنبات نفسه، ويكشف أيامه الحجب المغيبة والغيوب المحجوبة2، ويريه مقعده الخالد في جنة الخلد، فيتطلع ببصره إلى السماء ويقول:"بل الرفيق الأعلى من الجنة"3.
وتتحدث السيدة عائشة رضي الله عنها عن هذه اللحظة التي التقى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بربه فتقول: وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: "بل الرفيق الأعلى من الجنة". فقلت خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري4 ونحري.
1 أخرجه البخاري، كما في "الفتح" 2/ 164، ومسلم 1/ 315 وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
2 لم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم شيئًا من الغيب إلا ما علمه الله تبارك وتعالى إياه، وأما العلم المطلق فشيء لا يصح، ولا يجوز اعتقاد ذلك، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للجارية التي كانت تقول: وفينا نبي يعلم ما في غد.
قال: "لا يعلم الغيب إلا الله، وكفى عن هذا، وعودي لما كنت تقولين" كما صح ذلك عند البخاري 3/ 615 وغيره.
3 أخرج ذلك البخاري 4451 وغيره بهذا اللفظ ونحوه، وانظر "دلائل النبوة" 7/ 203 فصل ما جاء في آخر كلامه صلى الله عليه وسلم.
4 السحر: الرئة، وقيل غير ذلك. والمراد أنه صلى الله عليه وسلم كان واضعًا رأسه عند صدرها رضي الله عنها والحديث مخرج في الصحيح وغيره، وانظر "دلائل النبوة" 7/ 207، "صحيح البخاري" 4451، "فتح الباري" 8/ 144، و"سنن الترمذي" 978، و"ابن ماجه" 1623 و"مسند أحمد" 6/ 64، 6/ 70، 6/ 77، 6/ 151 وغير ذلك.