الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عام الوفود
مدخل
…
عام الوفود
كان العام التاسع الهجري في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مناط الفخر وذروة القوة، ففيه خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تبوك على مشارف الشام، ليلتقي بدولة الروم التي كانت تهدد حدود الجزيرة العربية، فتهيب الروم لقاءه، ولاذوا بالفرار ليتحصنوا داخل بلادهم، فكان هذا النصر الأبيض1 على دولة الروم العظيمة تطورًا كبيرًا وتحولًا عجيبًا يعتز به المسلمون في تاريخهم.
وفيه تتابعت الوفود من سائر الجزيرة العربية لتعلن الولاء والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم ولتؤمن مستقبلها قبل أن يصل إليها المد الإسلامي ويكتسحها تياره القوي، وكانت هذه الوفود في كثرتها وتتابعها حَرِيّة بأن تجعل هذا العام عام الوفود، كما كانت هذه الوفود هي الثمرة الطبيعية لكفاح المسلمين الطويل، لأنها البرهان الواضح على أن صوت الإسلام قد أصبح مسموعًا في كل مكان، وأن الناس حينما سمعوه واطمأنوا إليه لبوا النداء واستجابوا للدعاء.
وإذا كان من حق القارئ أن يتعرف على هذه الوفود، فإن من واجبنا أن نتحدث عنهم لأنهم كانوا -في جملتهم- سفراء أمناء حملوا رسالة الحق من الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغوها كاملة إلى أهلهم وذويهم، فشرح الله صدورهم للإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجًا..
1 يعني: الذي تم بدون قتال.
فمن هذه الوفود1 وفد عبد القيس2، وكان من خبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالسًا بين أصحابه يوما فقال لهم:"سيطلع عليكم من هنا ركب من أهل المشرق، لم يكرهوا على الإسلام، قد أنضوا الركائب3 وأفنوا الزاد، اللهم اغفر لعبد القيس". فلما أتوا ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم رموا بأنفسهم عن الركائب بباب المسجد، وتبادروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه.
فقال صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بالقوم غير خزايا ولا ندامى"4.
فقالوا: يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة، وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل.
فقال: "آمركم بالإيمان. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس، وأنهاكم عن الدنيا والحنتم والنقير والمزفت".
والمراد هنا النهي عن شرب الأنبذة التي توضع في هذه الأوعية كما جرت عادتهم بذلك، فقال أحدهم واسمه الأشج: يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة، وإننا إذا لم نشرب هذه الأشربة عظمت بطوننا، فرخص لنا في مثل هذه، وأشار إلي يده، وهو يقصد أن يرخص الرسول صلى الله عليه وسلم في شرب القليل منها.
1 وهي كثيرة جدًّا، ذكرناها جميعها في كتابنا "سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأيامه" 1/ 639-695.
2 انظره في "سيرة ابن هشام" 4/ 186، و"طبقات ابن سعد" 1/ 314، و"تاريخ الطبري" 3/ 136، و"عيون الأثر" 3/ 298، و"البداية" 5/ 46، و"نهاية الأرب" 18/ 65، و"المواهب اللدنية" 2/ 15، وشرحها للزرقاني 4/ 13، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 323، و"الرحيق المختوم" ص 409 وغير ذلك.
3 أي: أهزلوها من كثرة السير.
4 أي: لا يلحقهم خزي ولا ندم.
فأومأ عليه الصلاة والسلام بكفيه وقال: "يا أشج إن رخصت لك في مثل هذه شربته في مثل هذه -وفرج بين يديه وبسطها- حتى إذا ثمل أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمه فضرب ساقه بالسيف" 1، 2.
ومن هذه الوفود وفد تميم3: وكان من خبرهم أنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما خرج إليهم تعلقوا به وقالوا: نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال لهم عليه الصلاة والسلام:"ما بالشعر بعثنا ولا بالفخار أمرنا". ثم صلى الظهر، واجتمع حوله رجال الوفد يتفاخرون بمجدهم ومجد آبائهم، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن لخطيبهم وشاعرهم بذلك، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأما خطيبهم فكان عطارد بن حاجب، وقد قال في خطبته:
الحمد لله الذي له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذي جعلنا ملوكًا، ووهب لنا أموالًا عظامًا نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق، وأكثره عددًا وأيسره عدة، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وأولي فضلهم، فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: "قم فأجب الرجل في خطبته".
فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي في السموات والأرض خلقه، قضى فيهن
1 هذا لفظ أبي يعلى والطبراني بسند جيد، كما في "البداية" 5/ 47، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 327، وأصل الحديث في "صحيح مسلم" 1/ 48 وغيره.
2 وقد كانت لعبد القيس وفادة قبل هذه السنة، في سنة خمس. وانظر ما قدمنا من المصادر.
3 انظر ما مضى من المصادر. و"الكامل في التاريخ" 2/ 195، و"سيرة ابن هشام" 2/ 333.
بأمره، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكًا، واصطفى من خير خلقه رسولًا.. فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به فآمن برسول الله المهاجرون من قومه، ثم آمنا نحن الأنصار، أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر جاهدناه في الله أبدًا، وكان قتله علينا يسيرًا
…
أقول هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات..
فقام الزبرقان بن بدر وأنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قصيدة قال في أولها:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا
…
منا الملوك وفينا تنصب البيع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه
…
فيرجع القوم والأخبار تستمع
إنا أبينا ولم يأب لنا أحد
…
إنا كذلك عند الفخر نرتفع
ولما انتهى الزبرقان من قصيدته وفيها يرفع قومه إلى درجة الملوك، ويبين أنه لم يرتفع إلى مكانتهم أحد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت:"قم يا حسان فأجب الرجل"، فقام حسان فقال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
…
قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته
…
تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم
…
أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم
…
فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم
…
لا يطمعون ولا يرديهم طمع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم
…
إذا تفاوتت الأهواء والشيع1
وقد أسلم هؤلاء القوم وحسن إسلامهم، وأقاموا مدة يتعلمون فيها القرآن ويتفقهون في الدين.
ومن هذه الوفود رسول بني سعد بن بكر، ويقال له: ضمام بن ثعلبة، وموقف هذا الرجل يدل على أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مطمئن القلب بالإيمان، وأن غرضه من هذه الوفادة هو زيادة اليقين والاطمئنان، وأنه كان مسموع الكلمة لدى قومه، ولذا لبوا رغبته واستجابوا له حينما دعاهم إلى الإسلام بعد رجوعه من مقابلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق2:
بعث بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا منهم يقال له ضمام بن ثعلبة، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلًا جلدًا أشعر ذا غديرتين، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيكم ابن عبد المطب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب". قال: أمحمد؟ قال: "نعم".
1 انظر الخبر في "سيرة ابن هشام" 4/ 178، و"البداية" 5/ 42، و"الكامل" 2/ 195 و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 313، وتمام هذه القصيدة لحسان رضي الله عنه.
2 "سيرة ابن هشام" 4/ 184، و"طبقات ابن سعد" 1/ 299، و"عيون الأثر" 2/ 297، و"البداية" 5/ 60، والبيهقي في "دلائل النبوة" 5/ 374.
والحديث أخرجه ابن إسحاق والباقون عنه، وكذلك رواه عنه أحمد وأبو داود من طريقه كما في "البداية". وكذلك أخرجه الواقدي من وجه ابن اسحاق. كلهم من طريق كريب عن ابن عباس.
وللحديث شاهد في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس بن مالك، كما في "البداية" أيضًا. وانظر "صحيح البخاري" 1/ 32، و"صحيح مسلم" 1/ 166 وغيرهما.
قال: يابن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجد بها عليّ في نفسك1. قال:"لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك" قال: أنشدك الله إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولًا؟ قال:"اللهم نعم" قال: أنشدك الله، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده، ولا نشرك به شيئًا، وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال:"اللهم نعم". ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة: الزكاة والصيام والحج، وشرائع الإسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التي قبلها، حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره راجعًا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ذو العقيصتين2 دخل الجنة".
قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى. قالوا: مه يا ضمام. اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون. قال: ويلكم إنهما -والله- لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه.
قال: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره3 رجل أو امرأة إلا مسلمًا.
1 أي: لا تغضب.
2 العقيصة: الشعر الملتوي المعقود.
3 أي: ممن عنده.
وهكذا كانت وفادة ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفادة ميمونة مباركة حتى يقول ابن عباس -رضي الله عنهما1:
ما سمعنا بوافد كان أفضل من ضمام بن ثعلبة2.
ومنهم وفد ثقيف3، وكان من خبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف بعد حصارها، تبع أثره عروة4 بن مسعود الثقفي حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، ثم طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بالرجوع إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنهم قاتلوك".
فقال: أنا أحب إليهم من أبصارهم.
فخرج إلى قومه يرجو منهم طاعته لما كان يعرفه فيهم من الإخلاص له، ولكنه أخطأ في تقديره، وصدقت فراسة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم لما رأوه يدعوهم إلى ترك دينهم ولا يحيد عن ذلك، لم يطيقوا صبرًا وأحاطوه به ورموه
1 قال ذلك في نهاية الحديث الماضي.
2 وقال عمر فيه: ما رأيت أحدًا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة، هكذا جاء في سياق حديث أبي هريرة لهذه القصة.
3 وهم أهل الطائف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عقب انصرافه من الطائف وامتناع ثقيف من التسليم والإيمان دعاهم فقال:"اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم مسلمين".
ووفد ثقيف تاريخ قدومه بعد حجة أبي بكر لا قبلها بحسب قول موسى بن عقبة، وعروة بن الزبير، كما سيأتي.
4 الذي عند موسى بن عقبة، وفي مرسل عروة بن الزبير كما روى ذلك عنهما البيهقي في "الدلائل" 5/ 299 أن قدوم وفد ثقيف، كان بعد حجة أبي بكر، وأما عند ابن اسحاق فقبلها كما في "سيرة ابن هشام" 4/ 152.
وقد رجح الحافظ ابن كثير في "البداية" 5/ 29 ما عند ابن اسحاق.