الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيول تطغى على مكة وتدمر في هذا المسجد، حتى أعاد بناءه قصي بن كلاب الذي طرد الخزاعيين من مكة وجعل للمسجد سقفًا لأول مرة في تاريخه، وبنى حول المسجد بيوتًا تطل عليه، ثم أشرفت قريش على الكعبة بعد قصي، فأصابها حريق1، فأعادوا بناءها وأقاموا بداخل البناء ستة أعمدة ليعتمد السقف عليها.
1 في "السيرة الحلبية""1/ 229" وغيرها، أن سبب الحريق امرأة بخرت الكعبة، فطارت شرارة فعلقت بثوب الكعبة فأحرقتها، وقيل غير ذلك.
وجميع هذه الأقوال المتقدمة ليس فيها شيء متيقن، لكنه مذكور في تاريخ الأزرقي، والسيرة الحلبية، وسيرة ابن هشام 1/ 116 وغير ذلك من الكتب، وسيأتي تفصيل في هذا.
عام الفيل والطير الأبابيل:
ولا بد لنا ونحن نطالع تاريخ المسجد الحرام أن نقف عند هذا العام الخالد في تاريخ العرب -وهو عام الفيل- وقفة طويلة لما تجلى فيه من نصر الله للعرب على الأحباش الظالمين.
ولما ظهر فيه من الآية الكبرى التي حمى الله بها بيته المحرم من عدوان الطغاة وطغيان المعتدين، حيث جعل {كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 1.
ويذكر الرواة في ذلك أن الأحباش -وكانوا يدينون بالمسيحية- أرادوا أن ينشروا هذا الدين في جزيرة العرب بعد أن استولوا على اليمن، وخصوصًا لما رأوه من تقديس العرب لمكة وللمسجد الحرام وتقديمهم القرابين والنذور والهدايا والهبات إلى سدنة المسجد والقائمين بأمره..
1 سورة الفيل 2 - 3 - 4 - 5.
وقد بدأ القائد الحبشي في بلاد اليمن -ويسمى أبرهة الأشرم- ببناء كنيسة سماها القُلَّيْس وبذل لها ما استطاعه من العناية. حتى إنه نقل إليها من قصر بلقيس أعمدة من الرخام المجزع، والحجارة المنقوشة بالذهب، ونصب فيها صلبانًا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والأبنوس، ودعا الناس إلى الحج إليها1.
فغضب العرب وثار رجل من بني مالك بن كنانة وأقسم ليعبثن بهذه الكنيسة، وقدم إلى اليمن ودخل الكنيسة كأنه متعبد حتى إذا جاء الليل وخلا المكان قام يعبث بأثاث الكنيسة ويلطخ جدرانها بالقاذورات2، ولما علم أبرهة في الصباح بما أصاب كنيسته وعرف أن أعرابيًّا كان يبيت بها وأنه المتهم بالعبث ببنائه المقدس، أقسم ليهدمن الكعبة، وجهز لذلك العدة والعديد3 والبأس الشديد..
وأقبل جيش الحبشة من اليمن فأشرف على مكة بعد أن تخطى إليها التلال والنجاد، والهضاب والوهاد، والصحراء القاسية المترامية، وبعد أن كاد يضل في شعاب الجزيرة الشائكة ومسالكها المشتبكة، ثم استقر بمكان قريب من مكة
1 "سيرة ابن هشام" 1/ 44، "دلائل النبوة" للبيهقي 1/ 117، "الروض الأنف" للسهيلي 1/ 63، "البداية والنهاية" 1/ 170، "المواهب اللدنية" 1/ 101 وغير ذلك.
وقال السهيلي في "الروض الأنف": سميت القلَّيْس لارتفاع بنائها وعلوها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرءوس
…
2 وفي أكثر الروايات أنه قعد فقضى حاجته، فأحدث وبال، وهذا القول مروي عن ابن عباس وغيره، وذكره من قدمنا ذكرهم، وهو الذي عليه الأكثر.
وقيل: أجّجت فتية من العرب نارًا قرب الكنيسة، فحملتها الريح، وكان في عمارة القليس خشب مموه فأحرقته، وهذا القول منقول عن مجاهد.
وقيل إن نفيلًا الخثعمي كان يتعرض لأبرهة بالمكروه، ثم إنه جاء ليلة بعذره فلطخ بها قبلة الكنيسة، وألقى فيها جيفًا.
3 فقيل: إنه بلغ عددهم ستين ألفًا.
يقال له: "المغمس"1 وأرسل قائد الجيش رسولًا من قبله إلى مكة يدعى "حناطة الحميري"2 فقال له: سل عن سيد أهل هذه البلاد وشريفها، ثم قل له: إن الملك لم يأت لحربكم، وإنما جاء لهدم هذا البيت. فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة له في دمائكم، فإنه هو لم يرد الحرب فأت إليّ به.
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فقيل له: عبد المطلب بن هاشم، فجاءه فأخبره بما أمره به أبرهة، فقال له عبد المطلب:"والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك منه طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه". فقال حناطة: فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني بذلك.
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى المعسكر ووقف بباب أبرهة، فقيل لأبرهة: إن عبد المطلب ببابك، فقال: من هو عبد المطلب؟ قيل: إنه سيد قريش وصاحب عيش3 مكة، وهو الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رءوس الجبال. فأذن له أبرهة.
وكان عبد المطلب وسيمًا جميلًا شديد الهيبة والوقار. فلما رآه أبرهة، أجلَّه
1 بضم الميم، وفتح الغين المعجمة، وكسر الميم الثانية وتشديدها، وهذا الموقع يبعد عن مكة نحو ستة أميال، كما في "دلائل النبوة" 1/ 118.
2 سيرة ابن هشام 1/ 50، والبداية 1/ 170 وغيرها، وأنه أرسل حناطة بعد أن كان بعث من المغمس رجلًا من الحبشة، يقال له الأسود، على خيل حتى انتهى إلى مكة، فساق أموالًا وإبلًا من تهامة وغيرهم، فيها مائتي بعير لعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وكان يومها كبير قريش وسيدها. كما ذكر ذلك ابن هشام والبغوي واليعمري والدميري وغيرهم وقد قيل في عدد الإبل غير هذا، كما سيأتي بعد.
3 عند ابن هشام "عير" 1/ 51، وكذلك في "تاريخ الطبري" 2/ 120، وفي نسخة من ابن إسحاق عين بالنون، وكذلك جاء في "البداية" 1/ 172.
وأعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه.
فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: سله عن حاجته: فسأل الترجمان؟ فقال: حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا، هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟
فقال له عبد المطلب: "إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه ويحميه".
فرد أبرهة قائلًا: ما كان ليمتنع مني.
فأجابه: أنت وذلك.. فرد أبرهة على عبد المطلب المائتي بعير التي أصابها.. وانطلق عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر1، ثم تعلق بحلقة الكعبة وأستارها في ضراعة الخائف الوجل وإنابة العائذ المستغيث، وأخذ يقول:
لا همّ إن العبد يمـ
…
نع رحله فامنع رحالك2
1 وهذا هو المشهور الذي عليه أكثر كتب السيرة.
وقال ابن إسحاق:
وكان فيما يزعم بعض أهل العلم، أنه ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة يعمر بن نفاثة بن عدي سيد بني بكر، وخويلد بن واثلة سيد هذيل، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم.
قال ابن إسحاق:
والله أعلم أكان ذلك أم لا.
"سيرة ابن هشام" 1/ 52، و"البداية والنهاية" 1/ 172.
2 في أكثر المصادر "حلالك" بكسر الحاء المهملة، والحلال جمع حلة وهي جماعة البيوت. فكأنه أراد البيت وما حوله.
وقوله "لا همّ" أصلها: "اللهم" والعرب تحذف الألف واللام.
وانصر على آل الصليب
…
وعابديه اليوم آلك1
لا يغلبن صليبهم
…
ومحالهم أبدًا2 محالك3
هم جردوا لك جمعهم
…
والفيل كي يسبوا4 عيالك
عَمَدُوا حِماك بكيدهم
…
جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وقبـ
…
ـلتنا فأمر ما بدا لك
.. ثم طاف بالبيت منشدًا والناس معه يرددون:
يا رب لا أرجو لهم سواكا
…
رب فامنع منهم حماكا
امنعهموا أن يخربوا قراكا
…
إن عدوّ البيت من عاداكا5
وهكذا لجأ عبد المطلب ولجأت معه قريش إلى الله يطلبون عونه وحمايته، ثم خرجوا من مكة لكي يتحرزوا في شعف الجبال والشعاب، وينتظرون عدل الله مع هؤلاء الطغاة الظالمين..
وتحرك بعد ذلك جيش الأحباش مدلًا بعظمته وكبريائه، يتقدمه الفيلة بشكلها المهيب المخيف الذي لم تألفه العرب في حروبها، وكان عددهم ثلاثة عشر فيلًا
1 هذا البيت زاده السهيلي في "الروض" 1/ 70 وقال: لم يقع في الأصل.
2 في سائر النسخ التي وقفت عليها "غدوًا" بالغين المعجمة، أي غدًا، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك.
قالوا: ولم يرد عبد المطلب الغد بعينه، ولكن أراد قرب الزمان.
3 المحال، بكسر الميم القوة والشدة.
4 يسرقوا، وهذا البيت والذي بعده لم يقع في السيرة لابن هشام، ولا عند من نقل عنه ووقع في بعض الروايات اختلاف، وذكر بيوت لم تذكر هنا.
5 "سبل الهدى والرشاد" للصالحي 1/ 254.
توجهت جميعها في طريقها إلى الكعبة ما عدا الفيل الأكبر منها فإنه ظل جامدًا في مكانه، فإذا وجهوه إلى اليمن أسرع وهرول، وإذا وجهوه إلى الكعبة وقف ولم يتحول، وكأن الله قد ألهم ذلك الحيوان الأعجم بما تخبئه الحدثان، وما ينتظر ذلك الجيش المعتدي من خسف ونكال وهوان
…
وما كان مثل هذا الجيش القوي ليغلب أو يتراجع لولا قدرة القوي القاهر التي تجلت في هذه الآية الكبرى الباقية على الدهر، إذ أرسل الله إليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه -أمثال الحمص والعدس- لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك وليس كلهم أصابت1.
وذعر الأحباش واستولى عليهم الرعب والذهول فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألوا عن الطريق إلى اليمن، فقال أعرابي2 رآهم في هذه الحيرة، بعدما أنزل الله عليهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب
…
والأشرم المغلوب ليس الغالب
1 "سيرة ابن هشام" 1/ 54، و"الروض الأنف" 1/ 27، و"دلائل النبوة" لأبي نعيم 1/ 149، و"دلائل النبوة" للبيهقي 1/ 122- 123، و"البداية والنهاية" 1/ 173، و"المواهب اللدنية" 1/ 103.
وقال السهيلي في "الروض الأنف" 1/ 72:
وذكر النقاش أن الطير كانت أنيابها كأنياب السبع، وأكفها كأكف الكلاب.
وذكر البيهقي أن ابن عباس قال: أصغر الحجارة كرأس الإنسان، وكبارها كالإبل!
قال السهيلي:
وهذا الذي ذكره البرقي، ذكر ابن إسحاق في رواية يونس عنه.
وفي تفسير النقاش أن السيل احتمل جثثهم، فألقاها في البحر.
قلت: وسيأتي بعض ذلك.
2 هو نفيل بن حبيب، فيما ذكر ابن إسحاق وغيره. وسيذكره المؤلف، انظر الحاشية الرابعة الآتية.
وجعلوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة، وكلما سقطت أنملة خرج وراءها الدم والقيح الكثير، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يقولون1.
1 انتهى إلى هنا النقل من سيرة ابن هشام، ومن ذكرنا القصة عندهم.
أقول:
ومع شهرة هذه الحكاية هكذا، فإنها لم تأت من طريق متصل يعتمد عليه ويصح به النقل. على هذا التفصيل، وإن كان الأصل صحيحًا بلا ريب بدليل القرآن.
وقد جاءت روايات أصح نقلًا من هذه الرواية أذكرها مع الكلام على أسانيدها:
أ- عن ابن عباس قال: "أقبل أصحاب الفيل، حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب، فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا، ألا بعثت إلينا فنأتيك بكل شيء أردت.
فقال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله إلا آمن، فجئت أضيف أهله.
فقال: إنا نأتيك بكل شيء تريد، فارجع.
فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبد المطلب فقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله ثم قال:
اللهم إن لكل إله
…
حلالًا فامنع حلالك
لا يغلبن محالهم
…
أبدًا محالك
اللهم إن فعلت
…
فأمر ما بدا لك
فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر، حتى أظلتهم طيرًا أبابيل التي قال الله، عز وجل:{تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} فجعل الفيل يعج عجًّا: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} .
أخرجه الحاكم 1/ 535، والبيهقي 1/ 122 عنه، ورجاله ثقات إلا قابوس بن أبي ظبيان فهو لين الحديث، لكن يمكن تحسينه بشواهده.
وابن عباس، وإن لم يكن حاضرًا الواقعة، لكن من كان في مثل عمله يعتمد عليه في انتقاء الروايات.
ب- عن عبيد بن عمير قال:
"لما أراد الله عز وجل أن يهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيرًا، نشأت من البحر، كأنها الخطاطيف، بلق، كل طير منها معه ثلاثة أحجار مجزعة، في منقاره حجر، وحجران في رجليه، ثم جاءت حتى صفت على رءوسهم، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما من حجر وقع منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر
…
"
أخرجه البيهقي في "الدلائل" 1/ 123 - 124 وابن أبي حاتم -كما في البداية =
وإلى هذا الحادث العجيب يشير الله تعالى بقوله في سورة الفيل:
وبذلك يتبين لنا مدى الخطأ الذي وقع فيه بعض العلماء الذين أنكروا الطير والحجارة، وقالوا إن الله عز وجل يريد بالطير الرياح المتجمعة، وبالحجارة ذرات التراب التي حملت ميكروب الجدري، فإنه لم يعهد في لغة العرب أن يقال عن الرياح: إنها طير أبابيل أي جماعات من الطير، ولا ينبغي أن يقال ذلك إلا بطريق مجازي بعيد، ولا يصح أن يلجأ إلى مثل هذا المجاز ما دامت الحقيقة غير مستحيلة على قدرة الله1، وكذلك الذرات من التراب، لا يقبل في لغة العرب أن يقال عنها حجارة من سجيل، أي من طين مطبوخ بالنار وهو الآجر.
= "1/ 174" وغيرها- بسند حسن عن عبيد بن عمير، وكان أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يشهد الواقعة.
ج- عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس قال:
"كان من حديث أصحاب الفيل أن أبرهة الأشرم الحبشي كان ملك اليمن، وأن ابن ابنته أكشوم خرج حاجًّا، فلما انصرف من مكة نزل بكنيسة بنجران، فغدا عليها أناس من أهل مكة فأخذوا ما فيها من الحلي، وأخذوا متاع أكشوم، فانصرف إلى جده الحبشي مغضبًا
…
فذكر نحو حديث ابن إسحاق المتقدم غير أنه قال:
فأخذ مائة ناقة لعبد المطلب".
وهذا شاهد مرسل حسن، وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل" 1/ 145-148 وقال: رويت قصة أصحاب الفيل من وجوه، وسياق عثمان أتمها وأحسنها شرحًا.
وهذه الروايات الثلاث تؤيد رواية ابن إسحاق وتقويها. وثمة روايات أخرى.
1 ولأنه لا يجوز العدول عن ظاهر الكلام لمعنى مجازي إلا بقرينة، فكيف إذا كانت القرينة تمنع من ذلك؛ لأن المقام مقام إعجاز.
وإذا كانت الريح قد حملت ميكروب الجدري فلماذا هلك الأحباش وحدهم، ولم يهلك معهم العرب؟.
وإذا كان حادث الفيل قد وقع عام ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم فمن المعقول1 أن "سورة الفيل" قد نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا حادث الفيل بأعينهم، وبعضهم من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم فلو لم تكن الطيور طيورًا حقيقية والحجارة حجارة حقيقية لظهر من العرب من يسارع إلى تكذيب هذه السورة، ويعلن ذلك على رءوس الأشهاد وينتهزها فرصة في الكيد لمحمد صلى الله عليه وسلم والطعن عليه.
ولكن الواقع أن "سورة الفيل" قد نزلت، فتلقاها العرب بالقبول؛ لأنها تقرر حقيقة معروفة عندهم لا شك فيها ولا يجرؤ أحد على إنكارها.
وعلى هذا، فالطير الأبابيل، هي الطيور الحقيقية المعروفة لدى العرب، ولعلها غارات جوية وقعت في هذا العالم قبل الأوان، ولم يصنعها إنسان ليبطش بأخيه الإنسان، ولكن صنعها القهار ليكبح بها جماح الظلم والعدوان.
ولقد سجل العرب في شعرهم هذا الحادث العجيب، وتغنوا به أمام العصور والأجيال، ومن ذلك قول نفيل بن حبيب2 يصور ما وقع للأحباش في ذلك اليوم:
1 بل من المؤكد، وحتى لو لم يبق أحد ممن عاين الواقعة، كان يمكن أن يجابه بالتكذيب من أبناء من شهد؛ لأن هذا من غير شك يكون راسخًا عندهم عن طريق التواتر.
والعرب ناقشت وراجعت النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس لهم به علم، أفلا يراجعوا له فيما علموا، وانظر الآتي.
2 الماضي ذكره، انظر قبل قليل.
ألا حييت عنا يا رُدَينَا1
…
نعمناكم مع الإصباح عينا
حمدت الله إذا أبصرت طيرًا
…
وخِفْتُ حجارة تلقى علينا2
وقول أمية بن أبي الصلت:
إن آيات ربنا ثاقبات
…
لا يماري فيهن إلا الكفورُ
حبس الفيل بالمغمس حتى
…
ظل يحبو كأنه معقورُ3
وقول عبد الله بن قيس من قصيدة طويلة يذكر فيها قصة الفيل والطير والحجارة:
كاده الأشرم الذي جاء بالفيل
…
فولى وجشيه مهزوم
واستهلت عليهم الطير بالجندل
…
حتى كأنه مرجوم 4
1 ردين، مرخم ردينة، وهو اسم امرأة.
2 وهذا يؤيد ما تقدم من أن الطير والحجارة كانت حقيقية، إذ يمتنع أو يستبعد أن يقع التشبيه المجازي بعينه لواصفين، لا سيما إذا كان ذلك من بعيد المجاز، وما لم يؤلف عند العرب.
وقد ذكر ابن إسحاق بين البيتين، ثلاثة أبيات هي:
أتانا قابس منكم عشاء
…
فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت ولا يرينهْ
…
لدى جنب المحصب ما رأينا
إذًا لعذرتني وحمدت أمري
…
ولم تأسي على ما فات بينا
وكذلك جاءت هذه الأبيات في تاريخ الطبري وغيره.
3 زاد ابن هشام "1/ 62" بينهما بيتًا، وبعدهما أبياتًا، ومما زاد بينهما:
ثم يجلو النهار رب رحيم
…
بمهاة شعاعها منثور
4 قال السهيلي في "الروض" 1/ 81 قوله: "حتى كأنه مرجوم"، وهو قد رجم، كيف شبهه، وهل يجوز أن يقال في مقتول: كأنه كالمقتول. فنقول:
لما ذكر استهلال الطير، وجعلها كالسحاب يستهل بالمطر، والمطر ليس برجم، =