الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فنجوت، فقال له: اذهب حيث شئت ولا تُقم بالمدينة. فذهب إلى محل بطريق الشام تمر به تجارة قريش فأقام به واجتمع معه عدد من المسلمين الذين فروا -كذلك- من قريش، واجتمع إليهم عدد من الأعراب وقطعوا طريق التجارة على قريش وأثاروا الرعب بينهم.
فأرسلت قريش تستغيث بمحمد صلى الله عليه وسلم وتطلب منه إبطال هذا الشرط، وتعطيه الحق في إمساك من جاءه مسلمًا، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، وأراح الله المسلمين من هذا الشرط الذي كانوا متألمين منه.. وعلموا أن رأي الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم وأفضل من رأيهم.
وبذلك يتبين لنا أن شروط الصلح في حقيقتها نصر للمسلمين وفتح مبين، حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ما كان فتح في الإسلام أعظم من فتح الحديبية.
ولكن الناس قصر رأيهم عمّا كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وربه، والعباد يعجلون، والله لا يعجل لعجلة العباد، حتى تبلغ الأمور ما أراد
…
وصدق الله العظيم، فلقد سمي صلح الحديبية: فتحًا مبينًا وأنزل في شأنه سورة الفتح، وقال في أولها:
عمرة القضاء
1:
ولما استدار العام بعد الحديبية، وأهل شهر ذي القعدة، نادى الرسول صلى الله عليه وسلم في
1 لكونه جاء إليها ليقضي ما فاته من عمرة العام المنصرم.
المسلمين: أن استعدوا لعمرة القضاء. فلبى المسلمون النداء وساروا إلى مكة وفق صلح الحديبية، والسيوف في قربها، وساقوا الهدي أمامهم وتقدمهم محمد صلى الله عليه وسلم راكبًا ناقته القصواء، وقلوبهم تكاد تطير من الفرح والسرور، ولا غرو فهم سيدخلون أم القرى، ويطوفون بالبيت العتيق، ويتنسمون عرف هذا الوطن المقدس الأثير لديهم، والعزيز عليهم.
ولما سمع أهل مكة بمقدم الرسول وأصحابه، ورأوا أنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من مكة، ترك الكثير منازلهم إلى التلال والجبال المشرفة عليها، وأخذوا ينظرون إلى الرسول وأصحابه، وهم يحيطون به إجلالًا وإكبارًا..
وحينما ظهر للمسلمين البيت الحرام انطلقت ألسنتهم بالدعاء: لبيك اللهم لبيك، حتى إذا بلغوا المسجد الحرام اضطبع1 الرسول صلى الله عليه وسلم بردائه وأخرج عضده اليمنى، ثم قال:"اللهم ارحم امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة"2. ثم طاف بالبيت سبعًا، والصحابة يطوفون معه، ثم انتقل إلى الصفا والمروة فسعى بينهما سبعة، ثم نحر الهدي عند المروة وحلق رأسه.
وبذلك أتم فرائض العمرة -كل هذا وعيون قريش تنظر إليهم من فوق أبي قبيس في حسرة بالغة وألم عميق، وأخذ المسلمون يجوسون خلال مكة، والمهاجرون يزورون دورهم ويصحبهم أصحابهم من الأنصار وهم جميعًا فرحون مستبشرون، واثقون من نصر الله الذي وعد به المؤمنين من عباده.
وانقضت الأيام الثلاثة التي سمح للمسلمين بأن يقيموها في مكة عملًا باتفاق
1 أي أدخل الرداء من وسطه تحت إبطه الأيمن، ورده على كتفه الأيسر من جهة صدره وظهره، والاضطباع سُنة في الأشواط الثلاثة الأول.
2 هذا لفظ ابن إسحاق في السيرة، كما في "البداية" 4/ 227، وللحديث شواهد بهذا المعنى يصح بها الخبر.
الحديبية.. وفي ظهر اليوم الرابع جاء سهيل بن عمرو بطل معاهدة الحديبية من قبل قريش يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: ننشدك العهد بأن تخرج من أرضنا عملًا بالاتفاق!
فلم يتردد صلى الله عليه وسلم في تنفيذ عهده مع قريش، وأذن في المسلمين بالرحيل، فعادوا إلى المدينة سالمين مغتبطين.
ولا شك أن دخول المسلمين مكة، وظهورهم بهذا المظهر الرائع أثر في نفوس الكثير من أبنائها، ولا أدل على ذلك من موقف خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وحارس الكعبة عثمان بن طلحة، فقد أسلموا وأسلم معهم الكثير، وعلت كلمة المسلمين في الحجاز، وكتب الله للمسلمين عزة ونصرًا، وللإسلام خلودًا وانتشارًا.