الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهل تكون يثرب مشرق النور الإلهي وينبوع الخير الأبدي؟ 1
وظل هكذا، حتى عاد مصعب إلى مكة في موسم الحج بعد إقامة دامت هناك حوالي عام تقريبًا، وقص على النبي صلى الله عليه وسلم خبر المسلمين بالمدينة وأنهم في ازدياد وقوة، وأنهم بعد أيام سيجيئون في موسم الحج أكثر عددًا وأعظم إيمانًا بالله ورسوله.
1 انظر "المواهب اللدنية" 1/ 280، وما قدمنا من المراجع.
بيعة العقبة الثانية:
وقد أعد الرسول صلى الله عليه وسلم للأمر عدته، وفكر في بيعة ثانية أعظم من البيعة الأولى، وأوسع مما كان يدعو إليه أهل مكة ومن حولها.
وجاء حجيج المدينة إلى مكة في الموسم: مؤمنهم وكافرهم، وكان فيهم خمسة وسبعون مسلمًا، ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان1. اثنان وستون من الخزرج، وأحد عشر من الأوس، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بمجيئهم ورغبتهم في لقائه، فاتصل سرًّا بزعمائهم حتى لا تعلم قريش بالأمر فتعمل على إلحاق الأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتفسد على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين خطة اجتماعهم، كما أخفى مسلمو يثرب أمرهم على من معهم من المشركين.
1 على حد قول ابن إسحاق، كما في السيرة، وقريب منه قول ابن سعد والحاكم كما ذكر القسطلاني في "المواهب" 1/ 281.
اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بمسلمي يثرب:
وقد واعد النبي صلى الله عليه وسلم مسلمي يثرب أن يقابلهم في آخر موسم الحج حتى لا
يكون هناك شبهة عند قريش، فهم في كل يومٍ يغدون ويروحون أمامهم، أما إذا غابوا عن الأنظار انكشف أمرهم، كما واعدهم أن تكون المقابلة ليلًا، وأن يكون مكانها عند العقبة، وانتظر مسلمو يثرب حتى انتهى أمر الحج وحان الموعد، فخرجوا من رحالهم بعد انقضاء ثلث الليل مستخفين حتى لا ينكشف أمرهم، ووصلوا العقبة وعلى رأسهم الاثنا عشر رجلًا الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم البيعة الأولى وقاموا ينظرون مقدم صاحب الرسالة.
وأقبل محمد صلى الله عليه وسلم إلى المكان المحدد -العقبة- ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذٍ على دين قومه من الشرك، إلا أنه أحب أن يحضر مجلس ابن أخيه ليطمئن ويستوثق له، وكان ذلك قبل الهجرة بشهور وفي سنة 622م.
ولما تكامل المجلس كان العباس أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج، إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، وهو في عزٍّ من قومه ومنعة في بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم خاذلوه بعد خروجه إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزٍّ ومنعة من قومه وبلده.
قال اليثربيون -وقد سمعوا كلام العباس-:
قد سمعنا ما قلت وإن عزائمنا معقودة على ما أتينا من أجله. فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
وعند ذلك تكلم عليه الصلاة والسلام وبدأ حديثه بآيات من القرآن الكريم كما كانت عادته قبل البدء في الحديث، ثم دعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال:"أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم". فأخذ سيدهم البراء بن معرور وكان له في تلك الليلة المقام الكريم بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه ذرارينا؛ فبايعنا يا رسول الله، فنحن
-والله- أبناء الحرب ورثناها كابرًا عن كابرٍ.
وتبعه الباقون، فمدوا أيديهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واحدًا بعد واحد يبايعون، وجاء بعدهم النساء يبايعن أيضًا.
ولما فرغوا من البيعة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم أمراء".
فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء النقباء: "أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي"1.
وكذلك تمت البيعة الثانية وذهب كل إلى رحله في ظلام الليل، وهم على ثقة ويقين من أنه لا يعلم بهم أحد إلا الله.
ولم يكد نور الصباح يظهر حتى كان أمر تلك البيعة حديث قريش فبدأت نفوسهم تضطرب لما سمعت، وقلوبهم تمتلئ فزعًا لهذا الحادث الخطير، وصمموا على أن يحولوا بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى يثرب، حتى لا يعظم أمره فيها ويصبح خطرًا عليهم.
وهذا التحول في أمر الدعوة وصاحبها محمد صلى الله عليه وسلم حيث أجمعوا أمرهم على أن
1 أسند ذلك ابن إسحاق، كما عند ابن هشام 2/ 47، وعنه الطبري 2/ 362، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 445 وما بعدها.
وأخرج أحمد في مسنده 2/ 339، والبيهقي في "الدلائل" 2/ 442-443 من حديث جابر نحو هذا المعنى، دون ذكر كلام العباس.
ومن تتبع روايات العقبة الثانية فإنها كثيرة جدًّا المذكور فحواها، وانظر:"طبقات ابن سعد" 1/ 221، "تاريخ الطبري" 2/ 361، "الدرر في اختصار المغازي والسير" 68، "تاريخ الإسلام" للذهبي 2/ 200، "البداية والنهاية" 3/ 150، وابن سيد الناس 1/ 192، والنويري 16/ 312، و"الكامل" لابن الأثير 2/ 68، وغير ذلك.
يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فساروا إليهم وخاطبوهم قائلين: يا معشر الخزرج، بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه -والله- ما من حيٍّّ من العرب يغضبنا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم أكثر منكم. فلم يجبهم أحد ممن أسلم بكلمة.
أما المشركون منهم فقد حلفوا لهم أنه لم يحدث من ذلك شيء وما علموا به، وقال عبد الله بن أُبي وهو سيد من سادات مشركي يثرب: إن هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليتفقوا على مثل هذا وما أعلم به. فاعتقد رؤساء قريش صدق قوله وانصرفوا1.
وبعد ذلك بقليل بدأت قوافل الحجاج تعود إلى أوطانها، ولما مضى على رحيل أهل يثرب بضعة أيام تأكد لدى قريش أن ما علموه من أمر البيعة صحيح، وأن حديث عبد الله بن أُبيّ حديث غير العارف بها، ووقفت على تفاصيل ما دار في بيعة العقبة، فعرفت عدد الذين بايعوا ولم يخف عليهم كذلك ما تعاهدوا عليه من حمايتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، لذلك قامت قيامتهم وخرجوا يتعقبون الركب المدني للإيقاع به، فلم يدركوا منهم إلا سعد بن عبادة وكان قد تأخر عن القافلة، فأخذوه وردوه إلى مكة مسحوبًا من شعره الطويل وعذبوه حتى أجاره جبير بن مطعم بن عدي، وأطلق سراحه ثم عاد إلى المدينة2.
أخرج هذه الحادثة ابن سعد من وجوه كثيرة 1/ 243 ترتيب طبقاته، لكن كلها من طريق شيخه محمد بن عمر الواقدي. وذكر هذا ابن إسحاق من وجه آخر، كما أورده عنه الحافظ ابن كثير في "البداية" 3/ 164، وذكر القصة ابن الأثير في "الكامل" 3/ 70 وغيره.
2 أخرج قصة سعد هذه ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، كما عند ابن هشام في "السيرة" 2/ 91-92، وابن كثير في "البداية" 3/ 164 وغيرهما.