الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة الغرانيق:
قصة الغرانيق قصة مشهورة، وقد كثر فيها كلام الكتاب والباحثين المعاصرين. ومن العجيب أن بعض المراجع المهمة كالطبري في تاريخه وابن سعد في طبقاته، وابن الأثير في كتابه الكامل: قد أثبتت هذه القصة دون أن تعلق عليها بما يدل على بطلانها وفساد، مع أنها تحمل في طياتها ما يوهنها، بل ما يهدمها من أساسها1.
1 وأنا أذكر هنا، ملخص الكلام فيها قدر الإمكان فأقول: جاءت من أوجه متعددة:
أ- عن سعيد بن جبير، عن ابن جرير 17/ 120 بسند صحيح لفظه:
لما نزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتُمْ اللَاّتَ وَالْعُزَّى} قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى" وسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتكم بخير قبل اليوم، فسجد المشركون.
فأنزل الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول
…
} الآيات 52-55 من سورة الحج، وكذلك أخرجه جماعة.
وقد روي هذا الحديث موصولًا عند البزار والطبراني وآخرين عن سعيد عن ابن عباس، كما في تخريج "الكشاف" 4/ 144 للحافظ ابن حجر، وفي سند الموصول ضعف.
والراجح أن الصحيح الإرسال لا الوصل.
ب- عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عند ابن جرير 17/ 121 وغيره بسند صحيح، وهكذا أخرجه جماعة كما في "الدر المنثور" 4/ 367.
ج- عن أبي العالية، عن ابن جرير 17/ 120 وغيره بسند صحيح.
د- عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس بسياق مطول، عند ابن جرير 17/ 119 بسند ضعيف.
هـ- عن قتادة، عن ابن جرير 17/ 122 بسند صحيح إليه.
و عن عروة بن الزبير، بسند ضعيف كما في "المجمع" 6/ 32 7/ 70 للهيثمي.
ز- عن أبي صالح، مرسلًا، وموصولًا عن ابن عباس، بإسناد واهٍ.
ح- عن الضحاك مرسلًا أو معضلًا، بسند واهٍ.
ط- عن محمد بن فضالة، والمطلب بن عبد الله بن حنطب، عند ابن سعد 1/ 37 ق بسند واهٍ.
ي- عن ابن عباس عند ابن جرير 17/ 120 بسند واهٍ......................... =
ومجمل هذه القصة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لما رأى تجنب قريش إياه وإيذاءهم له ولأصحابه تمنى ألا ينزل عليه شيء من القرآن ينفرهم، فجلس يومًا في أحد أنديتهم حول الكعبة، فقرأ عليهم سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ اللَاّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19، 20] .
فقرأ بعد ذلك: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى"، ثم مضى إلى نهاية السورة كلها وسجد في آخرها عند قوله:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ، وهناك سجد القوم جميعًا، ولم يتخلف منهم أحد، وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، أما إذا جعلت لها نصيبًا فنحن معك، وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم. وفشا أمر ذلك في الناس حتى بلغ أرض الحبشة، فقال المسلمون بها: عشائرنا أحب إلينا. ورجعوا إلى مكة.
وتضيف الرواية أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه قول قريش: أما إذا جعلت لنا
= الخلاصة:
والحاصل أن الحديث يحتج به من يقوي المراسيل ببعضها، إذا لم يكن فيها مخالفة. ويرده من رأى فيها اختلافًا.
وكذلك يرده من لا يحتج بالمراسيل مهما كثرت. ومن هؤلاء:
أ- ابن خزيمة صاحب الصحيح.
ب- البيهقي صاحب الصحيح.
ج- ابن العربي القاضي.
د- القاضي عياض.
هـ- الرازي الفخر صاحب التفسير.
و القرطبي صاحب "الأحكام".
ز- الشوكاني صاحب "النيل" وغيره. وغيرهم.
وممن قوى القصة باجتماع الطرق الحافظ ابن حجر في "الفتح" 8/ 354-355 وآخرون على أنهم شبه متفقين على عدم صحة هذه القصة من وجه صحيح مسند كما نص على ذلك ابن كثير والشوكاني، وآخرون.
نصيبًا فنحن معك، وأنه جلس في بيته حتى إذا أمسى أتاه جبريل فعرض النبي صلى الله عليه وسلم سورة النجم. فقال جبريل: أو جئتك بهاتين الكلمتين؟ مشيرًا إلى: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى". فقال محمد صلى الله عليه وسلم حينئذٍ: "لقد قلت على الله ما لم يقل
…
وبذلك عاد يذكر آلهة قريش بالشر ويسبهم، وعادت قريش لمناوأته وإيذاء أصحابه.
تلكم هي قصة الغرانيق في جملتها، وهي قصة واضحة الكذب، ولغة الوضع فيها ظاهرة
…
ولذلك لم تنطل على كثير من العلماء والثقات أمثال محمد بن إسحق2 والقسطلاني3، فقالوا عنها: إنها من وضع الزنادقة. ولعل بعض المؤرخين الذين أثبتوها كانوا يؤمنون بفسادها، ولكنهم وضعوها في كتبهم لاستيفاء جميع الروايات التي وردت في الموضوع الذي يتعرضون له، مطمئنين إلى فطنة القارئ ويقظته. ولعلها دست إلى بعض هذه الكتب بعد موت أصحابها4
…
وحسبنا في إبطال هذه القصة، أن نقرأ الآيات القرآنية في سورة النجم، لنرى
1 سورة الإسراء، الآيات 73-74-75.
2 انظر كلامه في "فتح القدير" 3/ 447، و"تفسير الرازي" 6/ 193، و"تفسير الآلوسي" 17/ 161، و"الفتح" 8/ 354.
3 قاله في "عمدة القاري" 9/ 47.
4 هذا بعيد جدًّا، بل هو جهل مستطير، وقول مثل هذا بلا بينة، وحجة ماضية، يبطل كل ما جاء في الكتب لمجرد الدعوى.
أنها أبلغ رد على ما تدل عليه الجملتان الموضوعتان، وذلك حيث يقول سبحانه:
فكيف يعقل أن تحشر -في هذه الآيات التي وضحت دلالتها على حقارة الأصنام وسفه من يقدسونها- جملتان ترفعان من شأن هذه الأصنام وتجعلان لها شفاعة مرجوة؟ 1
وكيف يمكن أن يسجد المشركون بعد أن يسمعوا هذه الآيات، وفيها طعن صريح على آلهتهم حيث يقول الله عنها:{إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: من الآية: 23] .
وأما أن محمدًا عليه الصلاة والسلام قد كبر عليه قول المشركين:
إنهم معه ما دام قد جعل لآلهتهم نصيبًا من الشفاعة
…
فهذا كلام لا يتفق مع جوهر الدعوة الإسلامية ومبادئها العامة التي تحارب الشرك بكل مظاهره، والتي تقوم على التوحيد الخالص البعيد عن كل الوسطاء والشفعاء
…
2.
1 وهذا الرد يصح فيما لو كان أن هذه الآيات نزلت جميعها دفعة واحدة، والذي في الأحاديث المرسلة الصحيحة الإسناد لمرسليها، ليس فيها ذلك، ثم هذا أيضًا لا يمنع من حصول ذلك عند من يقول أن هذا لم يكن عن قصد وإرادة، وعند من يقول كذلك أن ابليس هو الذي دسها بين السكتات، كما سيأتي، وأما ثبوت نزول النجم جميعها كما في البخاري، فذلك في قصة أخرى ولا مانع من التعدد، كما سيأتي ذكر ذلك.
2 هذا مما لايختلف فيه اثنان، لكن من قال أن ذلك خرج من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه الإيمان والتصديق والقصد. حاشا لله أن يكون وقع ذلك حتى عند من يقول بصحة الواقعة.
وإنما ذلك عندهم كما هو في صريح المنقول في هذه الأخبار أن الآيات قالت بعد ذلك {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي تكلم الشيطان بذلك وألقاه في الأسماع، فسمعه المشركون. أو أنه لقنه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقاله عن غير قصد - وفي الثاني بعد.
وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوحى إليه بعد ذلك بتلك الآيات الكريمة وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ} 1.
فلا شك أن هذه الآيات لا تؤيد مثل هذا الادعاء ولا تفيد وقوع مثل هذا الافتراء لأن الله يقول: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} 2.
وما دام الله قد ثبته على الحق فقد حال بينه وبين الافتراء على الله والركون إلى أعداء الحق.
وأما ما ساقه هؤلاء الكاذبون الذين وضعوا هذه القصة من الاستشهاد على وقوعها بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 3.
وتفسيرهم التمني بالقراءة وتعزيزهم لهذا التفسير ببيت من الشعر يحكي قصة عثمان بن عفان رضي الله عنه ليلة مقتله فيقول:
تمنى كتاب الله أول ليلة
…
وآخرها لاقى حمام المقادر
فهذه الآية الكريمة لا ينبغي أن يفسر التمني فيها بالقراءة؛ لأن هذا التفسير بعيد كل البعد عن المقصود، وليس له في الأساليب العربية وجود إلا في هذا البيت وحده، وفي ذلك دليل واضح على أن هذا البيت قد وضع لهذا
1 سورة الإسراء، الآية 73.
2 سورة الإسراء، الآية 74.
وهذا الرد يصح تمامًا فيما لو كان المراد وقوع التثبيت ساعة الواقعة، لا بعدها، ولا دليل على أحد الأمرين.
3 سورة الحج، الآية 52.
الغرض خاصة1، هذا ولو أننا فسرنا التمني بمعنى القراءة فإن معنى ذلك أن يلقي الشيطان في قراءة كل نبي كلامًا ليفتن به الناس ثم ينسخه الله بعد ذلك، وهذا ما لم يقع للأنبياء من قبل كما عرفنا من تاريخهم، وذلك فضلًا عن أن كثيرًا من الأنبياء لم تنزل عليهم كتب حتى يغير الشيطان فيها، ثم ينسخ الله بعد ذلك ما يفعله الشيطان. على أن سنة الله في رسله وأنبيائه أن يؤلف حولهم القلوب في مبدأ دعواتهم بإجراء المعجزات والخوارق على أيديهم، بدل أن يمكن الشيطان من إلقاء الفتنة وإشعالها بين أتباعهم بنسخ ما ينزل عليهم فينفر الناس منهم ويضعف الثقة بهم.
والآية -حينئذ- تفسر على النحو الواضح المألوف في لغة العرب2، ويكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى هداية قومه ألقى
1 كذا قال، وهذا باطل، وقد أنكر المؤلف بذلك الصواب المشهور. وأنكر استعمال العرب، وكذلك غير هذا البيت، كما في "مجاز القرآن" 2/ 54. و"تاج العروس" 20/ 202، و"زاد المسير" 5/ 442 وغير ذلك.
وقال ابن الجوزي في "زاد المسير" 5/ 441 قوله تعالى: {تَمَنَّى} قال الأكثرون: تلا. وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" 1/ 93 في فصل الاستعاذة: السلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
وجزم بذلك ابن جرير 17/ 190.
ولو شئنا نعدد من قال ذلك أو جزم به، لسودنا صفحات كثيرات، حتى عند من يذهب إلى تضعيف حادثة الغرانيق، ويجيب عليها ويستدل كالقرطبي مثلًا.
2 لكن أيضًا في معنى تمنى غير ذلك من المعاني، كما تجده في كتب اللغة، ككذب مثلًا، واختلق. والأصل في التفسير أنه إذا جاء في السُّنة ما يفسر الآية، أو في القرآن لم يعدل عن ذلك، لأن القرآن يفسر بعضه بعضًا، وكذلك السُّنة تفسر القرآن. فلذلك القول أبدًا برجوع التفسير للسُنة إن ثبت بذلك شيء.
وبه يعلم أن تفسير الآية متعلق بثبوت حادثة الغرانيق، أو وهائها، لا بالمألوف في اللغة أو الأكثر استعمالًا مثلًا.
ولو جرى القول بتفسير القرآن على المألوف مطلقًا، دون الرجوع لآيات أخرى، وأحاديث صحيحة، وروايات عن السلف لفسرنا كثيرًا من القرآن على غير المراد به.
الشيطان في أمنيته، أي وضع الشيطان في طريق تحقيق أمنيته العقبات والعراقيل1، فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي فيذهب الله ما وضعه الشيطان من تلك العقبات، ثم يحكم الله آياته أي يظهر الحق ويرسي أسسه2 ودعائمه، والله عليم حكيم، وصدق الله العظيم حيث يقول عن كتابه الكريم:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} 3.
وبهذا تبين لنا أن قصة الغرانيق قصة مختلقة، دست إلى بعض الكتب القديمة4. وإذن فليست هي السبب في رجوع المسلمين من الحبشة5، وإنما رجع هؤلاء المسلمون إلى مكة بسبب ما علموا من إسلام حمزة وعمر واعتقادهم أن إسلام هذين البطلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم6.
1 وهذا مبني على وجود مقدر لم يدل عليه دليل، فكيف يحكم له؟
2 والرأي عندي في هذا إن صح الخبر، أن معنى تمنى أي كذب واختلق، وأنه ترصد -أي الشيطان- سكتاته صلى الله عليه وسلم بين الآية والآية، فقال تلك الكلمات، حتى ظنها السامع من جملة الكلام وأشاعها
…
قال القرطبي: وهذا التأويل أحسن ما قيل في هذا 12/ 83.
وانظر "الشفاء" للقاضي عياض 2/ 116-131، ففيه مناقشة طويلة، وغير مما قدمته من المراجع، وكذلك "المواهب اللدنية" 1/ 248-258 الذي أطال في الكلام ورجح في الآخر هذا الذي رجحه القرطبي وذكر أنه ترجيح ابن العربي، والطبري من قبل.
3 سورة الشعراء، الآية 210.
4 هذا قول من جهل العلم، وكيف تدس قصة بأسانيدها في عشرات كتب التفسير والحديث، مع اختلاف النسخ، وتباين البلدان، واتفاق النقلة عن تلك الكتب.
ولا نطيل في الرد على هذا فهو أسخف من أن يجاب عنه.
5 وهذا على كل حال، لا علاقة له بحدوث القصة أم لا.
6 وهذا قول بعض من روى السيرة.
وقد قال ابن كثير في "البداية" 3/ 90: ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب، وهو ما ثبت في الصحيح وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس مع المشركين يومًا، وأنزل الله عليه:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] ، فقرأها عليهم، فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس، وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين -فذكر قصة الغرانيق- ثم قال:
وقد أحببنا الضرب صفحًا عن ذكر قصة الغرانيق لئلا يسمعها من لا يضعها مواضعها، إلا أن أصل القصة في الصحيح يعني الحديث الماضي عند البخاري وغيره.