الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهكذا حمى الله بيته المحرم من عدوان الظالمين؛ لأنه البيت العتيق الذي كان مصدر الهدى والنور منذ رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فلما تغيرت الأحوال وعبد العرب الأصنام، وتركوا النور، وتخبطوا في الظلام، شاء الله ألا يطول عليهم الأمد في الظلام، وأراد بهم الخير فحمى هذا البيت من عدوان الأحباش ليعود إليه مجده التليد، ويتلألأ النور فيه من جديد، على يدي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نبي الإسلام الذي ولد في هذا العام1، ثم بعثه الله بعد ذلك هداية ورحمة للعالمين.
= وإنما الرجم بالأكف ونحوها، شبهه بالمرجوم الذي يرجمه الآدميون، أو من يعقل ويتعمد الرجم من عدو ونحوه، فعند ذلك يكون المقتول بالحجارة مرجومًا على الحقيقة.
ولما لم يكن جيش الحبشة كذلك، وإنما أمطروا حجارة، فمن ثم قال كأنه مرجوم، انتهى.
قلت: فأفاد التشبيه معنيين:
الأول: أن الطيور كانت متعمدة للرمي، كما يتعمد الراجم الرجم، وهذا من الإعجاز.
الثاني: شدة النكال الحاصل بالمقتول حتى كأنه رجم، وأصابته الحجارة الكثيرة في كل موضع، عبارة عن كثرة ما سقط عليهم من الحجارة.
1 كونه صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، جاء من طرق متعددة:
عند أبي نعيم في "الدلائل" 1/ 144، وابن إسحاق في "السيرة" 1/ 159، والترمذي في سننه "3623" وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن إسحاق، والحاكم في "المستدرك" "2/ 603" وقال: صحيح على شرط مسلم، والبزار والطبراني كما في "مجمع الزوائد" 1/ 196، وابن سعد في "الطبقات" 1/ 101.
ومجموع هذه الروايات يقتضي صحة ذلك.
بقية الأخبار عن عمارة البيت العتيق:
وقبيل البعثة النبوية، وحينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في الخامسة والثلاثين من عمره
أصاب الكعبة سيل جارف صدع جدرانها، فهدمتها قريش بعد تردد، ثم أعادت بناءها، حتى إذا وصلوا إلى مكان الحجر الأسود اختلفوا وكادت تنشب بينهم حرب طاحنة لولا أنهم احتكموا إلى أول داخل من باب الصفا، فكان هذا الداخل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وهو المعروف لديهم بالأمين. فاستبشروا به وحكموه فيما شجر بينهم.
فرأى بحكمته أن يضع الحجر في ثوب، ثم طلب إلى رؤساء القبائل المتنازعة أن يرفعوه، ثم وضعه بيده في مكانه1.
1 مختصر من سيرة ابن هشام 1/ 204- 209، و"الروض الأنف" 1/ 225، و"المواهب اللدنية" 1/ 193، وغير ذلك.
ولم يسند ابن إسحاق هذه الرواية بإسناد معتبر، فتارة يقول: حدثني بعض من يروي الحديث، ومرة يقول: حُدِّثنا، وثالثة يقول: زعم بعض أهل الرواية.
وأنا أنقل هنا أصح ما جاء في ذلك من الروايات المسندة:
أ- عن جابر قال: لما بُنيت الكعبة، كان العباس والنبي صلى الله عليه وسلم ينقلان من الحجارة فقال العباس: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، فقال:"إزاري إزاري" فقام فشد عليه إزاره.
أخرجه أحمد 1/ 380، والبخاري رقم "1852"، ومسلم "3/ 121" وغيرهم.
وجابر وإن لم يشهد الواقعة، فلعله سمع ذلك من العباس أو ممن يثق به.
ب- عن عبد الله بن السائب قال:
كنت فيمن بنى البيت، وأخذت حجرًا فسويته ووضعته إلى جنب البيت، وإن قريشًا اختلفوا في الحجر حين أرادوا وضعه، حتى كاد أن يكون بينهم قتال بالسيوف، فقالوا: اجعلوا بينكم أول رجل يدخل من الباب.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يسمونه الأمين -في الجاهلية- فقالوا: قد دخل الأمين، يا محمد قد رضينا بك.
فدعا بثوب فبسطه
…
-فذكر مثل ما عند ابن إسحاق.
أخرجه أحمد، كما في "المجمع" 3/ 292، والحاكم في "المستدرك" 1/ 458، وأبو نعيم في "الدلائل" ص175، وغيرهم بسند رجاله ثقات، لكن هلال بن خباب أحد رواته تغير حفظه في آخر أمره.
ج- عن علي بن أبي طالب:
-وذكر حديثًا طويلًا فيه جميع ما جاء عند عبد الله بن السائب-...... =
وبذلك انتهى النزاع والخصام وحل الصفاء والوئام.
وكانت الوثنية قد تسربت إلى مكة في عهد الخزاعيين، وكانت الأصنام تحيط ببيت الله المحرم على عدد قبائل العرب، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة في العام الثامن الهجري، طهر الكعبة من الأصنام، وأعلن فيها كلمة التوحيد ومبادئ الإسلام.
ثم توالت الأحداث بعد ذلك على المسلمين، فأصيب المسجد الحرام في عهد يزيد بن معاوية على يدي الحصين بن نمير الذي رمى الكعبة بالمنجنيق حتى تناثرت حجارتها واشتعلت فيها النيران.
ولما مات يزيد وانفك الحصار عن مكة، بدأ عبد الله بن الزبير في بناء الكعبة من جديد1.
= أخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 458، والبيهقي في "دلائل النبوة" 2/ 56 ورجاله ثقات.
وبهذا تكون القصة ثبتت.
وانظر "فتح الباري" 3/ 441-442 فإنه ذكر الاختلاف في وقت حصول هذا البناء فقال:
فقال مجاهد: كان ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة، وكذا رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن جبير بن مطعم، وبه جزم موسى بن عقبة في مغازيه. والقول الأول: وأنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم خمس وثلاثون -أو هو قبل المبعث بخمس سنين- هو الأشهر، وبه جزم ابن إسحاق، ويمكن أن يجمع بينهما بأن هدم الكعبة كان أولًا، ثم تم البناء في الوقت الآخر.
1 هذه الرواية لابن سعد، كما في "فتح الباري" 3/ 445.
وقد صح في البخاري "1586" عن يزيد بن رومان قال: "شهدت ابن الزبير حين هدمه -للبيت- وبناه، وأدخل فيه الحجر وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنة الإبل".
وفي لفظ لمسلم: "لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاه أهل الشام، فكان من أمره ما كان
…
". وروى الفاكهي في كتاب مكة من طرق أبي أويسة، عن يزيد بن رومان وغيره: "لما أحرق أهل الشام الكعبة ورموها بالمنجنيق، وهت الكعبة".
ونحو هذا جاءت روايات متعددة مذكورة في "الفتح" 3/ 445، وذكر ابن حجر الخلاف في وقت البناء هل كان سنة أربع أو خمس وستين، ثم قال:
ويمكن الجمع بين الروايتين، بأن ابتدأ البناء سنة أربع، وانتهى سنة خمس -أي وستين- فامتد أمده إلى الموسم ليشنع بذلك على بني أمية.
قلت: وكان سبقه لهذا الجمع ابن الجوزي في "المنتظم" ص1553 في حوادث سنة خمس وستين.
يقول العلامة تقي الدين الفاسي في كتابه "شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام":
وأما بناء ابن الزبير للكعبة فهو ثابت مشهور، وسبب ذلك توهن الكعبة من حجارة المنجنيق، التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير في مكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة، لمعاندته يزيد بن معاوية وما أصابها مع ذلك من الحريق بسبب النار التي أوقدها بعض أصحاب ابن الزبير في خيمة له، فطارت الرياح بلهب تلك النار فأحرقت كسوة الكعبة والسياج الذي بني في الكعبة حين عمرتها قريش، فضعفت جدران الكعبة حتى إنها لينقض من أعلاها إلى أسفلها، ويقع الحمام عليها فتتناثر حجارتها1..
ولما زال الحصار عن ابن الزبير لإدبار الحصين بن نمير من مكة بعد أن بلغه موت يزيد بن معاوية رأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيها، فوافقه على ذلك نفر قليل، وكره ذلك نفر كثير منهم ابن عباس2 رضي الله عنهما.
ولما أجمع على هدمها خرج كثير من أهل مكة إلى منى مخافة أن يصيبهم عذاب، وأمر ابن الزبير جماعة من الحبشة فهدمتها، رجاء أن يكون فيهم الحبشي الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه أنه يهدمها فهدمت الكعبة أجمع حتى بلغت الأرض..
وقد اختلفت الأخبار فيمن وضع الحجر الأسود في موضعه من الكعبة حين
1 أخرج هذه الرواية في قصة الحريق الفاكهي عن عثمان بن ساج كما في "الفتح" 3/ 445، لكن في القصة أيضًا أن سبب الحريق هو الحصين بن نمير وجيشه.
2 "البداية والنهاية" 8/ 271 نقلًا عن الواقدي، و"فتح الباري" 3/ 448 ونسبه للفاكهي وجزم بذلك.
بناها ابن الزبير فقيل: وضعه عبد الله بن الزبير بنفسه، وقيل: وضعه عباد بن عبد الله بن الزبير1.
ولما قتل عبد الله بن الزبير بيد الحجاج بن يوسف الثقفي أرسل الحجاج إلى الخليفة عبد الملك بن مروان يخبره بأن ابن الزبير حين بنى الكعبة زاد فيها ما ليس منها -أي وسعها بعض الشيء- وأحدث فيها بابًا آخر لم يكن فيها أيام الجاهلية2، ويستأذنه في ردِّ ذلك إلى ما كان عليه فأذن له عبد الملك في ذلك3..
1 "شفاء الغرام" 1/ 98.
2 لم يحدث ابن الزبير ذلك من تلقاء نفسه، ولكن سمع في ذلك خبرًا صحيحًا عن خالته أم المؤمنين عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة:
"لولا حدثان قومك بكفر، لنقضت الكعبة، ولأدخلت فيها الحِجْر، فإن قومك قصرت بهم النفقة ولجعلت لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا، يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر
…
".
وقد سمع هذا الحديث من عائشة جماعة كثيرون منهم:
أ- عبد الله بن محمد بن أبي بكر.
ب- الأسود بن يزيد.
ج- عروة بن الزبير. وغيرهم، صح جميع ذلك في "صحيح البخاري" 1583-1584-1585-1586، و"مسلم" 3/ 212 وغيرهما.
3 قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" 3/ 448:
وذكر الأزرقي، أن سليمان بن عبد الملك هم بنقض ما فعله الحجاج، ثم ترك ذلك لما ظهر له أنه فعله بأمر أبيه عبد الملك.
ولم أقف في شيء من التواريخ على أن أحدًا من الخلفاء ولا من دونهم غير من الكعبة شيئًا مما صنعه الحجاج إلى الآن -سيأتي ذكر وقت كلامه- إلا في الميزاب والباب والعتبة، وكذلك وقع الترميم في جدارها غير مرة، وفي سقفها، وفي سلم سطحها، وجدد فيه الرخام، فذكر الأزرقي عن ابن جريج أن أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك.
ووقع في جدارها الشامي ترميم في شهور سنة سبعين ومائتين، ثم في شهور سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، ثم في شهور سنة تسع عشرة وستمائة، ثم في سنة ثمانين وستمائة، ثم في شهور سنة أربع عشرة وثمانمائة وقد ترادفت الأخبار الآن في وقتنا هذا في سنة اثنتين وعشرين أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم
…
ثم ذكر بعض ما رآه هو، وأن سقفها نقض سنة سبع وعشرين على يدي بعض الجند، فجدد لها سقف ورخم السطح، ثم نقض سنة ثلاث وأربعين وجدِّد
…