الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة أبناء شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما توجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أحد، أراد أن يخرج معه فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك، وقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني هؤلاء يمنعوني أن أجاهد معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله:"أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد". وقال لبنيه: "وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة". فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد شهيدًا، وحقق الله له ما طلبه وتمناه.
وكان نعيم بن مالك يقول في ذلك اليوم: "فوالذي نفسي بيده لأدخلن الجنة. فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: "بم؟ " أي بأي شيء تستحق دخول الجنة؟ فيقول بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف. فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: "صدقت
…
" وكتب الله له الشهادة في هذا اليوم ودخل الجنة، وهكذا أقسم على الله فأبره.
وقد حمل المسلمون على لواء المشركين فكان إذا سقط اللواء من يد واحد أخذه من خلفه، فيحمل عليه المسلمون فيقتلونه، فيأخذ اللواء رجل آخر حتى قتل حملة اللواء من المشركين، ولما لم يقدر أحد على الدنو منه ولوا الأدبار، ونساؤهم يبكين ويولولن، وتبعهم المسلمون يجمعون الأسلاب والغنائم.
الرماة يتسببون في تغيير الوضع:
ولما رأى الرماة الذين أوقفهم الرسول صلى الله عليه وسلم فوق الجبل ليحموا ظهور المسلمين لما رأوا المسلمين قد بدأوا يجمعون الأسلاب والغنائم، نسوا1 أمر الرسول
1 بل لم يتقيدوا بالأوامر، ولفظ البخاري في حديث البراء بن عازب 3817: فقال عبد الله بن جبير للرماة "لما انكسر المشركون وفروا عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا فأبوا، فلما أبوا صرف الله وجوههم فأصيب سبعون قتيلًا
…
" وكذا جاء في غالب الروايات وفي كتاب الله تعالى يصف ذلك: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ
…
} آل عمران 152.
-صلى الله عليه وسلم لهم، فتركوا موقفهم الحصين ونزلوا إلى مكان القتال ليجمعوا ما يستطيعون من تلك الأموال التي خلفها المشركون!.
وقد نصحهم رئيسهم عبد الله بن جبير بألا يتركوا مكانهم حرصًا على أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يستمع إليه سوى نفر دون العشرة.
وانتهز خالد بن الوليد1 هذه الفرصة، وكان على فرسان مكة2، فشد برجاله على مكان الرماة فقتل من ثبت منهم، وفاجأ المسلمين من ورائهم وهم مشغولون بدنياهم، فاستولى عليهم الرعب والفزع وسادت الفوضى في صفوفهم، حتى صار يضرب بعضهم بعضًا وانعكست الآية3، فبعد أن كان المسلمون يقاتلون صفًّا كأنهم بنيان مرصوص، إذا بهم الآن يقاتلون مبعثرين متناكرين دون رئيس يوجههم أو قائد يرعاهم
…
وشاع بين الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل، فعظمت البلية بين المسلمين، وفرح المشركون.
ولكن المسلمين عرفوا بعد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزال حيًّا فأحاطوا به يدرءون عنه الأذى والعدوان، ويفتدونه بأنفسهم حتى ضربوا بذلك أروع الأمثال في الإيمان، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم على الرغم من ذلك أصيبت رباعيته، وشج في جبهته، وجرحت شفته، ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته، واستمات المسلمون بعد ذلك في القتال ولكن دون جدوى، فاضطروا
1 وكان يومها لم يزل مشركًا مع الكفار.
2 على ميمنة الجيش، أو إحدى فرقه.
3 لا يحسن استعمال هذا التعبير، وقد درج عليه العلماء والعامة في كلامهم.
إلى الانسحاب والصمود في الجبل بعد أن قتل منهم سبعون شهيدًا، وقد قتل في هذه الغزوة حمزة بن عبد المطلب، ومثلت به هند زوج أبي سفيان بعد قتله رضي الله عنه فبقرت بطنه وأخرجت كبده فمضغتها بأسنانها ثم لفظتها. وقد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم على عمه أشد الحزن وسجاه ببردته صلى الله عليه وسلم وصلى عليه ثم دُفن ودُفن معه سائر الشهداء حيث لقوا مصارعهم.
وقد روى ابن إسحاق1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا. فنظر فوجده جريحًا في القتلى وبه رمق. فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات؟ فقال: أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله
1 وهو عند مالك في "الموطأ" 2/ 466 بسند معضل.
وقد قال الزرقاني في شرح "الموطأ" قال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أحفظه ولا أعرفه مسندًا وهو محفوظ عند أهل السير، وقد ذكره محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن المازني.
وقال الحافظ ابن حجر: وفي الصحيح ما يشهد لبعضه، انتهى.
قلت: وانظر الحديث في "أسد الغابة" 2/ 294، و"الاستيعاب" 2/ 590 وغير ذلك.
وقد ذكر ابن كثير في "البداية" 4/ 39 عن الواقدي أن الرجل الذي التمس سعدًا بين القتلى هو محمد بن سلمة، ونقل عن "الاستيعاب" لابن عبد البر أنه أُبي بن كعب. مع أن الذي نقله ابن الأثير أنه أبو سعيد الخدري. ورأيت البيهقي في "الدلائل" 3/ 285 أسند الحكاية عن ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله به.
وعند الحاكم سند لابن إسحاق لهذه الحكاية مغاير، ففي "المستدرك" 3/ 20 سنده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبيه
…
فذكره، وهو مع كونه مرسلًا صحيح الإسناد، لكنه مخالف لسند ابن إسحاق في هذه الواقعة.
وأما قول ابن عبد البر أنه لم يقف عليه من وجه مسند، فقد وقفت عليه من وجه مسند عند الحاكم 3/ 20 من حديث زيد بن ثابت، وصحح إسناده الحاكم ولم يتعقبه الذهبي بشيء، ولا في "السير" 1/ 319، ورجال سنده فيهم من لم أعرفه، كما ذكرت في "الدرك".
لكن بكل حال يقوي حصول الحكاية، ويفيد ما لم يعرفه ابن عبد البر. والله أعلم.