الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولو عرفت كل أمة ما لها وما عليها، واحترمت عهودها مع غيرها من الأمم، وألزمت نفسها بروح الإنصاف والوفاء
…
لأمكن أن تهدر نار البغضاء والشحناء، وأن تجف الأرض من الدماء والدموع، لكي تشرق السعادة بين الناس، ويعيشوا في جوٍ مزدهر بالأمن والسلام.
موقف غريب لصحابي جليل:
أما ذلك الصحابي الجليل فهو حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأما موقفه فقد كان غريبًا لأنه لا يتلاءم مع تاريخه المجيد وماضيه الكريم، إذ كانت له في هذا اليوم كبوة كبيرة وزلة مشينة1، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عزم على فتح مكة، عمل على إخفاء مسيره، ووصى أصحابه بكتمان هذا الأمر وقال:"اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها"
…
وتلك خطة حربية ناجحة، فإن الحرب خدعة، ومباغتة الأعداء سلاح قوي لا يفل حده.
ولكن حاطبًا المؤمن زلت به القدم في لحظة من اللحظات، وكم للنفس البشرية من زلات يتغلب فيها الشيطان على الإنسان2 فيغطي الحقائق ويعمي المسالك، ويظهر الشر والقبح في مظهر الحسن والجمال، وهذا هو من سمات الضعف البشري والعجز الإنساني الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:"كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"3.
1 من غير أن يقصد، أو يعلم ما قد ستئول له الفعلة تلك.
2 أو يهون له الأمور، ويخفي عنه نتائجها.
3 أخرجه الترمذي 2499، وابن ماجه 4251، والدارمي 2/ 303، والحاكم 4/ 244 وصححه البغوي في "شرح السُّنة" 5/ 92، وانتصر ابن القطان لتصحيح الحاكم، وضعفه جماعة، والقول أن حديث حسن صحيح، لا بشواهده، كما في "اتحاف السادة المتقين" 1/ 409، وانظر "صحيح الجامع" 4391، و"مشكاة المصابيح" 2341 وغير ذلك.
أجل، زلت قدم حاطب فأرسل كتابًا إلى قريش يخبرهم فيه بما اعتزمه الرسول صلى الله عليه وسلم من السير إليهم، ثم أعطاه امرأة من مزينة وجعل لها جعلًا على أن تبلغه لقريش، فوضعته في شعرها وفتلت عليه قرونها، وكان في هذا الخطاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم: فإنه منجز له ما وعده1.
وقد جاء الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بوحي من الله عز وجل فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما وقال لهما: "أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبي بلتعة بكتاب إلى قريش يحذرهم فيه ما قد أجمعنا له في أمرهم". فخرجا حتى أدركاها في الطريق، استخرج علي بن أبي طالب منها الكتاب، ثم أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبًا فقال:"يا حاطب: ما حملك على هذا"؟ فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أصحاب بدر
1 "الروض الأنف" 2/ 666، وليس إسناده بالمعتمد، أعني لفظ الكتاب المذكور، وفي سند واهٍ عند الواقدي، أنه أرسل الكتاب لسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس بالغزو، ولا أراه يريد غيركم، وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد. "فتح الباري" 7/ 521.
ولم أقف على سند يعتمد عليه في لفظ الكتاب، والذي في الصحيحين وغيرهما من حديث علي: فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناسٍ من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزد على هذا.