الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما زال ماضيًا في دعائه، ورافعًا يديه إلى السماء طالبًا من الله ألا يردهما خاليتين من رحمته، وأبو بكر رضي الله عنه من ورائه يهتف به قائلًا: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك.
وهكذا يظل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ربه منيبًا خاشعًا حتى أخذته سِنة من النعاس، فرأى خلالها نصر الله يضيء ويملأ الآفاق، فاستيقظ وهو فرح مستبشر يتلو قول الله تعالى:
{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 1.
وقد ابتدأت معركة بدر صباح يوم الجمعة 17 رمضان، من السنة الثانية للهجرة، وانتهت في مسائه بنصرٍ مبين للمسلمين، وهزيمة ساحقة للمشركين فولوا مدبرين بعد أن قتل منهم سبعون، وأُسر منهم مثل هذا العدد، واستشهد من المسلمين أربعة عشر2، وبقي المسلمون في بدر ثلاثة أيام بعد المعركة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى المدينة فرحين بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم
…
1 سورة القمر، الآية 45.
2 ستة من المهاجرين، وستة من الخزرج، واثنان من الأوس.
دور الملائكة في يوم بدر:
وكان يوم بدر يوم السماء نزلت فيه الملائكة إلى الأرض، تُثبت الذين آمنوا وتلقي في قلوب الذين كفروا الرعب، وفي ذلك يقول الله عز وجل:
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1.
وقصة إمداد الله للمسلمين بالملائكة قصة عجيبة، قوامها قدرة الله عز وجل الذي جعل الأرض جميعًا قبضته والسموات مطويات بيمينه.
وقد اختلف العلماء في الغرض الذي من أجله أمد الله المسلمين بالملائكة فذهب بعضهم إلى أن الملائكة إنما نزلت للقتال، فهي جيش من السماء، أنزله الله لإضعاف شوكة الشرك والطغيان في الأرض.
ويستدلون على ذلك بما يروى من أن رجلًا من المسلمين كان يطارد رجلًا من المشركين في يوم بدر، فسمع صوت ضربة بالسوط فوقه فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيًا وشق وجهه، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قال:"ذاك من مدد السماء"3.
وما يروى عن أبي داود المازني حيث قال: تبعت رجلًا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي4.
وهم يقولون: إن الأمر في قوله تعالى:
1 سورة الأنفال، الآيتان 9، 10.
2 سورة الأنفال، الآية 12.
3 أخرج القصة مسلم 1763، والترمذي 3081 وغيرهما من حديث ابن عباس.
4 أخرجه أحمد في المسند 5/ 450 بسند ضعيف، ولكن يغني عنه ما قبله.
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1.
هذا الأمر أمر للملائكة بالضرب والقتل. ومعنى ذلك أن الله إنما قضى بإنزالهم للضرب والقتال
…
ويذهب البعض الآخر إلى أن الملائكة إنما نزلت لتثبيت قلوب المؤمنين وتقوية الروح المعنوية لديهم، وأنهم لم يشتركوا في القتال، وحجتهم في ذلك أن الملك الواحد يكفي لإهلاك أهل الأرض جميعًا2
…
هذا الرأي هو الذي تميل إليه النفس، وتؤكده القرائن والدلائل التي لا يتطرق إليها الضعف والوهن3، وذلك لأمور كثيرة:
أولها: أن الملك الواحد يستطيع إهلاك الكفار جميعًا في لحظة واحدة فلماذا ينزل الله ألفًا من الملائكة4؟
وثانيها: أن الله لو قدر للملائكة أن تشترك بالفعل في القتال، لما كان هناك
1 سورة الأنفال، الآية 12.
2 قال القسطلاني في "المواهب اللدنية" 1/ 363.
قال الشيخ تقي الدين السُّبكي: سُئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل عليه السلام قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه.
فقلت: ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتكون الملائكة مددًا على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله تعالى، والله فاعل الجميع انتهى.
قلت: وهذا كلام صحيح، والله أعلم.
3 نعم هو صحيح بنص القرآن، لكن الآخر صحيح صريح أيضًا، فالواجب الأخذب الأمرين، لا سيما وأنه لا تعارض، والقول بأحدهما فقط فيه إبطال للدليل بغير حجة.
4 وقد تقدم جواب السُّبكي على هذا، من وجه.
ومن وجه آخر، فإن هذا فيه رد الأحاديث الصريحة الصحيحة بالهوى والتعنت.
مزية للمسلمين الذين اشتركوا في هذه الغزوة1، ولما كان هناك داع للأخذ بالأسباب العادية في هذا الوجود، حيث يأمر الله المسلمين بإعداد العدة للقضاء على الكفار، فيقول:
وثالثها: أن المعركة حينئذٍ ستكون بين فئتين: فئة قليلة وهم الكفار وفئة كثيرة وهم المسلمون بعد انضمام الملائكة إليهم، إذ يصبحون ألفًا وثلاثمائة. بل إذا نظرنا إلى ما ذكر في سورة آل عمران من أن الملائكة قد زادوا فأصبحوا ثلاثة آلاف، ثم زادوا حتى وصلوا إلى خمسة آلاف حيث يقول سبحانه:
إذا نظرنا إلى ذلك وجدنا أن المسلمين مع الملائكة سيزيدون على خمسة آلاف. وحينئذٍ لا ينبغي أن يقال: إن الفئة القليلة هي التي غلبت الفئة الكثيرة4.
بل تبقى لهم المزية، لكونهم أمدوهم كما قال الله تعالى، ولا يمكن أن يقال: إن الفعل للمدد لا للجيش الممدود!
2 سورة الأنفال، الآية 60.
3 سورة آل عمران، الآيتان 124، 125.
4 بل يقال: إن العبرة بالشيء المشاهد.
ثم لو تأمل المتأمل، لعلم أن الملائكة إنما نزلت لتأييد من كُتب لهم النصر، وهم إنما كُتب لهم النصر، وهم قلة بسبب إيمانهم وصدقهم، فصار تأييد الملائكة لهم ومحاربتهم معهم كالأداة للمنتصر. فليفهم.
ورابعها: أن الملائكة لو اشتركت في القتال بهذا العدد الضخم ثم انجلت المعركة عن قتل سبعين من المشركين فحسب، لكان هذا موقفًا مخزيًا لملائكة الله، ولا اعتبر ذلك نصرًا للمشركين، وهزيمة للملائكة والمسلمين1.
وبذلك يتبين لنا أن الملائكة لم تنزل لقتال2، وإنما نزلت لتثبيت القلوب وتقوية الإيمان، ومما يزيد هذا المعنى تأكيدًا وقوة، قول الله تعالى بعد ذلك:
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ} 3.
أي وما جعل الله إمدادكم بالملائكة لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم ستنتصرون، ولتسكن وتطمئن بهذا الإمداد قلوبكم، حيث تدركون أن الله معكم، وأنكم أهل لرضاه، فيزاد إيمانكم وجهادكم. ويكون الأمر في قوله تعالى:
{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} .
أمرًا موجهًا إلى المؤمنين لا إلى الملائكة4، ويكون المعنى: إذ يوحي ربك
1 سبحان الله!!
فعلى رأي المؤلف، لو بقي واحد من المشركين لكان عيبًا، لأن على الواحد منهم خمسة من الملائكة، وعليه، فما الحيلة في بقاء من كتب الله له أنه سيؤمن بعد بدر.
ومن قال بأن الملائكة نزلت لتبيد جميع الكفار، والملائكة كما قال الله:{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .
وأنا أرد على المؤلف بجنس سؤاله فأقول:
أما كان يكفي أن ينزل السكينة في قلوب ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا مثلهم من الملائكة، فلا يتمكن من ذلك إلا خمسة آلاف؟!
فيا سبحان الله حين تتيه العقول، ولا تتقيد بالنصوص.
2 بل نزلت له والله بنص الحديث، وظاهر القرآن.
3 سورة الأنفال، الآية 9، وانظر "زاد المسير" 1/ 454 لابن الجوزي، وغيره من التفاسير لتعلم ضعف قول المؤلف.
4 في تفسير الآية اختلاف بين المفسرين، من المخاطب بهذه الآية، لكن حتى لو لم يكن المخاطب الملائكة، فإنها لا تمنع من كون الملائكة نزلت قاتلت، فليعلم هذا.