الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
وبعد، فهذا ما يسر الله به من دراسات في السيرة النبوية، ولعلها تكون بداية صالحة في طريق البحث، وأساسًا سليمًا يمكن أن يبنى عليه من بعدنا، كما بنينا على الأسس السليمة التي خلفها لنا من قبلنا، ونحن نؤمن كل الإيمان بأن السيرة النبوية -على كثرة ما كُتب فيها من بحوث ودراسات- لا تزال في بعض نواحيها كالروض الأنف1، يتطلع إلى الرائد، ويستطيع الباحث فيه والمتجول في مغانيه، أن يظفر كلما أمعن النظر وطلب المزيد..
ولست مثاليًا في التقدير، ولا راكبًا متن الغرور إذا ما قلت إن هذه الدراسة قد أتاحت لي الفرصة لتصحيح شيء من الأخطاء التي انزلق إليها بعض العلماء السابقين.
فمن ذلك ما ذكره الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للطير الأبابيل بأنها الرياح المتجمعة، والحجارة من السجيل بأنها ذرات التراب حملت ميكروب الجدري الذي أهلك الله به الأحباش وجعلهم كعصف مأكول.. فقد ذكرنا -حينئذ- من الحجج والأدلة ما يدحض هذا الرأي ويبطله، وكان مما قلناه في هذا الصدد: إن سورة الفيل قد نزلت على الرسول -صلى الله عيه وسلم- في وقت كان يعيش فيه من أهل مكة أناس رأوا حادث الفيل بأعينهم وبعضهم من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم فلو لم تكن الطيور طيورًا حقيقية لظهر من هؤلاء الأعداء من يسارع إلى تكذيب هذه السورة ويعلن ذلك على رءوس الأشهاد، وينتهزها فرصة في الكيد لمحمد صلى الله عليه وسلم والطعن عليه.. ولكن الواقع أن سورة الفيل قد نزلت فتلقاها العرب جميعًا
1 الذي لم يرع.
بالقبول، لأنها تقرر حقيقة معروفة عندهم لا شك فيها ولا يجرؤ أحد على إنكارها.
ومن ذلك ما قيل في الحجر الأسود من آراء يتناقلها الناس على توالي الأجيال وهي -في واقع الأم- لا تعتمد على أساس سليم من المنقول أو المعقول، وقد فندنا هذه الآراء وانتهينا بحمد الله إلى نتيجة نؤمن بها ونطمئن إليها1.
ومن ذلك ما ورد من خلاف بين العلماء عن دور الملائكة في يوم بدر فقد وصلنا في ذلك إلى نتيجة لا بديل عنها -فيما نعتقد- وهي أن الملائكة قد نزلت لتثبيت القلوب، ولم تنزل لتشترك في القتال، وكان مما قلناه في ذلك: إن الاعتقاد باشتراك الملائكة في القتال يزري بكرامة الملائكة وكرامة المسملين حيث تنتهي الموقعة بقتل سبعين من المشركين أمام خمسة آلاف من الملائكة وثلاثمائة من المسلمين.
وتعتبر النتيجة على هذا الوضع نصرًا للمشركين وهزيمة للملائكة مع المسلمين2.
ومن ذلك ما ذكره المفسرون عند تفسيرهم للآية الكريمة: {إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
1 بل قد اعتمد ذلك على منقول معتمد، وحيث يُثبت النص الواجب انقطاع البحث في الحصول، وقد أخطأ الشيخ رحمه الله في اعتراضه ذلك، وبينا ما وقع في ثنايا الكلام من الخلل والضعف والتناقض.
2 ورددت عليه بما يشفي العليل ويروي الغليل، ويثبت أن اعتراضاته أوهى من بيوت العنكبوت، وأنه خالف بذلك الأحاديث الصحيحة، وظاهر القرآن، بل قد خالف المعقول أيضًا.
فقد ذكروا أن تأييد الله للرسول صلى الله عليه وسلم بالجنود يقصد به ما وقع في يوم بدر ويوم حنين. وقد خالفنا ذلك الرأي وقلنا إن هذه النعم التي ذكرها الله من إنزال السكينة والتأييد بالجنود مرتبطة بالظروف المذكورة في الآية نفسها وهي قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ} وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} إلى آخر ما ذكرناه في ثنايا الكتاب، وفي مختلف الموضوعات من آراء سبقنا إلى بعضها وسبقنا إلى البعض الآخر.
وفيما يتعلق بالمعجزات التي تثبت للنبي الكريم، نحب أن نقول إننا نؤمن كل الإيمان بهذه المعجزات التي روتها كتب الحديث الصحيحة وكتب السيرة الأصيلة1.
وأما ما يقوله بعض العلماء من أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم القاهرة هي في القرآن الكريم وحده كالإمام الشيخ محمد عبده والإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي وغيرهما ممن يرون هذا الرأي فهم يقصدون به أن القرآن وحده هو المعجزة
1 قول المؤلف في كتب السيرة الأصيلة وأنه يؤمن كل الإيمان بما جاء فيها من المعجزات عليه اعتراضات من وجوه:
أولها: انه لم يحدد هذه الكتب. إلا أن يكون أراد الكتب التي كان نبه عليها أنه اعتمدها أول كتابه.
فإن كان أراد ذلك فإنه لم يوفق فيما قال، ويكون خالف بذلك كل قواعد المصطلح وسائر العلماء، بل يكون قد خالف نفسه لما ذكر أن فيها بعض ما يحتاج إلى نقد.
ثانيها: أنه لا يوجد كتب أصيلة ودخيلة، فكل الكتب فيها الصحيح والضعيف -أعني الكتب المختصة بالسيرة- وإنما ثمة بعض الكتب أصح من بعض، أو يكون مؤلفها بين الضعف في بعض ما يورده، فيكون كتابه أفضل.
ثالثها: أنه يوجد كثير من الكتب ليست بقوة الكتب المشهورة في هذا الفن، ومع ذلك فإن الباحث يجد فيها بعض ما لا يجده في غيرها، وربما كان صحيحًا.
رابعها: أن كل كتاب من كتب السيرة، يُؤخذ منه ويرد، بحسب قوة ما أسند وضعفه، وليست في ذلك قاعدة مطردة.
العقلية الثابتة التي لا تزال تتحدى العصور والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهم جميعًا بطبيعة الحال وفي واقع الأمر لا ينكرون المعجزات الأخرى الثابتة في كتب الحديث الصحيحة لأنهم يؤمنون بالصحيح من الحديث ويؤمنون كذلك بالصحيح من التاريخ.
وقد ذكر القرآن الكريم أمثلة من المعجزات التي وقعت لبعض الأنبياء، كالنار التي صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم، وتسخير الرياح لسليمان تجري بأمره وتسخير الجن لتعمل بين يديه، وكعصا موسى التي أبطلت سحر السحرة، ورد الله بها كيد الطغاة الماكرين.
وما ذكره الله عن عيسى عليه السلام حينما قال لقومه: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} 1.
كما ذكر القرآن بعض المعجزات الأخرى التي كرَّم الله بها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بمعجزة القرآن الخالدة قد كرمه -كذلك- بكثير من المعجزات التي تؤيده وتعضده، وهي معجزات صح سندها وثبتت روايتها أو على الأقل رجحت روايتها، وإنكارها2 ضعف في الدين وهدم للتاريخ من أساسه.
وخير ما نختم به هذا الكتاب هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن العلم والعلماء:
"من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد
1 سورة آل عمران، الآية 49.
2 لتلك التي صحت روايتها أو قويت.
كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن العلماء لم يورثوا دينارا ولا درهما. إنما ورثوا العلم.. فمن أخذه أخذ بحظ وافر" 1.
ولله قول الإمام البوصيري:
محمد تاج رسل الله قاطبةً
…
محمد صادق الأقوال والكلمِ.
محمد ثابت الميثاق حافظهُ
…
محمد طيب الأخلاق والشيمِ
محمد حاكم بالعدل ذو شرفٍ
…
محمد معدن الأنعام والحكمِ
محمد خير خلق الله من مضرٍ
…
محمد خير رسل الله كلهمِ
محمد يوم بعث الناس شافعنا
…
محمد نوره الهدى من الظلمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. نسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا وأن ييسر سبيل هذا الكتاب إلى القلوب. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
1 بهذا اللفظ أخرجه ابن حبان في صحيحه 8 وأبو داو 3641 وابن ماجه 223 والدارمي 1/ 98، وابن عبد البر في جامع بيان العلم ص 39، وأحمد في المسند 5/ 196 والطحاوي في مشكل الآثار 1/ 429، والبغوي 129 وغيرهم.
وقال الحافظ في الفتح 1/ 147: صححه ابن حبان والحاكم، وحسنه حمزة الكناني، وضعفه غيره بالاضطراب في سنده، لكنه له شواهد يقوى بها.
قلت: انظر شواهده في صحيح مسلم 2722، ومستدرك الحاكم 104. وما تكلمت عليه هناك.
2 سورة الجمعة، الآيتان 3، 4.