الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا إذا أكرهت على القتال، وساروا حتى دخلوا مكة، ولم يحدث إلا مناوشات خفيفة وأهمها ما لاقاه خالد بن الوليد قائد الجناح الأيمن، فقد قتل حوالي عشرين رجلًا1 ممن وقفوا في طريقه، ولم يقتل من المسلمين سوى اثنين.
ولما تم للمسلمين الاستيلاء على مكة نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البلد الأمين وإلى الجبال التي كان يأوى إليها حين يشتد به أذى قريش، فترقرقت في عينيه دمعة شكر لله، ثم سار حتى بلغ البيت الحرام فطاف به سبعًا ثم استلم الحجر، وتكاثر الناس حوله في المسجد فخطبهم وتلا عليهم قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2.
ثم قال: "يا معشر قريش ويا أهل مكة: ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال:"اذهبوا فأنتم الطلقاء" وبهذه الكلمة صدر العفو العام عن أهل مكة جميعًا. وهكذا سقط أكبر معقل للوثنية في بلاد العرب، وكان ذلك في اليوم العشرين من رمضان.
1 أو أزيد بقليل.
2 سورة الحجرات، الآية 13.
تطهير الكعبة من الأصنام:
ثم دخل رسول الله الكعبة، وكان بداخلها وخارجها أصنام تعبدها قريش، فأخذ يشير إليها بقضيب في يده ويقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 1 وأمر بإخراجها وتحطيمها وتطهير البيت الحرام منها.
1 سورة الإسراء، الآية 81.
وبعد أن استتب الأمن بوجه عام أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا إلى القبائل المجاورة لمكة يدعوها إلى الإسلام وتحطيم الأصنام، فهدمت العزى ومناة وسواع1.
وبذلك ذهبت هيبة الأوثان من النفوس وزال سلطانها، واستنار العالم العربي بنور التوحيد الوضاء.
وهكذا قضى الإسلام على الوثنية والشرك في أغلب جزيرة العرب، وأنشأ لها تشريعات جديدة كانت أساس الخير والبركة.
ثم شرع الناس يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ممن أسلم في هذا اليوم: معاوية بن أبي سفيان، وأبو قحافة والد أبي بكر الصديق، وقد فرح الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا بإسلامه.
ولما تمت بيعة الرجال، بايعه النساء وكن يبايعن: على ألا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين الرسول في معروف.
ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يؤذن على ظهر الكعبة، فكان يومًا مجموعًا له الناس وكان يومًا مشهودًا، وكان من الحق على المسلمين أن يتخذوا هذا اليوم عيدًا، يحمدون الله فيه على هذه النعمة الكبرى والنصر العظيم.
بعد أن تم فتح مكة، واجتمع الناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان منهم من ائتمروا به ليقتلوه، ومن قاتلوه في بدر، وفي أحد، وحاصروه في غزوة الخندق،
1 العزى: صنم بجهة نخلة بين مكة والطائف، ومناة: صنم كان للأوس والخزرج على جبل بالقرب من البحر الأحمر، وسواع: صنم لهذيل على بعد ثلاثة أيام من مكة. المؤلف.
وعذبوه وأصحابه، نظر إليهم وهم جميعًا في قبضة يده: أمره نافذ في رقابهم، وحياتهم رهن كلمة ينطق بها، فلم يأخذه العجب والغرور بما وصل إليه من مجد وسلطان، ولم يطف بنفسه ما يتملك نفوس الناس ساعة النصر والظفر من ظلم وطغيان، بل وحتى لم يفكر في الانتقام لنفسه والمسلمين عمّا أصابهم على أيدي قريش من الأذى والعدوان، ولكنه نظر إلهم نظرة كلها عفو ورحمة وقال لهم:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فكان مثلًا كريمًا في سمو النفس، والعفو عند المقدرة.
كما ضرب المثل في المحافظة على الدماء، بإصدار الأوامر إلى قادة الجيوش ألا تسفك دمًا إلا إذا أكرهت إكراهًا.
وقد كان من أثر هذه السياسة أن كسب الرسول صلى الله عليه وسلم قلوب أهل مكة، فأقبل على الإسلام فتيان قريش وشيوخها ونساؤها، ولم يحجم عنه إلا نفرًا أكل الحقد قلوبهم، ثم لم يلبثوا إلا قليلًا حتى شرح الله صدورهم للإسلام.