الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن الرسل لا تقتل، لأن في قتلهم إهانة وقتلًا لمن أرسلهم.
ومن هنا يتضح لنا أن هذه السرية من وجهة النظر السياسية ليست سرية انتحارية، وليست تهورًا، ولا إلقاء بالنفس إلى التهلكة، وإنما هي سرية خرجت للتضحية والجهاد، ولتدفع ضريبة الشرف والعزة والكرامة، ولترفع صوت الإسلام، أمام هؤلاء الذين تمادوا في غيهم وضلالهم مهما بذلت من ثمن وتحملت من أعباء.
وكانت هذه الحملة مكونة من ثلاثة آلاف مقاتل، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عليها زيد بن حارثة، وقال لهم:"إن أصيب فالأمير: جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة".
خروج الجيش:
خرج الجيش ومعه خالد بن الوليد، وودعه الناس، وسار النبي صلى الله عليه وسلم معهم إلى خارج المدينة1 يدعو لهم بالنصر ويوصيهم ألا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين، وألا يهدموا المنازل، وألا يقطعوا الأشجار.
لكن العدو قد علم بمسير الجيش، فقام شرحبيل الغساني واستنجد بمن حوله من قبائل العرب المسيحيين- كما أمده هرقل بجيش كبير حتى بلغ عددهم حوالي مائة ألف أو أكثر.
وتقدمت الجيوش الإسلامية حتى إذا وصلوا إلى أرض الشام2، علموا أخبار
1 إلى ثنية الوداع.
2 لموضع يقال له مُعان، بضم الميم.
* حتى قيل بلغوا مائتي ألف.
تجمعات الأعداء ومدى استعدادهم، فعقد زيد مجلسًا حربيًا للنظر والتشاور، فقال قائل منهم: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بكثرة الأعداء، فإما أن يرسل إلينا مددًا. وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، فوقف عبد الله بن رواحة وأخذ يشجع الناس على المضي والتقدم قائلًا: انطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما نصر وإما شهادة. فأثرت كلماته في نفوسهم ودفعتهم إلى التقدم حتى وصلوا مؤتة.
والتقت قوة المسلمين القليلة بعددها، القوية بإيمانها، بقوة الأعداء، واندفع زيد بن حارثة في صدر العدو يصد الهجمات تارة، ويتقدم تارة أخرى، حتى مزقته رماح العدو، فوقع قتيلًا في ميدان الاستشهاد.
ثم انتقلت رياسة الجيش لجعفر بن أبي طالب، كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أحاط العدو بفرسه فنزل عنها وتقدم راجلًا القوم يحصد الرءوس ويضرب الرقاب، وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها
…
طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
…
كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها
وظل هكذا حتى قُطعت يده، فاحتضن الراية بعضديه حتى قتل بعد أن أصيب بأكثر من سبعين جُرحًا، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح.
وعند ذلك انتقلت القيادة لعبد الله بن رواحة فنزل الميدان وهو يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
…
ما لي أراك تكرهين الجنة
وسرعان ما سقط شهيدًا في سبيل الله وهو فرح مستبشر غير مدبر.
وهكذا استشهد هؤلاء الثلاثة في سبيل إعلاء كلمة الحق والدين، فكانوا مثلًا خالدًا من أمثلة البطولة والتضحية والإيمان، وأصبحوا قدوة كريمة على مدى الزمان لكل مؤمن يريد أن يكتب لأمته تاريخًا، ولوطنه خلودًا1.
وبعد استشهاد الأبطال الثلاثة اتفق الناس على تولية خالد بن الوليد، فاستطاع أن يوحد الصفوف ويجمع الشمل، وصار يناوش العدو حتى أقبل الليل فأخذ في تدبير الخطة وتنظيم الجيش من جديد، فجعل الساقة مقدمة والمقدم ساقة، والميمنة ميسرة والميسرة ميمنة.
فلما أصبح الصباح ظن العدو أن مددًا لحق بالمسلمين فلم يهاجموهم، وفرحوا حين سكت المسلمون عن قتالهم وتمنوا أن يعودوا دون اشتباك.
أما خالد فقد آثر المحافظة على المسلمين بالانسحاب، وكانت مهارة بارعة حيث استطاع أن ينقذ الجيش الإسلامي من خطر محقق وعاد إلى المدينة.
وقد بلغ الأسى من نفس رسول الله مقتل القواد الثلاثة مبلغًا كبيرًا.
فعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها زوج جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أصيب جعفر وأصحابه فقال: "ائتني ببني جعفر"، فأتيته بهم، فضمهم وذرفت عيناه بالدمع. قالت أسماء في لهفة وقد أدركت ما أصابه: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: " نعم، أصيبوا هذا اليوم"، وفاضت عيناه بالدمع. قالت: فقمت أصيح. واجتمع علي النساء، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: "يا أسماء لا تقولي هجرًا ولا تضربي خدًّا".
1 بل لدينه عزًّا.