الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أميرا قبيلتي أذرح وحرباء1، يطلبان تأمينهما ومحالفة المسلمين، فصالحهما الرسول صلى الله عليه وسلم على الجزية.
ولم يكن أمام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أمير دومة الجندل الذي كان يتوقع منه العداء، فبعث إليه خالد بن الوليد في قرابة خمسمائة فارس، وجاء هو بعد ذلك المدينة.
وأسرع خالد عائدًا إلى دومة الجندل، فانقض عليها في حين غفلة من أميرها، فلم يلق مقاومة تذكر، وفتحت له المدينة أبوابها، بعد أن وقع أميرها في الأسر، وغنم منها ألفي بعير، وثمانمائة شاة، وأربعمائة درع، وقدرًا كبيرًا من البر، ثم عاد إلى المدينة ومعه الغنائم والأسرى. فعرض الرسول صلى الله عليه وسلم على أمير دومة الجندل، فأسلم وأصبح أميرًا على قومه1.
1 هما من نواحي عمان.
2 "سيرة ابن هشام" 4/ 138، و"دلائل النبوة" للبيهقي 5/ 250، و"البداية والنهاية" 5/ 17، وقد جاءت هذه الحادثة من وجوه مرسلة كثيرة يقوي بعضها بعضًا.
الثلاثة الذين خلفوا:
1
أولئك هم: كعب بن مالك، وهلال بن أُمية، ومرارة بن الربيع، وهم: ثلاثة نفر أخلصوا لله وجاهدوا في سبيله وشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا من المشاهد والغزوات، وكان لهم في تاريخ الإسلام بلاء مشكور، وجهاد مبرور..
ولكن الله الذي يمتحن عباده بالبلاء والمحن قد ابتلى هؤلاء الثلاثة بمحنة، لولا لطف الله لعصفت بإيمانهم وطوحت بهم في مهاوي الشقاء، وكثيرًا ما يبتلي الله عباده ليميز الخبيث من الطيب، ويظهر الزائف من الصحيح.
1 وقصتهم صحيحة مخرجة في "صحيح البخاري" 8/ 118 من "فتح الباري"، و"صحيح مسلم" ص 2120، وغيرهما.
وقد قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 1.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى هذه الغزوة حيث كان الحر شديدًا والسفر بعيدًا، والعدو قاسيًا عنيدًا، وناهيكم بجيش جرار من الروم يتربص الدوائر بالمسلمين ويستعد للهجوم عليهم.. وقد استجاب لدعوة الحق رجال من المسلمين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنفروا للجهاد سراعًا يضربون في البيداء المترامية بين الحر المرمض والسموم اللافح، لا يكترثون بوعثاء السفر ووعورة الطريق، ولا يثنيهم عن غايتهم ما يحيط بهم إذ ذاك من المتاعب والمخاوف والأراجيف التي يذيعها المنافقون، بل يجدون في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أمنًا وسلامًا وظلًّا ظليلًا دائمًا، يغنيهم عن ظلال الدنيا الزائلة، ومتاعها الفاني القليل.
ولعل ما يصور لنا عظمة الروح وقوة العقيدة في نفوس أولئك المؤمنين، ما وقع لأبي خيثمة الأنصاري أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فلقد تخلف عن المسير مع إخوانه المجاهدين أيامًا، ثم رجع إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريش لهما في حائطه، قد رشت كل واحدة منها عريشها وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا.
فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحى والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، في ماله مقيم. ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فهيئا لي زادًا ففعلتا.
1 سورة محمد، الآية 31.
ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك1.
وقعد عن الجهاد قوم من المنافقين كانوا قد أظهروا الإسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. وكانوا بضعة وثمانين رجلًا غلبت عليهم شقوتهم، وأصاخوا2 لدعوة الشيطان فتركوا دون عذر ميدان الجهاد، لأنهم يحبون العاجلة، وهم أحرص الناس على حياة، ويظنون أن أمرهم سيخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا رجع المسلمون من ميدان الجهاد قاسموهم في السراء دون الضراء، وشاركوهم في المغانم دون أن يشاركوهم في المغارم.
ولم يتخلف عن الجهاد من المؤمنين المخلصين سوى هؤلاء الثلاثة الذين نتحدث الآن عنهم، وهم الذين سماهم الله في كتابه العزيز:{الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} 3. ومعنى خلفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم خلفهم، أي أرجأ أمرهم إلى أن يقضي الله فيهم بأمره4.
ولقد أخطأ هؤلاء الثلاثة، ثم لم يلبثوا أن تابوا ورجعوا الله الله وأنابوا، فقبل الله توبتهم وغفر لهم خطيئاتهم:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} 5.
فقد روى لنا كعب بن مالك قصته وقصة صاحبيه، منذ تخلفوا عن ركاب إخوانهم المؤمنين المجاهدين إلى أن انجلى ليل محنتهم، وآذن الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقبول توبتهم.
1 انظر قصة أبي خيثمة في "سيرة ابن هشام" 4/ 133، و"دلائل البيهقي" 5/ 223، و"البداية" 5/ 8 وغير ذلك.
2 أي استمعوا وأنصتوا.
3 سورة التوبة، الآية 118، وقصتهم في الصحيحين كما مضى.
4 هذا تفسير كعب نفسه كما صح في البخاري ومسلم.
5 سورة البقرة، الآية 222.
يقول كعب1: إنه كان ينتقل في المدينة منذ خرج إخوانه للجهاد، فيحزنه ألا يرى في طرقاتها إلا طفلًا صغيرًا، أو رجلًا ضريرًا، أو شيخًا مهيض الجناح ليس عليه في تخلفه جناح2. ولا يرى أحدًا قد تخلف من الرجال الأقوياء سوى أهل النفاق والرياء.
ويقول كعب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين رجع من تبوك دعاني حتى جئت بين يديه، فسألني عن أمر تخلفي وهو يتبسم تبسم المغضب. فاعترفت بذنبي ولم أفتر الكذب وأختلق الأعذار، كما فعل غيري من المتخلفين المنافقين، ثم دعا صاحبي إليه، فاعترفا بذنبهما، وإذ ذاك أمهلنا الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله فينا بأمره، ونهى الناس عن كلامنا حتى تنكرت لنا الدنيا وتغيرت، وضاقت علينا الأرض بما رحبت، ولم يعد لنا ملجأ من الله إلا إليه.
ويقول كعب: إن ملك غسان النصراني حينما بلغه نبأ محنتي، كتب إلي يستميلني إليه قائلًا:
أما بعد: قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.
وكأنما أراد الله أن يزيد في ابتلائي بمثل هذا الكتاب، هل أفتتن بالدنيا وزخرفها فأستجيب لدعوة ذلك الملك النصراني، حيث أقضي أيام الحياة بين العيش الناعم والفراش الوثير، وليكن بعد ذلك في الآخرة ما يكون؟ أم أصبر على ما يحيط بي من المتاعب والآلام مهما تتابعت وتلاحقت طمعًا في رحمة الله
1 قال المؤلف: تصرفنا في نقل كلام كعب وكتبنا معظمه بأسلوبنا الخاص في حدود المعاني التي ذكرها كعب.
2 أي: إثم.
وانتظارًا لمغفرته ورضوانه، وإيثارًا للآخرة حيث السعادة والنعيم والملك الكبير؟
ولكني اخترت الباقية دون الفانية وآثرت الآجلة على العاجلة، فقمت إلى كتاب الملك الغساني فأحرقته في التنور، وفوضت أمري إلى الله الذي إليه تصير الأمور.
ويقول كعب: إن محنتنا استمرت خمسين يومًا متتابعة، ما كان أطولها وأقساها، ولكننا لم نجد ملجأ من الله إلا إليه، فصبرنا صبرًا جميلًا، وجاهدنا أنفسنا جهادًا طويلًا، حتى بدل العسر يسرًا، وجعل لنا من الضيق فرجًا ومن الهم مخرجًا، فآذن رسوله صلى الله عليه وسلم بغفران خطيئتنا وقبول توبتنا.
وجاءنا البشير بذلك فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعين، فوجدنا وجهه يبرق من السرور، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر، وإذا به يتلو قول الله عز وجل:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 1.
وهكذا كانت غزوة تبوك خاتمة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدها أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مغتبطًا بما أفاء الله عليه، مطمئنة نفسه بهذا النصر الذي وصل إليه.
أما أولئك المنافقون البضع والثمانون فإنهم حينما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم من الجهاد قابلوه يحلفون بالله إنهم معذورون، والله يشهد إنهم لكاذبون، فلم يلبثوا حتى
1 سورة التوبة، الآيات 117-118-119.