الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: "لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعامًا، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم "1.
وهكذا.. وبمثل هذا البر والوفاء كانت مواساته لأبناء الشهداء.
1 حديث أسماء هذا أخرجه ابن إسحاق، وعنه الإمام أحمد في "المسند" 6/ 370، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 161، وذكر أن فيه من يجهل حاله.
وأورده الحافظ ابن كثير في "البداية" 4/ 251 عنهما.
قلت: وللحديث هذا شواهد كثيرة يحسن بها ويصح، أوردها ابن كثير عقب هذه الرواية.
العبرة من غزوة مؤتة:
1-
أتيح لنا في هذه الغزوة أن نلمس عن كثب سماحة الإسلام وسمو مبادئه وحرصه على صيانة المجتمع الإنساني من الذلة والهوان، ولا غرو، فهذه الوصية التي وجهها النبي صلى الله عليه وسلم للجيش وهو ذاهب إلى مؤتة بعدم التعرض للعجزة والمرضى والمنازل والمزارع، وتلك التعاليم التي تميزت بها حروب المسلمين في القرن الأول الهجري -السابع الميلادي- هذه الوصية وتلك التعاليم يتيحان لنا فرصة المقارنة بين هذه الحالة، وبين ما نراه في هذه الأيام التي نعيشها، وما يقع بين سمعنا وبصرنا من غارات وحشية على السُّكان الآمنين في فيتنام، وفي الشرق الأوسط1، وكيف تزهق الأرواح البريئة، وتدمر المساجد، والكنائس، والمصانع والمساكن، فتهدم في لحظات، ما بنته المدينة والحضارة في سنوات.
2-
هذا الإيمان العميق الذي جعل المسلمين يتقدمون لملاقاة جيش يفوق جيشهم، في غير تردد أو خوف من الموت في سبيل الله يحفزنا إلى الجهاد والكفاح وبذل الأرواح فداء للدين والوطن2، واقتداء بأسلافنا الأماجد الذين حملوا أرواحهم على أكفهم، وألقوا بها في وجه كل من يقف في سبيل الدعوة
1 وفي الاتحاد السوفيتي السابق، وأوربا الشرقية بل وفي كل بقاع الأرض.
2 يعني أرض الإسلام.
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 1.
3-
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من أسر الشهداء، فيه توجيه للمسلمين إلى ما يجب عليهم نحو المحزونين من مواساة لهم وإعداد طعام يبعثون به إليهم، لأنهم قد شغلوا بأنفسهم. أما ما عليه المسلمون الآن من إقامة حفلات أحيطت بإسراف ممقوت، فهذا ليس من السُّنة النبوية في شيء2.
4-
موقف خالد بن الوليد ومهارته الحربية غيرت الوضع في هذه المعركة، من خوف إلى أمن، ومن هزيمة إلى نصر، لأن إنقاذ الجيش من فناء محقق والنجاة في مثل هذا الظرف العصيب يوم مقامه النصر وزيادة3.
وحسبنا دليلًا على ذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجند المسلمين لدى عودتهم من مؤتة، فلقد قابلهم المسلمون في المدينة يسخرون منهم ويحثون التراب في وجوههم، ويقولون لهم: يا فرار، فررتم من الجهاد في سبيل الله، فأنكر
1سورة آل عمران، الآية 171.
2 وقد نص على كراهته جماعة من العلماء، وصح في "سنن ابن ماجه" أن هذا مثل النياحة المحرمة.
3 قد اختلف العلماء في نتيجة مؤتة، فرأى جماعة أنها انتهت بالنصر للمسلمين، ورأى آخرون أن خروج المسلمين القلة منها على هذا الوجه نصرًا، وقد ناقش الحافظ ابن كثير هذه القضية فقال 4/ 247:
وقال الواقدي:
…
-وساق القصة من عنده، وفيها-: ثم اصطلح المسلمون على خالد بن الوليد فهزم الله العدو وأظهر المسلمين
…
وقال ابن كثير:
فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق من أن خالدًا إنما حاشى بالقوم حتى تخلصوا من الروم. وموسى بن عقبة والواقدي مصرحان بأنهم هزموا جموع الروم والعرب الذين معهم وهو ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعًا:"ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله على يديه" رواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه ومال إليه البيهقي بعد حكاية القولين
…
انتهى.
قلت: والذي قاله ابن سعد أن المسلمين انهزموا شيء لا دليل عليه البتة.
وانظر ما يأتي.
الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم هذه السخرية والاستهزاء، وحياهم تحية طيبة، وقال: بل هم الكرار، وأثنى على خالد في مهارته وحسن حيلته، في إنقاذ الجيش من الهلاك1.
1 الحديث في "مسند أحمد" 2/ 86، 100-111، و"سنن أبي داود" 2647، و"الترمذي" 1716 وحسنه، وذكره ابن كثير في "البداية" من طرق كثيرة جدًّا، وقد قامت أنه حديث قوي بطرقه وشواهده.
ولكن ثمة أمر ذكر الحافظ ابن كثير يجب التنبه له هنا، فقد قال بعد أن ساق هذه الرواية 4/ 284:
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر عن عروة قال: لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسملون معه
…
فجعلوا -أي الصبيان- يحثون التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار". قال ابن كثير: هذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة. وعندي -القائل ابن كثير- أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا جمهور الجيش، وإنما كان هذا للذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على المنبر في قوله:"ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه" فما كان المسلمون ليسمون فرارًا بعد ذلك، وإنما تلقوهم إكرامًا وإعظامًا، وإنما كان التأنيب وحثي التراب للذين فروا وتركوهم هناك، وكان فيهم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وفي "مسند أحمد" عن ابن عمر قال:
كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة
…
فذكر الحديث.
-وساقه ابن كثير بروايات متعددة- ثم قال 4/ 249:
لعل طائفة منهم فزعوا لما عاينون كثرة جموع الروم، وكانوا على أكثر من أضعاف الأضعاف
…
، وفي مثل هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر
…
انتهى.
- ثم رجع ابن كثير في مواطن عديدة يؤكد ذكر نصر المسلمين من الروايات فأطال، وانظر 4/ 250-251.
قلت: فظهر أنه قال ينصر المسلمين في هذه المعركة جماعة منهم موسى بن عقبة، والواقدي، حيث لم يحكيا غيره، والبيهقي وابن كثير واستدلا له كما مضى، والحاكم كما يفهم من قوله في "الإكليل" الذي نقله القسطلاني في "المواهب" 1/ 551 وكذا رجح هذا بنفس الطريقة التي قالها ابن كثير العلامة الحلبي في "السيرة الحلبية" 2/ 789.