الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلو أختكم عن شاتها وإنائها
…
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد1
وقد أجابه حسان بن ثابت بعد ذلك:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
…
وقدس من يسري إليه ويغتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم
…
وحل على قوم بنور مجدد2
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
…
ويتلوا كتاب الله في كل مشهد
لِتَهْنِ أبا بكر سعادة جده
…
بصحبته من يسعد الله يسعد3
1 وثمة أبيات لم تذكر كذلك وانظر:
"الطبقات الكبرى" 1/ 231.
"الروض الأنف" 2/ 7.
"دلائل النبوة" لأبي نعيم 2/ 339.
"المستدرك" 3/ 10.
"البداية والنهاية" 3/ 193.
وغير ذلك.
2 بعد بيتين فيما مضى من المصادر:
هداهم بعد الضلالة ربهم
…
فارشدهم ومن يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا
…
عمى وهداة يهتدون بمهتد
3 وثمة أبيات كذلك.
حديث سراقة:
وكانت قريش قد رصدت مائة ناقة مكافأة ناجزة لمن يأتيهم بمحمد صلى الله عليه وسلم حيا أو ميتا، وهي مكافأة يسيل لها لعاب الباحثين عن الثروة وطلاب المال، وقد تطلع إليها الكثيرون من الشبان الأقوياء والفرسان الشجعان، فبحثوا عن محمد صلى الله عليه وسلم في
كل مكان، وتتبعوا آثاره وأخباره حتى كادوا ينبشون الجبال، ويسألون الحصى والرمال.
وكان من أكثرهم حرصًا وتلهفًا على الظفر بهذه الجائزة الكبرى رجل من بني مدلج يقال له: سراقة بن مالك، وكان قد سمع من بعض المسافرين القادمين من مكة أمارات واضحة تدل على الطريق الذي يسير فيه محمد وأصحابه، وكان عددهم أربعة، فأخذ يضلل السامعين ويعمي عليهم حتى يظفر وحده بالإبل المائة، ويظفر إلى جوار ذلك بالفخر أمام أهل مكة الذين أعياهم البحث عن محمد صلى الله عليه وسلم واستسلموا في النهاية إلى اليأس والفشل.
وقد جهز الرجل عدته وسلاحه وامتطى فرسه وانطلق يعدو ميممًا الطريق والمكان الذي توقع فيه ضالته المنشودة، حتى أصبح على مرمى البصر من محمد صلى الله عليه وسلم ومرافقيه. ويقول سراقة إن فرسه عثرت به ثلاث مرات، وفي المرة الثالثة ساخت قوائمها في الرمال، فانتزعها من الأرض فتصاعد منها دخان كالإعصار وحينئذ فزع سراقة، وأدرك أن سرًا عجيبًا وعناية خاصة تحيط بهؤلاء الناس، وأنه إن استمر في طلبهم فسوف يسعى إلى حتفه بظلفه، فناداهم قائلا: أنا سراقة بن جعشم، انظروني أكلمكم، فوالله لا أرينكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: قل له: "وماذا تبتغي منا"؟ فقال ذلك أبو بكر، فأجابه سراقة: أريد أن تكتب لي كتابًا يكون آية بيني وبينك. قال: اكتب له يا أبا بكر. فكتب له كتابا بما طلب ثم ألقاه إليه1.
1 وعده بهذا الكتاب بأشياء، نفذها له فيما بعد، ولفظ البخاري 3906 لذلك: قال سراقة: فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم، ثم مضى
…
وكونها في البخاري لا نطيل بتخريج القصة، لكن من أراد الاستقصال، فلينظرها في فتح الباري 7/ 238 ففيه ذكر تفاصيل أخرى.
ولينظر كذلك دلائل النبوة للبيهقي 2/ 483 وما بعدها، ومسند أحمد 1/ 2، والمعرفة والتاريخ 1/ 239 للفسوي، والسيرة للصالحي 3/ 345، و"سيرة ابن هشام" 2/ 102 وغير ذلك.
ورجع سراقة إلى مكة مأخوذًا بما وقع له ومصمما على تنفيذ ما تعهد به من إبعاد الأذى عن محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وتضليل كل من يريد بهم الشر والسوء.
ويذكر الرواة1: أن أبا جهل وجه اللوم إلى سراقة حينما رجع دون أن يتحقق له شيء. فقال له سراقة -وكان شاعرا:
أبا حكم والله لو كنت شاهدًا
…
لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت2 -ولم تشكك- بأن محمدا
…
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟
عليك بكف القوم عنه فإنني
…
أرى أمره يومًا ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم3
…
لو أن جميع الناس طرًا يسالمه
وسواء أكان هذا الشعر لسراقة نفسه أم أنه من كلام غيره، فإنه -بلا شك- تعبير صادق عما يجيش في صدره، بعد ما رأى تلك العناية التي تحيط بمحمد صلى الله عليه وسلم وتحول بين أعدائه وبين ما يشتهون.
وقد واصل الرسول صلى الله عليه وسلم سيره في هذا الركب موليا وجهه شطر يثرب، ولكن الدليل سلك بهم طريقًا غير مألوف حتى يمعن في تضليل الأعداء والاستخفاء عن أعينهم، فاتجه إلى تهامة على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وهو على أمكنة يصعب فيها السير. ولكنه اختارها لبعدها عن الطريق المعروف، فمر بعسفان -وسميت بذلك لتعسف السير فيها- ومر بالجداجد، وهو مكان كثير الصخور. ومر بالعرج، وهو مكان ينعرج فيه الطريق. وهكذا حتى وصلوا إلى
1 انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 102-104، و"دلائل النبوة" 2/ 489 للبيهقي وغير ذلك.
2 في "الدلائل": عجبت.
3 في "الدلائل": "بإلبها"، وانظر "الروض الأنف"612.
قباء بعد رحلة في صحراء الجزيرة العربية استمرت اثني عشر يومًا1، لقي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه خلالها من وعثاء السفر ووحشة الطريق وكيد الأعداء ما ينوء به الأبطال.
وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة أيام في قباء2 وفيها أسس مسجدها المبارك الذي وصفه الله عز وجل بقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 3.
1 قال في "المواهب اللدنية" 1/ 306، 307:
قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: كان قدومه صلى الله عليه وسلم لهلال ربيع الأول -أي أول يوم منه- وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من ربيع الأول، ونحوه عن أبي معشر، لكن قال ليلة الاثنين.
وعن ابن سعد: قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
وفي "شرف المصطفى" لأبي سعد النيسابوري من طريق أبي بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول.
وقيل: كان حين اشتد الضحاء يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة منه، وبه جزم النووي وقال ابن الكلبي: خرج من الغار يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول، ودخل المدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة منه، وقيل لليلتين.
وعند البيهقي: لثنتين وعشرين.
وقال ابن حزم: خرجا من مكة وقد بقي من صفر ثلاث ليالٍ.
2 الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، على حد قول ابن إسحاق، كما نقله عنه ابن كثير في "البداية" 3/ 198 ثم قال:
وعن محمد بن إسحاق قال: بنو عمرو بن عوف يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم أقام فيهم ثماني عشرة ليلة.
قال ابن كثير: وقد تقدم في البخاري عن عروة أنه أقام فيهم بضع عشرة ليلة.
وعن موسى بن عقبة عن مجمع بن يزيد بن حارثة أنه أقام في بني عمرو بن عوف بقباء اثنتين وعشرين ليلة.
وقال الواقدي: يقال: أقام فيهم أربع عشرة ليلة. انتهى.
قلت: في صحيح مسلم أنه أقام أربع عشرة ليلة. وكذا في البخاري من حديث أنس.
3 وقد قدمت الكلام على هذا أوائل الكتاب، وأن المسألة موضع خلاف، والراجح الذي جاءت به السنة أن المسجد المراد بالآية، هو المسجد النبوي.
ثم غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، واتجه إلى المدينة، حيث كان الأوس والخزرج -وهم الأنصار- يحيطون به عن يمين ويسار وقد تقلدوا سيوفهم وامتلأت نفوسهم بالبشر والسرور، فكانت لحظات خالدة في تاريخ المدينة، وكان يومًا عظيمًا في تاريخ الإسلام، وخرج النساء والصبيان في جو من النشوة والفرح تتردد فيه الأناشيد الجميلة.
ثم سار في المدينة في موكب من النور، وكلما مر الرسول صلى الله عليه وسلم على دار من دور الأنصار، دعاه أهلها للنزول عندهم، وأخذوا بزمام ناقته فيقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:"دعوها فإنها مأمورة".
ولم تزل سائرة حتى بركت في محلة من محلات أخواله بني النجار أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ههنا المنزل إن شاء الل هـ، {رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [المؤمنون: من الآية: 29] ". فاحتمل له أبو أيوب رحله فوضعه في منزله وخرجت ولائد من بني النجار يقلن:
نحن جوار من بني النجار
…
يا حبذا محمد من جار
فقال عليه السلام: "أتحببنني"؟ فقلن: نعم. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن قلبي يحبكن". واختار عليه الصلاة والسلام النزول في الدور الأسفل من بيت أبي أيوب ليكون أريح لزائريه. ولكن أبا أيوب رضي الله عنه كره ذلك وأبى إلا أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم في الطابق الأعلى إكراما وإعزازًا لشأنه1.
1 طبقات ابن سعد 1/ 259 ترتيب طبقاته وقد أخرجه من وجوه، وأخرج القصة ابن إسحاق من حديث أبي أيوب نفسه، كما عند ابن هشام 2/ 144، وهي عند البيهقي 2/ 510 ومسلم في صحيحه ص 1623. وأخرج القصة البيهقي في "الدلائل" 3/ 499 وما بعدها، من مرسلات عروة بن الزبير. ومن حديث أنس بن مالك كما في "البداية" 3/ 199 لابن كثير، ثم قال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن، وقد أخرجه الحاكم في مستدركه انتهى.
قلت: نزوله في دار أبي أيوب صح في البخاري 3699 دون ذكر تفصيل القصة. وفي سنن الترمذي وقعت القصة وصححها، من حديث أبي أيوب 4/ 261.