المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مقدمة الناشر

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: بين يدي السيرة النبوية

- ‌مدخل

- ‌البيت العتيق

- ‌مدخل

- ‌بدء بنائه ومحاولات تجديده:

- ‌عام الفيل والطير الأبابيل:

- ‌بقية الأخبار عن عمارة البيت العتيق:

- ‌الحجر الأسود:

- ‌العرب في مكة

- ‌العرب المستعربة في مكة

- ‌الجراهمة والخزاعيون في مكة:

- ‌قصي بن كلاب وأثره في قريش:

- ‌قصة الذبيحين:

- ‌المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام

- ‌مدخل

- ‌المجتمع العربي قبيل ظهور الإسلام:

- ‌اليهودية والمسيحية في بلاد العرب قبل الاسلام

- ‌مدخل

- ‌اليهودية في بلاد العرب:

- ‌المسيحية في بلاد العرب

- ‌الفصل الثاني: من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدء الدعوة الاسلامية

- ‌مبحث من ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌رضاعه:

- ‌قصة حليمة السعدية:

- ‌عهد الطفولة والشباب:

- ‌زواجه من السيدة خديجة

- ‌بعض البشائر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل:

- ‌حياة التأمل:

- ‌في غار حراء:

- ‌الفصل الثالث

- ‌من بدء الدعوة إلى الهجرة النبوية

- ‌مدخل

- ‌موقف قريش من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:

- ‌هجرة المسلمين الأولى إلى الحبشة:

- ‌إسلام حمزة وعمر:

- ‌قصة الغرانيق:

- ‌الهجرة الثانية إلى الحبشة:

- ‌مقاطعة قريش لبني هاشم وبني المطلب

- ‌عام الحزن:

- ‌خروجه إلى الطائف:

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌السموات السبع:

- ‌لقاء الأنبياء:

- ‌بيعتا العقبة:

- ‌بيعة العقبة الأولى

- ‌بيعة العقبة الثانية:

- ‌اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بمسلمي يثرب:

- ‌الفصل الرابع:

- ‌الهجرة النبوية وتأسيس الدولة الإسلامية

- ‌هجرة المسلمين إلى المدينة:

- ‌المؤامرة الكبرى:

- ‌بدء الهجرة النبوية:

- ‌في غار ثور:

- ‌قصة أم معبد

- ‌حديث سراقة:

- ‌بناء الدولة الإسلامية:

- ‌بناء المسجد

- ‌المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

- ‌المعاهدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود

- ‌تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم يضع أساس النظام الاقتصادي:

- ‌الفصل الخامس: القتال في الاسلام

- ‌القتال في الاسلام وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفتح الأعظم

- ‌مدخل

- ‌غزوة بدر الكبرى

- ‌السرايا قبل بدر:

- ‌وسرية عبيدة بن الحارث

- ‌غزة بدر الكبرى

- ‌في ميدان المعركة:

- ‌مشهد رهيب:

- ‌اللجوء إلى الله:

- ‌دور الملائكة في يوم بدر:

- ‌موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسرى:

- ‌غزوة أحد

- ‌غزوة السويق:

- ‌استعداد قريش وخروجها للمعركة:

- ‌موقف الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين:

- ‌بدء المعركة:

- ‌‌‌صور من البطولة والإيمان

- ‌صور من البطولة والإيمان

- ‌الرماة يتسببون في تغيير الوضع:

- ‌النتيجة في غزوة أحد:

- ‌دور إيجابي لدرء الخطر:

- ‌أصابع اليهود

- ‌غزوة الأحزاب "الخندق

- ‌موقف المسلمين في المدينة من الأحزاب:

- ‌حفر الخندق:

- ‌من المعجزات النبوية:

- ‌ألا إن في هذا الحادث العجيب لعبرة

- ‌الأحزاب أمام الخندق

- ‌موقف رائع لعلي بن أبي طالب

- ‌مؤامرة بني قريظة على الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين

- ‌الخدعة في الحرب:

- ‌الفرج بعد الشدة:

- ‌عاقبة الظلم ومصير بني قريظة:

- ‌من العبر في غزوة الأحزاب

- ‌اليهود بين التوراة والتلمود

- ‌من تعاليم التلمود

- ‌بين يهود الأمس ويهود اليوم:

- ‌غزوة بني المصطلق

- ‌آفة النفاق:

- ‌مثل رائع من الإيمان:

- ‌حديث الإفك:

- ‌عمرة الحديبية وعمرة القضاء

- ‌الحنين إلى مكة:

- ‌خروج الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين للعمرة وموقف قريش:

- ‌حابس الفيل:

- ‌تبادل الرسل بين قريش ومحمداً صلى الله عليه وسلم

- ‌بيعة الرضوان:

- ‌صلح الحديبية:

- ‌استثناء النساء من شروط الصلح:

- ‌عمرة القضاء

- ‌من صلح الحديبية إلى فتح مكة

- ‌مدخل

- ‌غزوة خيبر

- ‌النتيجة في غزوة خيبر:

- ‌كتب الرسول إلى الملوك والرؤساء

- ‌مدخل

- ‌كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر الروم:

- ‌موقف هرقل من كتاب الرسول:

- ‌سرية مؤتة

- ‌خروج الجيش:

- ‌العبرة من غزوة مؤتة:

- ‌الفصل السادس: غزوات الرسول

- ‌يوم الفتح

- ‌مدخل

- ‌غزوة الفتح

- ‌سبب الغزوة:

- ‌موقف غريب لصحابي جليل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون في الطريق إلى مكة:

- ‌الجيش يدخل مكة:

- ‌تطهير الكعبة من الأصنام:

- ‌غزوة حنين

- ‌مدخل

- ‌موقف المسلمين:

- ‌الانتصار بعد الهزيمة:

- ‌حصار الطائف:

- ‌تقسيم الغنائم:

- ‌موقف الأنصار بعد توزيع الغنائم:

- ‌إسلام هوازن:

- ‌عودة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة:

- ‌غزوة تبوك وما تلاها من أحداث

- ‌مدخل

- ‌دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد، وإخلاص الصحابة:

- ‌مسير الحملة:

- ‌موقف أمراء الحدود:

- ‌الثلاثة الذين خلفوا:

- ‌بعض العبر في غزوة تبوك:

- ‌عام الوفود

- ‌مدخل

- ‌هدم اللات:

- ‌حج أبي بكر

- ‌الفصل السابع:‌‌ حجة الوداعووفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌ حجة الوداع

- ‌وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌موقف المسلمين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌الفصل الثامن: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل التاسع: من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌في غار ثور:

-صلوات الله وسلامه عليه- على المشركين وهو يقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 1. فألقى الله النوم عليهم فلم يره أحد منهم2 ثم تقابل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وسارا حتى بلغا غار ثور فاختبآ فيه ثلاث ليال حتى ينقطع الطلب عنهما، وتيأس قريش من مطاردتهما.

1 سورة يس، الآية 9.

2 "سيرة ابن هشام" 2/ 127، و"مسند أحمد" كما في "البداية" بسند حسن 3/ 181.

ص: 176

‌في غار ثور:

وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور ومعه صاحبه الوفي الأمين أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد سبق أبو بكر رسول الله إلى دخول الغار ليستبرئه.

فلما اطمأن إلى سلامته من الهوام والحشرات، نادى الرسول صلى الله عليه وسلم بالدخول ومكثا في ذلك الغار الموحش ثلاث ليال.

وكان عبد الله بن أبي بكر قد عرف من أبيه حين الهجرة من مكة أنه سيلجأ مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور

فكان إذا جن الليل ينطلق إلى الغار فيقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبيه ما رأى من مشركي قريش وما سمع من تدبيرهم، ثم يأتي عامر بن فهيرة مولى أبي بكر بأغنامه فينال الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من ألبانها ولحومها ما يشاءان، ثم يعود عبد الله بن أبي بكر، ويعود عامر بالقطيع وراءه ليعفي على أثره، ويعود اللاجئان إلى عزلتهما بالغار يؤنسهما الإيمان وتحيط بهما عناية الرحمن.

وقد فزع مشركو قريش لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجه من مكة أشد الفزع، فطاردوه في كل مكان وقعدوا له كل مرصد، وتتبعوا آثاره وآثار صاحبه حتى

ص: 176

انتهى بهم المطاف إلى مقربة من غار ثور. وقد ساورهم الشك في أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه قد لجآ إلى ذلك الغار، فأخذوا يتشاورون فيما بينهم ويتساءلون، وكان على مقربة من الغار راعٍ

فلما رآه المشركون سألوه: هل رأيت محمدًا وأبا بكر؟ وهل تعرف أين ذهبا؟

وأجاب الراعي: قد يكونان بالغار

وإن لم أر أحدًا أمّه.

وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر هذا الحديث، وسمعا وقع أقدام المشركين وهم يتقدمون نحو الغار، فاستولى الخوف الشديد على أبي بكر الصديق حتى تصبب عرقًا وقال: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا.

ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطمئنه ويقول له: "يا أبا بكر ما ظنك في رجلين الله ثالثهما، يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا".

ثم تقدم واحد منهم نحو الغار، ودار حوله وأمعن النظر فيه، فلم يلبث أن عاد أدراجه. وسأله أصحابه: ماذا رأيت بالغار؟ فقال: إن العنكبوت عليه من قبل ميلاد محمد، وقد رأيت حمامتين وحشيتين على فم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد، فاعتقد المشركون أن الغار مهجور ورجعوا خائبين1.

وهكذا تتجلى عناية الله ورعايته للرسول صلى الله عليه وسلم في كل خطوة من خطواته، وفي ذلك يقول الله عز وجل:

1 انظر روايات الهجرة عند ابن كثير في "البداية" 3/ 177 وما بعدها، "ترتيب طبقات ابن سعد" 1/ 249 وما بعدها، "سيرة ابن هشام" 2/ 125 وما بعدها، "جامع الأصول" 9/ 489 وما بعدها، "دلائل النبوة" للبيهقي 2/ 471 لأبي نعيم 2/ 325 وما بعدها، "المواهب اللدنية" 1/ 286 وما بعدها، "مجمع الزوائد" 6/ 52 وما بعدها، وغير ذلك.

ص: 177

{إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1.

وإذا كان القرآن الكريم لم يشر إلى نسيج العنكبوت، ولا إلى وجود حمامتين وحشيتين عند الغار، فإن كتب الحديث النبوي قد أشارت إلى شيء من ذلك، فقد ذكر أحمد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أهل مكة لما اقتفوا أثر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خروجه من مكة وصلوا إلى جبل ثور، فصعدوا فيه فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فقالوا: لو دخل هنا أحد لم يكن نسيج العنكبوت على بابه2.

على أننا يمكن أن نستشف من قوله سبحانه: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} أي أيده بعنايته، ومن قوله:{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} أن نسيج العنكبوت ووجود الحمامتين الوحشيتين وإخفاء هذه الأشياء لمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه عن عيون الأعداء إنما هو أثر من عناية الله ورمز لجنود الله، إن جنود الله هي القوى التي يمتلئ بها الكون ويسخرها الله -إذا شاء- للقضاء على الظالمين، أو إعانة الضعفاء أو إغاثة الملهوفين، وقد يتمثل ذلك في إنسان أو حيوان أو طائر، أو أي كائن صغير أو كبير.

1 سورة التوبة، الآية 40.

2 "المسند" 2/ 279، وقد حسن الحافظ ابن كثير سند الحديث في "البداية" 3/ 181 وكذلك وقع ذكر العنكبوت والحمامتين، في حديث عن أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، عند البيهقي في "الدلائل" 2/ 482، وابن سعد 1/ 229 وأبي نعيم رقم 229، وابن عساكر كما عند ابن كثير في "السيرة" 3/ 181، وقال: هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه، قلت: وهو ضعيف وقد جاء ذكر نسج العنكبوت من مرسل الحسن، كما في "البداية" 3/ 181 وحسنه الحافظ في الشواهد.

وفي الباب أكثر مما ذكرت، وفيما تقدم كفاية.

ص: 178

ومن عجب أن المفسرين حينما يفسرون قوله سبحانه: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} يقولون عنها: إنها الملائكة التي نزلت في يوم بدر وفي يوم حنين1، ولا شك أن الآية تتحدث عن الغار وما وقع فيه من رعاية إلهية لمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه وكل الأفعال الواردة في الآية الكريمة من إنزال السكينة وتأييد الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنود وجعل كلمة الذين كفروا هي السفلى وكلمة الله هي العليا..

كل ذلك إنما تتعلق به الظروف التي اختصها الله بالذكر في هذه الآية وأعني بها {إِذْ أَخْرَجَهُ} ، و {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ، و {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} 2.

1 هذا القول، أحد قولين، كما ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" 4/ 441 وغيره. وقال: والثاني: لما كان في الغار.

فليس هو محصور قولهم بيوم الأحزاب أو بدر أو حنين، كما ذكر المؤلف. وأما قوله أن المراد بالجنود النسيج والحمامتان، لا الملائكة، وعجبه من المفسرين. فالعجب منه هو، كيف سوغ لنفسه مخالفة جميع هؤلاء المفسرين. ثم إن مجرد رؤية العنكبوت أو الحمامة ليس يدفع الرائي للرجوع وعدم الدخول في الغار، إلا بما يقذف في قلبه من ذلك.

وهذا من عمل الملائكة، لا من عمل الحمام أو نسيج العنكبوت نفسه.

ومن هنا يعرف صحة ما قالوا، وضعف ما انتقد.

نعم، لو قال: لا مانع أن تدخل الحمامتان، ونسج العنكبوت ضمن تلك الجنود مع الملائكة بعد ثبوت الخبر، لكان أحسن.

2 فائدة:

تفسير القرآن يحتاج لفهم وسبر يجعلهما الله فيمن يريد من عباده، فلا يتعجل المسلم في الخوض في ذلك، وانتقال السياق من موضع لآخر، ومن حكمة لأخرى أمر مشهود مشهور في القرآن العظيم، وبدليل ما في هذه الآية نفسها:

فقوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} .

قال جمهور أهل التفسير: عليه -أي على أبي بكر- لا على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان مطمئنًا، كما صح ذلك ومضى الحديث.. وقال قليلون: عليه أي على النبي، وقيل: عليهما!

وأما "أيده" فقالوا: هي للنبي صلى الله عليه وسلم مع أن السياق واحد.

وقد أوضح ابن الجوزي وغيره هذه الظاهرة فقال في "الزاد" 4/ 441:

فإن قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء أيده ترجع للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف تفارقها هاء "عليه" =

ص: 179

ومن هنا يسوغ لنا أن نقول -والله أعلم- إن تأييد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالجنود يُقصد به في هذه الآية ما سخره الله من القوى لنصرة محمد صلى الله عليه وسلم وتيسير طريقه إلى يثرب وإخفاء المعالم التي تدل عليه حتى يصل إلى غايته في أمن وسلام1، ولله قول شوقي حينما يسجل تلك العناية في قصيدته نهج البردة:

سل عصبة الشرك حول الغار حائمة

لولا مطاردة المختار لم تحم

هل أبصروا الأثر الوطاء أم سمعوا

همس التسابيح والقرآن من أَمَمِ؟

وهل تمثل نسج العنكبوت لهم

كالغاب والحائمات الزغب كالرخم؟

فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم

كباطل من جلال الحق منهزم

لولا يد الله بالجارين ما سلما

وعينه حول ركن الدين لم يقم

تواريا بجناح الله واستترا

ومن يَضُمُّ جناح الله لا يُضَمِ

وكما أسعدني الحظ بالرقي إلى غار حراء، حيث بدأ نزول الوحي على النبي الأمين، فقد أسعدني الحظ -كذلك- بالرقي إلى غار ثور حيث لجأ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه يحتميان من طغيان المشركين، ولقد كانت رحلة مباركة من طلاب كلية

= وهما متفقان في نظم الكلام؟

فالجواب: أن كل حرف يرد إلى الأليق به، والسكينة يحتاج إليها المنزعج، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم منزعجًا.

وأما التأييد بالملائكة فلم يكن إلا للنبي صلى الله عليه وسلم نظير هذا في قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} فالتعزير والتوقير للنبي صلى الله عليه وسلم والتسبيح لله عز وجل. انتهى.

وفي المقام كلام أطول من هذا بكثير، وإنما أوردته حتى لا يغتر مغتر بهذه الحجة التي أوردها المؤلف.

1 نعم، والملائكة أحق من قصد بذلك وعني.

ص: 180

الشريعة بمكة المكرمة. وعلى الرغم من متاعب الطريق الذي كانت تزحمه الرمال السافية والذي غاصت فيه السيارة مرة بعد مرة، ولم تتحرك إلا بعد أن نزل الجميع وعاونوها على المسير، فقد كنا نتجه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ونسير على الدرب الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم ولذا عادت بنا الذاكرة من خلال القرون الماضية إلى يوم الهجرة النبوية، وتمثلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا في ظلام الليل يطارده الظلم بجحافله الجرارة، ويضيء في قلبه الإيمان فيبدد هذا الظلم والظلام، وكنا نتطلع إلى الرمال عسى أن نرى أثرًا من آثاره، ونتسمع إلى الرياح عسى أن تروي لنا خبرًا من أخباره

وهكذا حتى وصلنا -بحمد الله وتوفيقه- إلى جبل ثور.

ولقد كان هذا الجبل يختلف عن جبل حراء، لأنه جبل تسلمك قمته إلى سفح جبل آخر. فكأن الصاعد إلى غار ثور سوف يتسلق جبلين، ويبذل من الجهد مثل ما بذل في جبل حراء مرتين. ولقد عاوننا بعض الطلاب المرافقين لنا على الصعود، وكأنما كانت تشدنا إلى غايتنا قوة سحرية حتى وصلنا إلى هذا المكان الخالد1، ووقفنا أمامه خاشعين متأملين. والناظر إلى هذا الغار لأول وهلة يروعه جلال عجيب، ويسيطر على نفسه شعور غريب، فهو قبة كبيرة من الصخر مجوفة من الداخل ويتسع لأكثر من ثلاثين رجلًا، وبابه ضيق لا يستطيع أحد أن يدخله إلا حبوًا، على يديه ورجليه، وسقفه منخفض لا يزيد ارتفاعه عن متر ونصف متر، وأمام الباب فتحة واسعة تبلغ ضعف فتحة الباب.

وقد وسعها بعض الأمراء المسلمين ليدخل منها الضوء وتسهل دخول الناس، وكان هذا عملًا بعيدًا عن الصواب.

1 كذا قال، ولا أدري من أين جاء بهذا.

ص: 181

وأمام الغار وعلى بعد ما يقرب من عشرة أمتار توجد صخرة مرتفعة، وهي التي وقف عليها المشركون حينما كانوا يبحثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد قضينا في هذا المكان نصف يوم، كان في تقديرنا نصف العمر أو العمر كله. ورجعنا بعد ذلك من نفس الطريق الذي جئنا منه؛ حيث ضربت لنا خيمة بسفح الجبل فاسترحنا في ظلها، وتناولنا أقداح الشاي وأقداح اللبن.

قلت لصاحبي -وأنا أجول في أعماق الماضي البعيد: ليت هذه الخيمة كانت خيمة أم معبد؟ وليت هذا اللبن الذي شربناه كان من شاة أم معبد.1 فأجابني قائلا: يا ليت ثم يا ليت، ولكن هيهات هيهات أن يرجع ما فات.

وبعد ثلاثة أيام قضاها الصاحبان في غار ثور، وبعد أن هدأ الطلب وسكن الناس عنهما، أتاهما الدليل: عبد الله بن أريقط، ببعيرين لهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بطعامهما.

فلما ارتحلا لم تجد ما تعلق به الطعام والماء في رحالهما، فشقت نطاقها وعلقت الطعام بنصفه وانتطقت بالنصف الآخر، فسميت ذات النطاقين. وتتحدث السيدة أسماء عما أخذه أبوها من ماله في يوم الهجرة، فتقول: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر معه خمسة آلاف درهم، وكانت هي كل ماله.

فدخل علينا جدِّي أبو قحافة -وقد ذهب بصره- فقال:

1 سيأتي ذكر ذلك.

ص: 182