الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صلح الحديبية:
وقد بدأت قريش من جانبها تفتح طريقًا جديدًا يقرب المسافة بين الطرفين، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم على استعداد للتفاهم مع قريش على أساس عادل سليم، لأنه يؤمن بأن السلم في هذا الجو أنفع بكثير من حرب لم تكتمل لها العدة اللازمة، والظروف الملائمة، ومن أجل ذلك فرح واستبشر حينما أرسلت قريش رسولها الأخير، سهيل بن عمرو، وتيمن باسمه وقال لأصحابه:"قد سهل الله لكم من أمركم".
وقد بدأ سهيل كلامه فقال: يا محمد إن الذي حصل ليس من رأي عقلائنا، بل شيء قام به السفهاء منا..
ثم عرض سهيل الشروط التي ترضى عنها قريش وهي:
1-
أن توقف الحرب بين المسلمين وبين قريش عشرة أعوام.
2-
أن من جاء إلى المسلمين من قريش يردونه، ومن جاء قريش من المسلمين لا تلزم قريش برده.
3-
أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم والمسملون من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي العام المقبل فيدخلها بأصحابه، بعد أن تخرج منها قريش فيقيمون بها ثلاثة أيام، ليس معهم إلا القوس والسيف في القراب1.
4-
من أراد أن يدخل في عهد محمد دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.
1 أي في الغمد.
وهذه الشروط التي تبدو في ظاهرها مجحفة بالمسلمين كانت موضع الرضا والقبول من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعض أصحابه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أساسًا متينًا يمكن أن يُبنى عليه المستقبل العظيم الذي يرجوه للإسلام عمّا قليل من الزمان.
وأما الغالبية العظمى من المسلمين فقد داخلهم منها همٌّ عظيم وقالوا سبحان الله! كيف نرد إليهم من جاءنا مسلمًا، ولا يردون إلينا من جاءهم مرتدًا؟
وقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله1 ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجًا ومخرجًا".
وأما الشرط الذي يمنع المسلمين من العمرة هذا العام ويؤجلها إلى العام الذي يليه، فقد ظن البعض من المسلمين أنه يخالف الرؤيا التي رآها الرسول صلى الله عليه وسلم ووعد أصحابه تحقيقها، وهي أنهم سوف يدخلون المسجد الحرام -إن شاء الله- آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين، وغفل هؤلاء عن أمر مهم وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد زمنًا خاصًّا لدخول المسلمين إلى المسجد الحرام..
ومهما يكن من شيء فقد كتبت شروط الصلح بين الطرفين، وكان الكاتب علي بن أبي طالب، فأملاه عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: اكتب باسمك اللهم. فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما خالفناك اكتب، محمد بن عبد الله. فأمر عليه السلام عليًّا بمحو ذلك وكتابة محمد بن عبد الله. فامتنع فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم بيده، وكتبت نسختان: نسخة لقريش ونسخة للمسلمين.
1 يعني هو شر أراحنا الله منه.
وقد شاء الله أن يبدأ التطبيق العملي لشروط هذا الصلح من جانب المسلمين منذ اللحظات الأولى لإتمامه وذلك أن أبا جندل بن سهيل جاء إلى المسلمين وهو يتعثر في قيوده، وكان من المسلمين الممنوعين من الهجرة، فانتهز فرصة وجود المسلمين عند الحديبية وهرب إليهم ليحموه.
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. إنا قد عقدنا العزم بين القوم صلحًا، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدًا فلا نغدر بهم
…
".
وطبق الطرفان شرطًا آخر من شروط هذا الصلح منذ اللحظات الأولى كذلك حيث دخلت قبيلة خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت قبيلة بكر في عهد قريش.
ولما انتهى الأمر، أمر عليه السلام أصحابه أن يحلقوا رءوسهم وينحروا الهدي ليتحللوا من عمرتهم، فكان ذلك صدمة عنيفة للمسلمين في جملتهم، إذ كانوا مدفوعين بحماس بالغ ضد قريش. وكانوا يرون أن شروط الصلح لا تحقق العدل والإنصاف لرسول الله والمسلمين، ولذلك لم يبادروا بالامتثال لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم فدخل عليه السلام على أم سلمة رضي الله عنها وقال لها:"هلك المسلمون، أمرتهم فلم يمتثلوا"، فقالت: يا رسول الله: اعذرهم، فقد حملت نفسك أمرًا عظيمًا في الصلح. ورجع المسلمون من غير فتح، فهم لذلك مكروبون. ولكن اخرج يا رسول الله وابدأهم بما تريد، فإذا رأوك فعلت تبعوك. فتقدم عليه السلام إلى هديه فنحره، ودعا بالحلاق فحلق رأسه، فلما رآه المسلمون توثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا، ثم رجع المسلمون إلى المدينة وهم مؤمنون بأن الله قد أراد الخير بهم، حيث لم يتعرضوا للحرب والقتال في مثل هذه الظروف القاسية.