الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الترجيح بين الأقوال:
بعد النظر في أدلة كل فريق من أصحاب الأقوال الثلاثة، وبعد النظر في الاعتراضات الواردة على تلك الأدلة، وفي إجابات كل فريق على ما ورد على أدلتهم من اعتراضات يظهر جليا أن أصحاب القول الثالث القائلين بعدم القراءة خلف الإمام مطلقًا، لا في السرية، ولا في الجهرية لم يسلم لهم دليل واحد كما رأيت، لا من أدلة الكتاب ولا من السنة، ولا من الأثر.
قال اللكنوي وهو من محققي الأحناف في كتابه «إمام الكلام في القراءة خلف الإمام» (1): «الذي يظهر بالنظر الدقيق، ويقبله أصحاب التحقيق هو أن الأحاديث التي استدل بها أصحابنا ليس فيها حديث يدل على النهي عن قراءة الفاتحة خلف الإمام، فيدفع ذلك بالجميع، أو الترجيح، أو التساقط، أو النسخ، بل هي متنوعة إلى أنواع ثلاثة:-
فمنها ما يدل على وجوب الإنصات عند القراءة كالحديث الأول - يعني حديث أبي موسى وأبي هريرة: «وإذا قرأ فأنصتوا» - قال: وهو وإن كان ظاهر لفظه وعمومه يدل على الإنصات مطلقا لكن النظر الدقيق يحكم بأنه يمنع من القراءة مع قراءة الإمام في الجهرية بحيث يخل بالاستماع والتدبر، ولا يدل على وجوبه في الجهر أثناء السكتات ولا على وجوبه في السر، وكذا الآية القرآنية، يعني: {وَإِذَا
(1) ص 225 - 226.
قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (1) قال: وكذا الحديث الثالث والرابع - يعني حديث عمران، الذي فيه:«قد عرفت أن بعضكم خالجينها» وحديث ابن مسعود، الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم:«خلطتم عليَّ القرآن» قال: وإثبات وجوب السكوت مطلقًا من هذه الأحاديث، وكذا من الآية، وإن قال به جمع من أصحابنا عند التنازع لكنه لا يخلو عن تكلف وتعسف.
ومنها: ما يدل بظاهره على النهي عن مطلق القراءة لكنها مما خدش في ثبوتها، بل ببطلان بعضها فلا يصح الاحتجاج بها، مع إمكان حملها على ما عدا الفاتحة
…
ومنها: ما يدل على كفاية قراءة الإمام للمقتدي، وأنه لو لم يقرأ المقتدي صحت صلاته بقراءة إمامه ، فيمكن أن يعارض ما صح منه بإطلاقه الأحاديث الواردة في إيجاب قراءة الفاتحة خلف الإمام بعمومها أو خصوصها، ويختار طريق الجمع بينهما، ولا دلالة لها على وجوب السكوت مطلقًا، بل ولا مقيدا، ولا على كراهة القراءة، أو الحرمة، وإن قال به جمع من الحنفية».
وحيث تبين ضعف هذا القول وهو أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام مطلقًا، وأن قراءة الإمام له قراءة في الصلاة السرية والجهرية فأي القولين الباقيين أولى بالترجيح.
أهو قول من قال بوجوب قراءة الفاتحة مطلقًا في السرية
(1) سورة الأعراف، الآية:204.
والجهرية، أم قول من قال بقراءتها في بالسرية دون الجهرية إذا كان يسمع الإمام، ولم يكن للإمام سكتات.
فأصحاب القول الأول كما تقدم استدلوا بالأحاديث الموجبة لقراءة الفاتحة في الصلاة، وجعلوها مخصصة لعموم أدلة الأمر بالإنصات في الآية والأحاديث.
وأصحاب القول الثاني استدلوا بالأدلة معًا لكنهم جعلوا أدلة الأمر بالإنصات هي المخصصة لأدلة الأمر بقراءة الفاتحة، فتقرأ الفاتحة حيث لا يجب الإنصات: أي حيث لا جهر في القراءة من قبل الإمام.
وأصحاب القول الأول احترزوا من الوقوع في ترك قراءة الفاتحة، وهي في حق المأموم واجب تركه يخل بالصلاة، أو ركن تركه يبطل الصلاة.
ولم يروا وجوب الإنصات على المأموم حال قراءته للفاتحة وإن كان يسمع قراءة الإمام إذا لم يكن للإمام سكتات.
وأصحاب القول الثاني احترزوا من الوقوع في المنهي، وهو القراءة حال قراءة الإمام، وترك الإنصات، والاستماع المأمور بهما، ولم يروا أن قراءة الفاتحة واجبة بل ولا مستحبة، بل ولا جائزة حال قراءة الإمام.
وبالمقارنة بين المحترزين فإن ترك قراءة الفاتحة حال الجهر يعد إخلالا بالصلاة عند بعض أهل العلم، بل يعد مبطلًا لصحتها عند بعضهم.
أما القراءة حال جهر الإمام فهو - عند بعض أهل العلم - ارتكاب لمحذور، وهو ترك الإنصات المأمور به عند القراءة، لكن ذلك بكل حال لا يبطل الصلاة باتفاق أهل العلم.
وعلى هذا فإن من ترك قراءة الفاتحة حال جهر الإمام متعرض للقول بعدم صحة الصلاة. أما القارئ حال قراءة الإمام فهو متعرض فقط للقول بأنه ارتكب محظوراً.
وبناء على هذا فإن أظهر الأقوال، وأقربها لصحة الصلاة وسلامتها من الخلل والنقص، ولبراءة الذمة، والذي تطمئن إليه النفس - بعد المقارنة بين هذه الأقوال وأدلتها هو القول بوجوب قراءة الفاتحة على المأموم مطلقًا في الصلاة السرية والجهرية للأدلة الصحيحة الصريحة في وجوب قراءة الفاتحة على كل مصل، إمام كان أو مأموما أو منفردا وعدم المخصص لها على الصحيح، ولحديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لعلكم تقرؤون خلف إمامكم قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بأم الكتاب» ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها: فهذا نص صريح صحيح في وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية التي هي موضع الخلاف.
والأولى أن يقرأ المأموم الفاتحة في سكتات الإمام أن أمكن ذلك، فإن لم يتمكن من قراءتها في السكتات قرأها حال قراءة الإمام لكن في قراءة الإمام ما بعد الفاتحة، فينصت لقراءة الفاتحة ثم يقرأها أثناء قراءة الإمام السورة.
وقد اختار هذا القول أكثر محققي علمائنا في العصر الحاضر منهم:
سماحة الشيخ شيخنا عبد العزيز بن عبد العزيز بن باز (1) - غفر الله له ورحمه، وفضيلة الشيخ شيخنا عبد الله بن محمد بن حميد (2) - غفر الله له ورحمه، وفضيلة الشيخ شيخنا محمد بن صالح العثيمين (3) - غفر الله له ورحمه، وفضيلة الشيخ شيخنا صالح بن محمد اللحيدان (4) - غفر الله له ورحمه.
وقد صدرت بترجيح هذا القول وهو وجوب قراءة الفاتحة مطلقًا الفتوى رقم 1752 بتاريخ 28/ 12/1397 هـ من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والتي يرأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. وهذا نصها:
"تجب قراءة الفاتحة على المصلي، سواء كان إمامًا أو منفردًا أو مأمومًا، وسواء كانت الصلاة سرية أم جهرية، سمع المأموم فيها قراءة إمامه أم لم يسمعها في أرجح الأقوال للعلماء، لعموم حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم
(1) سمعت ذلك من سماحته في أكثر من حلقة من حلقات نور على الدرب.
(2)
سمعت ذلك منه رحمه الله في فتاوى نور على الدرب.
(3)
سمعت ذلك من فضيلته في أكثر من حلقة من حلقات برنامج «نور على الدرب» وفي أكثر من لقاء وانظر قوله هذا أيضًا في كتابه «تنبيه الأفهام بشرح عمدة الأحكام» ص 33 - 34.
(4)
سمعت ذلك منه في عدة حلقات من حلقات برنامج نور على الدرب.
يقرأ بأم القرآن» فنفى الصلاة الشرعية لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب عمومًا ولم يخص منها حالا من أحوال المصلي دون حال. والنفي إذا ورد في نصوص التشريع اتجه إلى الحقيقة الشرعية لا إلى كما لها إلا بدليل ولا دليل يصرف عنها على الصحيح من أقوال العلماء. وما استدل به الحنفية على أن المأموم لا يقرأ بفاتحة الكتاب من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام له قراءة» فضعيف.
قال ابن حجر في التلخيص: إنه مشهور في حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة كلها معلولة، ولو صح لكان مخصصًا لما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه صلى خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن، فلما انصرفوا من الصلاة قال لعبادة بعض من سمعه يقرأ: سمعتك تقرأ بأم القرآن، وأبو نعيم يجهر، قال: أجل، صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، قال: فالتبست عليه القراءة، فلما فرغ أقبل علينا بوجهه فقال:«هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ فقال بعضنا: نعم إنا نصنع ذلك. قال: فلا، وأنا أقول مالي أنازع القرآن، فلا تقرؤوا بشيء إذا جهرت إلا بأم القرآن» .
فهذا عبادة راوي الحديث قرأ بها جهرا خلف الإمام، لأنه فهم من كلامه صلى الله عليه وسلم أنه يقرأ بها خلف الإمام جهر والإمام يجهر بالقراءة.
وكذلك العموم في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ