الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
أحكام الاستعاذة
أ - مكان الاستعاذة من القراءة:
قال الله - تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (1).
ظاهر الآية أن الاستعاذة محلها بعد القراءة.
وقد تمسك بهذا الظاهر بعض القراء، فنقل ذلك عن حمزة (2)، وأبي حاتم السجستاني (3)، ورويَ ذلك- أيضًا- عن أبي هريرة (4) رضي الله عنه ، ومحمد بن سيرين (5)، وإبراهيم النخعي (6)، وداود الظاهري (7) وحكاه
(1) سورة النحل، الآية:98.
(2)
انظر «غرائب القرآن» للنيسابوري 16:1، «تفسير ابن كثير» 29:1.
(3)
انظر «تفسير ابن كثير» 29:1.
(4)
انظر «التفسير الكبير» 114:20، «المجموع» 325:3، «الجامع لأحكام القرآن» 88:1، «تفسير ابن كثير» 29:1.
(5)
أخرج عبد الرازق- في الصلاة- باب متى يستعيذ- الأثر 2590، وابن أبي شيبة- في الصلوات- في التعوذ كيف هو 238:1 عن بن سيرين أنه كان يتعوذ قبل أن يقرأ أم القرآن وبعد قراءتها.
(6)
أخرجه عن النخعي عبد الرازق- في الصلاة- متى يستعيذ حديث 2593 وانظر «المجموع» 325:3، «تفسير ابن كثير» 30:1.
(7)
انظر «التفسير الكبير» 59:1، «الجامع لأحكام القرآن» 88:1، «تفسير ابن كثير» 30:1.
القرطبي (1) وغيره عن مالك واستغرب ذلك ابن العربي (2)
واحتج بعضهم لهذا القول بأن الاستعاذة بعد القراءة تدفع الإعجاب بعد فراغ القراءة (3)، وتكون سببًا للاستفادة من التلاوة، وحفظها وثباتها (4).
وجمهور أهل العلم والتحقيق على أن الاستعاذة مشروعة قبل القراءة، وأن معنى قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وأي: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، كقوله - تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (5) أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة (6)، وكقوله تعالى:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (7) أي: إذا أردتم القول، وكقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (8) أي: إذا أردتم سؤالهن، فاسألوهن من وراء حجاب،
(1) في «تفسير» 88:1، وانظر «التفسير الكبير» 114:20.
(2)
انظر «أحكام القرآن» لابن العربي 1175:3 - 1176.
(3)
انظر «التفسير الكبير» 59:1، «تفسير ابن كثير» 29:1.
(4)
انظر «إغاثة اللهفان» 148:1.
(5)
سورة المائدة، الآية:6.
(6)
انظر «المصنف» لعبد الرزاق- الصلاة- باب متى تستعيذ- الآثار 2588 - 2593، «تفسير الطبري» 173:14، «أحكام القرآن» للجصاص 191:3، «الإقناع في القراءات السبع» 154:1، «أحكام القرآن» لابن العربي 175:3، «المحرر الوجيز» 48:1، «زاد المسير» 7:1، «التفسير الكبير» 59:1 - 60، «الجامع لأحكام القرآن» 86:1، «التبيان» للنووي ص64، «تفسير ابن كثير» 30:1، 32.
(7)
سورة الأنعام، الآية:152.
(8)
سورة الأحزاب، الآية:53.
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة} (1) أي إذا أردتم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم (2).
قال القرطبي (3): «فأوقع الماضي، مكان المستقبل، كقول الشاعر:
إني لأتيكم لذكر الذي مضى
…
من الود واستئناف ما كان في غد (4)
أي ما يكون في غد.
وعلى هذا المعنى دلت السنة، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبر، ثم يقول:«سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: الله أكبر كبيرا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه» (5).
وهذا القول هو الصحيح.
قال الجصاص (6): «وقول من قال: إن الاستعاذة بعد الفراغ من القراءة شاذ، وإنما الاستعاذة قبل القراءة، لنفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى
(1) سوره المجادلة، الآية:(12).
(2)
انظر «أحكام القرآن» للجصاص.
(3)
في «تفسيره» 86:1.
(4)
البيت للطرماح - انظر «ذيل ديوانه» ص (572).
(5)
سبق تخريجه في الكلام على صيغ الاستعاذة في المبحث الأول، من هذا الفصل.
(6)
في «أحكام القرآن» (3): (191).
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} (1)، فإنما أمر الله بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذه العلة».
بل حكي الإجماع عليه.
قال مكي في كتابه «الكشف عن وجوه القراءات السبع» (2): «فإن قيل: فإن ظاهر النص أن يتعوذ القارئ بعد القراءة، لأنه قال {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ} والفاء بعدما قبلها، تتبعه هو أصلها، فالجواب: أن المعنى على خلاف الظاهر، معناه: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، ودل على ذلك الإجماع أن الاستعاذة قبل القراءة، ودليل هذا المعنى قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَاسُنَا} (3)، فوقع في ظاهر التلاوة أن مجيء البأس بعد الهلاك، وليس المعنى على ذلك، إنما معناه: وكم من قرية أردنا إهلاكها، فجاءها بأسنا. فمجيء البأس، بعد إرادة الهلاك، وقبل الهلاك، وكذلك التعوذ، المأمور به، يكون بعد إرادة القراءة، وقبل القراءة، على أصل الفاء» .
وقد ضعف ابن الجزري (4) صحة المروي في هذا، عن حمزة وأبي حاتم، وأبي هريرة وابن سيرين والنخعي، في أنها بعد القراءة، وقال: «محلها قبل القراءة إجماعًا، ولا يصح قول، بخلافه، عن أحد ممن
(1) سورة الحج، الآية:4.
(2)
9:1.
(3)
سورة الأعراف، الآية:(4).
(4)
في «النشر» 1: (254)، وأنظر:«المحلي» 50:3، «المبسوط» 13:1، «أحكام القرآن» لابن العربي 1175:3 - 1176، «تفسير ابن كثير» 30:1.
يعتبر قوله».
واتفق القراء، على مشروعية التعوذ، قبل البسملة، في ابتداء السور، واختلفوا فيما إذا ابتدأ القارئ بوسط السورة، هل يتعوذ، أو يبسمل، أو يجمع بينهما.
والصحيح أنه يتعوذ فقط. ويقف بعد الاستعاذة ثم يقرأ، ويجوز أن يصل الاستعاذة بالقراءة (1).
واستثنى بعض أهل العلم، مثل قوله - تعالى:{الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} (3)، وقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (4)، وقوله تعالى:{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (5)،
ونحوها من الآيات، نظرًا لما في الاستعاذة قبلها من قبح اللفظ. قالوا: ففي مثل هذه المواضع يستعيذ ثم يبسمل (6).
وهذا الاستثناء لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، لأن الأمر بالاستعاذة عام لكل قراءة للقرآن، من أي موضح منه كانت القراءة، والبسملة - على الصحيح - لا تشرع إلا في أول السورة. والتعليل بقبح
(1) اتظر «التبصرة» ص246 - 250، «الإقناع» 154:1، «البرهان» 460:1، «النشر» 265:157:1، «التسهيل لعلوم التنزيل» 30:1.
(2)
سورة البقرة، الآية:255.
(3)
سورة الأنعام، الآية:141.
(4)
سورة الروم، الآية:54.
(5)
سورة فصلت، الآية:47.
(6)
انظر «البرهان» 460:1، «النشر» 266:1.
اللفظ لا يكفي مسوغًا للبسملة وسط السورة بلا دليل، لكن كما يشرع الوقف على كثير من آي القرآن لمراعاة اللفظ والمعنى، فكذلك ينبغي أن يقف القارئ بعد الاستعاذة ويسكت قليلًا في مثل هذه المواضع المذكورة، وبهذا يزول القبح.