الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع
بيان أن شيطان الجن أعظم ضررًا من شيطان الإنس ومن النفس «المذمومة»
أ- شيطان الجن أعظم ضررًا من شيطان الإنس:
قال ابن كثير (1) في كلامه على الاستعاذة: «وهي استعانة بالله، واعترافه له بالقدرة، وللعبد بالضعف والعجز، عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني، الذي لا يقدر على منعه، ودفعه إلا الله، الذي خلقه، ولا يقبل مصانعة، ولا يدارى بالإحسان، بخلاف العدو من نوع الإنسان، كما دلت على ذلك آيات من القرآن، في ثلاث من المثاني، وقال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} (2).
وقد نزلت الملائكة لمقاتلة العدو البشري، فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيدًا، ومن قتله العدو الباطني كان طريدًا، ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجورًا، ومن قهره العدو الباطني، كان مفتونًا، أو موزورًا، ولما كان الشيطان، يرى الإنسان من حيث لا يراه، استعاذ منه بالذي يراه، ولا يراه الشيطان» (3).
(1) في «تفسيره» 1: 32.
(2)
سورة الإسراء، الآية:65.
(3)
انظر «غرائب القرآن» 1: 22 - 23.
وقال ابن كثير - أيضًا (1) -: «فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا الله، ولهدا أمر - تعالى - بمصانعة شيطان الإنس، ومداراته بإسداء الجميل إليه، ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى، وأمر بالاستعاذة به من شيطان الجن، لأنه لا يقبل رشوة، ولا يؤثر فيه جميل، لأنه شرير بالطبع، ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه، وهذا المعنى في ثلاث آيات من القرآن، لا أعلم لهن رابعة: قوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} (2) فهذا ما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشرن ثم قال {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} (3)، وقال تعالى في سورة:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} (4)، وقال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} (5)
قال ابن الجزري (6):
(1) في «تفسيره» 1: 33، وانظر «إغاثة اللهفان» 1:155.
(2)
سورة الأعراف، الآية:199.
(3)
سورة الأعراف، الآية:200.
(4)
سورة المؤمنون، الآية: 96 - 98.
(5)
سورة فصلت، الآية: 34 - 36، انظر أيضًا 1: 29 من تفسير ابن كثير، وانظر أيضًا كلامه في تفسير الآيات المذكورة من سورة الأعراف، وانظر «النشر» 1:256.
(6)
في «النشر» 1: 257.
شيطاننا المغوي عدو فاعتصم
…
بالله منه والتجى وتعوذ
وعدوك الإنسان دار وداده
…
تملكه وادفع بالتي فإذا الذي
فشيطان الإنس، قد ينفع فيه العفو، أو الأمر بالمعروف، أو الإعراض، أو الإحسان. أما شيطان الجن، فلا يعصم منه إلا الاستعاذة بالله منه، لأن شيطان الجن متسلط، لا يريد إلا إغواء الإنسان، وإهلاكه، وهو خفي لا يرى كما قال تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (1). ولأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما قال صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (2).
فامره خطير، وكيده عجيب (3)، فهو يتدرج بالإنسان - إن وجد سبيلًا إليه - حتى يوقعه بالكفر ويكبه في النار. قال تعالى:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} (4)، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (5).
وإن لم يستطيع إيصاله إلى الكفر، بل إلى أعظم دركاته، فإنه
(1) سورة الأعراف، الآية:27.
(2)
أخرجه البخاري في الاعتكاف، وفي بدء الخلق حديث 2035، 2038، 2039، 3281، ومسلم - في السلام - حديث 2175 من حديث صفية في قصة مجيئها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معتكف وخروجه معها ليوصلها إلى البيت، وأخرجه - أيضًا - مسلم من حديث أنس حديث 2174.
(3)
من أجود ما ألف في مكايد الشيطان ما كتبه ابن القيم في كتابه «إغاثة اللهفان» 1: 163 وما بعدها. وانظر «التفسير القيم» ص 609 - 614. وانظر «تلبيس إبليس» لابن الجوزي.
(4)
سورة الحشر، الآية:16.
(5)
سورة مريم، الآية:83.
لا يكف حتى يوصله إلى أقصى حد يمكنه إيصاله إليه، ولو كان دون الكفر، فيوقعه في البدعة، فإن لم يستطع أوقعه في الكبائر، فإذ لم يستطع أوقعه في الصغائر، فإن لم يستطع ثبطه عن الطاعات وشغله بالمباحات، فإن لم يستطع شغله بالمفضول عن الفاضل، فإن لم يستطع ذلك أتاه من باب الإعجاب والكبر والرياء، وهذا - في الغالب - مدخله على كثير من العباد والعلماء وذوي الجاه والسلطان والكرم والشجاعة ونحوهم، فليحذر العاقل اللبيب، من ذلك فإن الشيطان عندما يعجز عن حمله على ترك واجب أو انتهاك محرم ظاهر، فإنه يأتيه من هذا المدخل الخفي فيحبط عمله، وهو لا يدري. فإن لم يدرك منه شيئًا من هذه المراتب وأعيته فيه الحيل سلط عليه حزبه من شياطين الإنس والجن يبدعونه ويفسقونه ليشوش عليه قلبه ويمنع الناس من الانتفاع به فيبقى في مدافعة وتسلط هؤلاء الشياطين لا يفتر جتى يأتيه من ربه اليقين (1).
ب- الشيطان أعظم ضررًا على الإنسان من النفس «المذمومة» (2)، بل إن النفس المذمومة كل ما يحصل منها من شر وفساد، إنما هو بسبب تزيين الشيطان، ووسوسته، لأنها مركب الشيطان، والأداة لتنفيذ شره، ولهذا أكثر الله في القرآن الكريم من ذكر الشيطان، وذمه، والتحذير منه، في مواضع كثيرة جدًا. وأمر بالاستعاذة منه عند قراءة القرآن. بينما ذكر النفس المذمومة في ثلاثة مواضع فقط، في قوله -
(1) انظر «بدائع الفوائد» 1: 260 - 262.
(2)
انظر «إغاثة اللهفان» 1: 145.
تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوء} (1)، وقوله:{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة} (2)، وقوله:{وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (3).
ولم يأمر بالاستعاذة منها في موضع واحد من القرآن، وإنما جاءت الاستعاذة من شرها بالسنة، كما في حديث أبي هريرة، في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر كلمات يقولهن إذا أصبح، وإذا أمسى، وإذا أخذ مضجعه، وفيهن أمره صلى الله عليه وسلم له أن يقول «أعوذ بالله من شر نفسي» (4).
وفي خطبة الحاجة كما في حديث ابن مسعود قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: «إن الحمه لله نستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا
…
الحديث» (5).
****
(1) سورة يوسف، الآية:53.
(2)
سورة القيامة، الآية:2.
(3)
سورة النازعات، الآية: 40
(4)
سبق تخريجه في المواضع التي تشرع فيها الاستعاذة المبحث السادس.
(5)
رواه أبو داود - في النكاح - خطبة النكاح - حديث 2118 وصححه الألباني حيث 1860.