الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
المعاني التي اشتملن عليها سورة الفاتحة
اشتملت سورة الفاتحة على جميع المعاني التي اشتمل عليها القرآن الكريم.
ففيها حمد الله والثناء عليه وتمجيده، وفيها توحيده بأقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وفيها الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وإثبات البعث والجزاء والعمل: أى العمل وجزائه، والعامل وعمله.
وفيها: إرشاد الخلق إلى حمد الله والثناء عليه وتمجيده وعبادته والاستعانة به في جميع أمورهم الدينية والدنيوية، وإخلاص العمل لله، وإعلان البراءة من حولهم وقوتهم، وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم المؤدي بسالكه إلى سعادة الدارين.
وفيها ذكر أقسام الناس الثلاثة: المنعم عليهم، وهم الذين هداهم الله ووفقهم إلى العلم، ومعرفة الحق، والعمل به.
والمغضوب عليهم: وهم الذين علموا الحق وعرفوه، ولو يعملوا به، والضالين: وهم الذين جهلوا الحق، فعملوا بالباطل.
وفيها إثبات الرسل والرسالات والوحي، إذ كيف يحمده العباد،
وكيف يعبدونه وفق ما شرع، وكيف لهم بمعرفة طريق المنعم عليهم واقتفائه، والحذر من طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين، والبعد عنهما، إلا من طريق الوحي والرسل والرسالات، وكيف يجازون على ذلك حسب أعمالهم إلا بعد البيان وإقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، كما قال تعالى:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1)، وقال تعالى:{مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (2). وقال حذيفة بن اليمان: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني» (3). وكما قيل:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
…
ومن لم يعرف الشر حري أن يقع فيه
كما تضمنت السورة الرد على جميع المبطلين، وأهل البدع والضلال والإلحاد.
قال ابن القيم رحمه الله في «مدارج السالكين» (4): «اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال،
(1) سورة النساء، الآية:165.
(2)
سورة الإسراء، الآية:15.
(3)
أخرجه البخاري في المناقب - الحديث 3606، ومسلم في الإمارة - باب لزوم جماعة المسلمين الحديث 1847.
(4)
1: 30، وانظر:«التفسير القيم» ص7 - 11 وانظر أيضًا 1: 99 - 100 من «مدارج السالكين» .
وتضمنتها أكمل تضمن فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها وهي:«الله» ، و «الرب» ، و «الرحمن» . وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة، و {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مبني على الإلهية، و {نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} على الربوبية. وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة، والحمد يتضمن الأمور الثلاثة، فهو المحمود في إلهيته، وربوبيته، ورحمته، والثناء والمجد كما لان لجده.
وتضمنت إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، حسنها وسيئها، وتفرد الرب - تعالى- بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل. وكل هذا تحت قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة
…
».
وقال - أيضًا- في كتابه «الفوائد» (1): «فائدة: للإنسان قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة علمية إرادية، وسعادته التامة موقوفة على استكمال قوتيه العلمية والإرادية، واستكمال القوة اللمية إنما يكون بمعرفة فاطره وبارئه، ومعرفة أسمائه وصفاته، ومعرفة الطريق التي توصل إليه، ومعرفة آفاتها، ومعرفة نفسه، ومعرفة عيوبها، فبهذه المعارف الخمس يحصل كمال قوته العلمية. وأعلم الناس أعرفهم بها، وأفقههم فيها، واستكمال القوة العلمية الإرادية لا يحصل إلا بمراعاة حقوقه سبحانه على العبد، والقيام بها، إخلاصًا وصدقًا، ونصحًا وإحسانًا،
(1) ص39 - 40.
ومتابعة، وشهودًا لمنته عليه وتقصيره هو في أداء حقه، فهو مستحيٍ من مواجهته بتلك الخدمة، لعلمه أنها دون ما يستحقه عليه، ودون دون ذلك، وأنه لا سبيل له إلى استكمال هاتين القوتين إلا بمعونته، فهو مضطر إلى أن يهديه الصراط المستقيم، الذي هدى إليه أولياءه وخاصته، وأن يجنبه الخروج عن ذلك الصراط، أما بفساد في قوته العلمية، فيقع في الضلال، وإما في قوته العملية، فيوجب له الغضب.
فكمال الإنسان وسعادته لا تتم إلا بمجموع هذه الأمور، وقد تضمنتها سورة الفاتحة، وانتظمتها أكمل انتظام فإن قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يتضمن الأصل الأول، وهو معرفة الرب تعلى، ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله.
والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى، وهو اسم «الله» و «الرب» و «الرحمن» . فاسم «الله «متضمن لصفات الألوهية، واسم «الرب «متضمن لصفات الربوبية، واسم «الرحمن «متضمن لصفات الإحسان والجود والبر، ومعاني أسمائه تدور على هذا.
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يتضمن معرفة الطريق الموصلة إليه، وأنها ليست إلا عبادته وحده بما يحبه ويرضاه، واستعانته على عبادته.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يتضمن بيان أن العبد
لا سبيل إلى سعادته إلا باستقامته على الصراط المستقيم، وأنه لا سبيل له إلى الاستقامة إلا بمعونته، فلا سبيل له إلى الاستقامة على الصراط إلا بهدايته.
وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} يتضمن طرفي الانحراف عن الصراط المستقيم، وأن الانحراف إلى أحد. الطرفين انحراف إلى الضلال، الذي هو فساد العلم والاعتقاد، والانحراف إلى الطرف الآخر انحراف إلى الغضب الذي سببه فساد القصد والعمل.
فأول السورة رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة. وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه منها على قدر حظه من الرحمة، فعاد الأمر كله إلى نعمته ورحمته، والنعمة والرحمة من لوازم ربوبيته فلا يكون إلا رحيمًا منعمًا، وذلك من موجبات إلهيته، فهو الإله الحق، وإن جحده الجاحدون، وعدل به المشركون، فمتى تحقق بمعني الفاتحة علمًا ومعرفة وعملًا وحالًا فقد فاز من كماله بأوفر نصيب، وصارت عبوديته عبودية الخاصة، الذين ارتفعت درجتهم عن عوام المتعبدين، والله المستعان».
وقال ابن كثير رحمه الله (1): «اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات على حمد الله وتمجيده، والثناء عليه، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد، وهو يوم الدين،
(1) في «تفسيره» 1: 60، وانظر:«الجامع لأحكام القرآن» 1: 98 «مجموع الفتاوى» 17: 67 «التسهيل لعلوم التنزيل» 1: 34، «تيسير الكريم الرحمن» 1:37.
وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية تبارك تعالى، وتنزيه أن يكون له شريك، أو نظير، أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه حتى يفضي لهم بذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة. والتحذير من مسالك الباطل لا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون
…
».
** * *