الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فحديثٌ لم يختلف فيه على روايةٍ - أصلاً - أصح من حديث اختلف فيه في الجملة، وإن كان ذلك الاختلاف في نفسه يرجع إلى أمر لا يستلزم القدح- والله أعلم -" (1).
وقد شرح السيوطي كلام الحافظ ابن حجر فقال:
"وقع في كلام شيخ الإسلام السابق أن الاضطراب قد يجامع الصحة، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم رجل واحد وأبيه، ونسبته، ونحو ذلك، ويكون ثقة، فيحكم للحديث بالصحة، ولا يضر الاختلاف فيما ذكر مع تسميته مضطرباً، وفي الصحيحين أحاديث كثيرة بهذه المثابة، وكذا جزم الزركشي بذلك في مختصره، فقال: وقد يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن."(2)
المبحث الثالث: خلاصة تحرير التعريف
.
- الاضطراب في اللغة يأتي بمعنى: الاختلاف، والاختلال، وعدم الاستقرار، والمضطرِب بكسر الراء هو الشائع، ويجوز فيه فتحها.
- ومعناه في الاصطلاح له ارتباط وثيق بمعناه اللغوي، فوصف الحديث بالاضطراب يوحي باختلال في ضبط الرواة، ويُعدُّ الوصف بالاضطراب نوعاً من العلة.
- معنى الاضطراب قبل ابن الصلاح:
(1) ابن حجر، النكت، 2/ 810.
(2)
السيوطي، التدريب، 1/ 314.
أقدم من وجدته عرّف المضطرب هو الخطيب البغدادي، حيث صرّح بالمراد من اضطراب السند، وأشار إلى معنى الاضطراب في المتن بالمقابلة بين الحديث السالم من الاضطراب والحديث المضطرب متنه.
ويثير تعريفه لمضطرب السند إشكالاً، حين قصره على نوع من أنواع الاضطراب في السند - بتدليس الراوي لأسماء الرواة الضعفاء- دون بقية الأنواع ولعل إجابة هذا الإشكال، تكون على النحو الآتي:
- بالنسبة للأنواع الأربعة الأخرى فقد أفردها بالذكر إما في أبواب من كتابه الكفاية، أو في كتاب مستقل كنوع المزيد في متصل الأسانيد.
- بعد استثناء الأنواع السابقة يكون الإبدال في اسم الراوي من الصور البارزة والغالبة فيما حُكم عليه بالاضطراب، فيكون تخصيصه لذلك من باب الغالب، وليس الحصر، والله أعلم، حيث يُلاحظ أن: أمثلة الأحاديث الموصوفة بالاضطراب، والمبثوثة في كتاب تاريخ بغداد لا تخرج عن الإطار العام لأمثلة الحديث المضطرب في كتب العلل، والغالب عليها اختلاف الرواة في رواية الحديث الواحد واضطرابهم في أسماء رواته أو في رفع الحديث أو وقفه أو وصله أو إرساله، وليست مقصورة على نوع واحد فقط.
- ويلاحظ: أن ما انتخبه ابن حجر في تعريفه للحديث المضطرب، يتقارب مع ما ذهب إليه الخطيب في تعريفه لاضطراب السند؛ من حيث كون تدليس أسماء الرواة يدخل في معناه إبدال اسم الراوي أو تسميته بما لا يُعرف.
- مسألة أخرى أثارها تعريف الخطيب البغدادي، وهي: العلاقة بين التدليس (خاصة تدليس الشيوخ) والحديث المضطرب، أو وصف الراوي بالاضطراب:
- ففي تدليس الشيوخ خصّ التغيير والتبديل في اسم شيخ الراوي، والدوافع لهذا التبديل متعددة، بينما في تعريفه للاضطراب فالتغيير قد يطرأ على اسم أي راوٍ من رواة السند؛ وذلك لكونهم في الغالب رواة ضعفاء.
- كذلك نجد أن الحاكم حين ذكر أجناس المدلسين، ذكر منهم:"قوم دلسوا أحاديث رووها عن المجروحين فغيروا أساميهم وكناهم، كي لا يعرفوا"(1)، ومثّل له بمثال موصوف بالاضطراب.
وقد أشار بعض الباحثين إلى العلاقة بين التدليس والاضطراب: فذهب أحدهم إلى أن: "التدليس - بشكل عام-: هو أحد الأسباب الرئيسة التي تُدخِل الاختلاف في المتون والأسانيد؛ لأن التدليس يكشف عن سقوط راو أحيانا فيكون لهذا الساقط دور في اختلاف الأسانيد والمتون"(2)، وصرّح الآخر بأن: التدليس سبب من أسباب اضطراب الرواة؛ فمن
كثرة ما يُدلِّس، تضطرب عليه الرواية، فلا يحفظ على هذا الوجه سماعه، أو على الآخر. (3)
- ونجد كذلك ابن دقيق العيد في الاقتراح، ومن بعده الطيبي في الخلاصة، يورد نوع المضطرب بعد المدلس، وهو ترتيب مخالف لمن سبقهم، ولعلهم وجدوا شبهاً بين النوعين فذكروهما متتاليين، والله أعلم.
- لابن القطان الفاسي مذهب خاص في التعليل بالاضطراب، حيث ذهب إلى أن: الاضطراب في المتن يُعلُّ الحديث، بينما اضطراب السند ليس بعلة، وذلك في حال كان الراوي الذي وقع منه الاضطراب ثقةً، بينما إذا كان الراوي غير ثقة فحديثه ضعيف، واضطرابه يزيد الحديث وهناً.
- أما ما يخص أبرز قيود الحديث المضطرب عند ابن الصلاح، فهي على النحو التالي:
(1) الحاكم، علوم الحديث، 103،
(2)
الفحل، اختلاف الأسانيد، 31.
(3)
مثّل لذلك بما قيل في الراوي: الحجاج بن أرطأة، حيث "قال عنه إسماعيل القاضي:"مضطرب الحديث؛ لكثرة تدليسه، وقال محمد بن نصر: الغالب على حديثه الإرسال والتدليس وتغيير الألفاظ." ينظر: بازمول، المقترب، 198.
القيد الأول: الاختلاف في روايات الحديث الواحد:
- تضمنت تعريفات من سبق ابن الصلاح ومن بعده الإشارة إلى هذا القيد ضمن تعريفها للاضطراب، سواء كان ذلك بمنطوق العبارة أو بمفهومها.
- إن اختلاف الرواية مع اتحاد مخرجها دليل على الاضطراب، وتعليلهم أحياناً الحديثين المختلفين سنداً بالاضطراب إنما مرادهم الاضطراب لغة لا اصطلاحاً، أو تكون تلك الأحاديث كلها مضطربة.
- أما إذا وقع الاختلاف في المتن مع اختلاف المخرج: فهذا يُعرف بمختلف الحديث: وهو الحديث المقبول المعارض في الظاهر بمثله.
- كثرة وقوع الاضطراب من الراوي والاختلاف في الرواية ينبئ بقلة ضبطه، ما لم يكن هذا من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث.
- القيد الثاني: التساوي بين وجوه الاختلاف:
- صرّحت بعض تعريفات المضطرب باشتراط ذلك بمعاني مرادفة للتساوي كالتقارب، والتعادل.
- ويرى ابن الصلاح بأن التساوي شرط لتسمية الاختلاف بين روايات الحديث اضطراباً، بينما ذهب الزركشي إلى أن مجرد الاختلاف من الرواة في رواية الحديث كافٍ لتسمية الحديث بالمضطرب، وإنما يؤثر تساوي هذه الوجوه في القوة في جعل هذا الاضطراب قادحاً في صحة الحديث.
- ويُلحق بشرط التساوي عدم إمكانية الجمع أو الترجيح بين الروايات بأحد طرق الترجيح المعتمدة:
قال ابن حجر: "فالاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطربا إلا بشرطين:
أحدهما: استواء وجوه الاختلاف فمتى رجح أحد الأقوال قُدِّم ولا يُعَل الصحيح بالمرجوح.
ثانيهما: مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب ويتوقف عن الحكم بصحة ذلك الحديث." (1)
- تجدر الإشارة إلى أن أمثلة الحديث الموصوف بالاضطراب في كتب نقّاد الحديث، تحوي عدداً ليس بالقليل مما وُصف بالاضطراب مع وجود ترجيح لأحد رواياته أو بعضها، (2) ويُعدّ هذا إشكالاً في ظل اشتراط عدم إمكانية الجمع أو الترجيح بين الروايات، وتحتمل الإجابة عن هذا الإشكال عدداً من الأجوبة، وهي كما يلي:
1 -
أن هناك من يصف الحديث بالاضطراب لمجرد الاختلاف بين الروايات، سواء تكافأت الروايات أو تفاوتت.
2 -
أنهم وصفوا الحديث بالاضطراب بالنسبة إلى طريق أو راوٍ.
3 -
أنه ترجيح افتراضي لا أثر له بل تظل معه الروايات مضطربة وإنما قال بترجيحه؛ لأنه أحسنها في الظاهر.
4 -
أنه قد يخفى وجه الترجيح على بعض أهل العلم فيحكم بالاضطراب، ثم يلوح لآخر فينفي عنه الاضطراب.
(1) ابن حجر، هدي الساري، 348 - 349.
(2)
"قلت: وقع في عبارات بعض الأئمة من المتقدمين ما يدل على أنهم قد يُطلقون وصف الاضطراب على المعنى اللغوي: بمعنى الاختلاف في الروايات والطرق، ويرجحون طريقا على أخرى.
ولكن هذا لا يمنع من أن المضطرب بمعناه الاصطلاحي كان متداولاً بينهم، فكم من حديثٍ وصفوا طرقه بالاختلاف والتعارض، ولم يرجحوا فيه وجها على وجه، وقد يقع الاضطراب في السند، كما قد يقع في المتن، والأكثر شيوعا الأول، وقد يقع الاضطراب من الثقة وقد يقع من الضعيف المتكلّم فيه، والأكثر شيوعا وقوعه من الضعيف لقلة ضبطه." سليم، ما لا يسع جهله، 116 - 117، ينظر كذلك: العوني، شرح الموقظة، 138.
هذا، وتظل النسبة الغالبة من أمثلة الحديث المضطرب لم يتم الترجيح بين رواياتها المختلفة. (1)
- أما ما يخص حكم الحديث المضطرب، ففي الغالب يكون إطلاق وصف الاضطراب على الحديث يوجب ضعف الحديث؛ إلا أنه في حالات قد يجتمع وصف الاضطراب مع
الصحة؛ كأن يقع الاختلاف في اسم رجل واحد وأبيه، ونسبته، ونحو ذلك، ويكون ثقة، فيحكم للحديث بالصحة، ولا يضر الاختلاف فيما ذُكِر مع تسميته مضطربا.
الفرق بين الشاذ والمضطرب:
"قد تقرر:
- أن الثقة إذا خالفه من هو أرجح منه سمي حديثه شاذاً، والشاذ من المردود.
- وأن الحديث إذا وقع الخلاف فيه بالإبدال في متنه أو سنده ولا مرجح سمي حديثه مضطربا، والمضطرب من المردود." (2)
الفرق بين مختلف الحديث والمضطرب:
مختلف الحديث: هو أن يأتي حديثان متضادان أو متعارضان في المعنى ظاهراً، فيوفق بينهما، أو يرجح أحدهما على الآخر. (3)
فالفرق بينهما: (4)
(1) ينظر أمثلة الحديث المضطرب في هذين البحثين: الهليل، الحديث المضطرب، 166، بازمول، الحديث المضطرب، 312 - 843.
(2)
الجزائري، توجيه النظر، 1/ 540.
(3)
ينظر: النووي، التقريب، 90، ابن جماعة، المنهل، 60، ابن الملقن، التذكرة، 19، ابن حجر، النزهة، 91.
(4)
ينظر: بازمول، المقترب، 162، ينظر كذلك مسألة التعارض بين المتون: محمد الراوندي، أبو الفتح اليعمري حياته وآثارُه وتحقيق أجوبته، 2/ 112 - 113. وخلاصة الجواب: أن الاختلاف في المتن بين احتمال: - تعدد المخرج لتعدد الحادثة.
أو اتحاد المخرج: فالجمع أو الترجيح، أو الحكم بالاضطراب.
- أن التعارض في مختلف الحديث هو تعارض ظاهري بين معاني متون الأحاديث (مع اختلاف مخرجها)، مع إمكان الجمع بينها أو الترجيح.
- أما المضطرب، تعارض بين روايات الحديث الواحد (مع اتحاد مخرجها)، ويقع غالباً في السند، وقد يقع بقلة في المتن، ويتعذر الجمع أو الترجيح.
الفرق بين الاضطراب وزيادة الثقة:
- الاضطراب اختلاف يكون بين راوٍ أو مجموعة من الرواة يرويه بعضهم على وجه والآخرون على وجه مخالف لا يمكن الجمع ولا الترجيح بينهما.
- بينما زيادة الثقة، فإن الراوي يروي الحديث ذاته الذي يرويه الآخرون إلا أنه يزيد عليه سواء في السند أو المتن.
- كلاهما يشترط اتحاد المخرج، وقد تتداخل الزيادة مع الاضطراب في حال روى الراوي الحديث الواحد مرة بالزيادة ومرة بالنقصان (كتعارض الوصل والإرسال- وتعارض الرفع والوقف
…
).
- من حيث درجة الراوي: راوي الزيادة يكون ثقة، بينما يقل الاضطراب في روايات الثقات، ويكثر في روايات الضعفاء.
وقد فصّل ابن سيد الناس في بيان (الفرق بين زيادات الثقات في المتون واضطراب الرواة في المتن)، وملخّص ما ذكر في ذلك:
أن الحديث الواحد المتحد المخرج، إن اختلفت ألفاظ رواته، وترتب على ذلك اختلاف المعنى:
- فإما أن يكون المخالف أتى بأمر زائد على ما أتى به غيره، فلا تنافي، وهذه زيادة تقبل من الثقات.
- وإن أتى الاختلاف بلفظ مباين لغيره من الرواة من غير زيادة، فإما أن تستوي أحوال الرواة عند هذا الاختلاف أو تتفاوت، فإن تفاوتت فالترجيح، وإن تساوت وتعذر الترجيح فالحديث حينئذٍ مضطرب لا يقوم له حجة (1)، والله أعلم.
وبعد ذكر الفرق بين الحديث المضطرب وأنواع أخرى من أنواع علوم الحديث، ننهي هذا الفصل؛ لننتقل إلى تحرير نوع آخر من أنواع علوم الحديث وعلله، وهو الإدراج في الحديث، فإلى الفصل العاشر وتحرير مصطلح الحديث المدرج.
(1) ينظر: ابن سيد الناس، النفح الشذي، 3/ 118 - 119 باختصار. ط الصميعي.