الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يلزم من ذلك الحكم عليه بالضعف، وإنما غايته أن يتوقف عن العمل به" ثم أردف ذلك بقوله:"وبالجملة فالشذوذ سبب للترك إما صحة أو عملا". (1)
ولا ريب أن التفصيل في معنى الشذوذ وأثره، والأمثلة عليه يحتاج مزيداً من البسط والتحرير، سيأتي شيء من ذلك في الفصل الخاص بالحديث الشاذ بإذن الله.
القيد الخامس: السلامة من العلّة
(نفي العلة):
العلة في اللغة: تتراوح معانيها بين المرض والضعف، والعائق يعوق صاحبه، أو حدث يشغله عن وجهه. (2)
ومعنى العلة في الحديث اصطلاحاً: "عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه، فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها.
ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر." (3)
أكّد على ذلك الحاكم بقوله: "وإنما يُعلَّل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث، يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له
(1) السخاوي، فتح المغيث، 1/ 31 - 32، ينظر كذلك: البقاعي، النكت، 1/ 82، السيوطي، التدريب، 1/ 64 - 65، وزاد في التدريب نقل أمثلة على ذلك فقال: "ولم يرو مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة. وإنما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة.
وأمثلة ذلك موجودة في الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك أنهما أخرجا قصة جمل جابر من طرق، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن، وفي اشتراط ركوبه، وقد رجح البخاري الطرق التي فيها الاشتراط على غيرها، مع تخريج الأمرين، ورجح أيضا كون الثمن أوقية مع تخريجه ما يخالف ذلك، ومن ذلك أن مسلما أخرج فيه حديث مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة في الاضطجاع قبل ركعتي الفجر، وقد خالفه عامة أصحاب الزهري كمعمر ويونس وعمرو بن الحارث والأوزاعي وابن أبي ذئب وشعيب، وغيرهم عن الزهري، فذكروا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح، ورجح جمع من الحفاظ روايتهم على رواية مالك، ومع ذلك فلم يتأخر أصحاب الصحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم. وأمثلة ذلك كثيرة." السيوطي، المرجع السابق، 1/ 64 - 65.
(2)
يُنظر: الفراهيدي، العين، 1/ 88. ابن فارس، المقاييس، 4/ 13 - 14، الرازي، المختار، 216.
(3)
ابن الصلاح، علوم الحديث، 90، ينظر: السخاوي، فتح المغيث، 1/ 275، السيوطي، التدريب، 1/ 295.
علة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولاً، والحجة فيه عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير." (1)
قال الخطيب البغدادي: "والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يُجمَع بين طرقه، ويُنظر في اختلاف رواته، ويُعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط."(2)
وبالنظر إلى تعريفات الأئمة للصحيح نجد أن: الشافعي والحميدي لم ينصّا على نفي العلة صراحة بل ذكرا من ضمن شروط الراوي والمروي ما يتضمن نفي ما قد يُعلُّ الرواية ويمرضها، ومن ذلك اشتراط عقل الراوي بما يُحدّث، وعلمه بما يحيل المعنى، واشتراط الحفظ والفهم والموافقة لغيره من الثقات وعدم مخالفتهم، ونفي التدليس وما إلى ذلك مما اشترطه الشافعي.
أما الحميدي فقد ذكر أنه متى ظهر له وهم الراوي أو كذبه أو نسيانه، وما إلى ذلك من علل خفيّة، فإنها تكون سبباً في ردّ الحديث، وعدم قبوله، حيث قال:"والباطن ما غاب عنا من وهم المحدث وكذبه ونسيانه، وإدخاله بينه وبين من حدث عنه رجلاً وأكثر، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يكون ذلك على خلاف ما قال، فلم نكلف علمه إلا بشيء ظهر لنا، فلا يسعنا حينئذ قبوله لما ظهر لنا منه."(3)، وصنيعه في مسنده- والذي يظهر دقّته في
النقل وبيان بعض الأوهام اليسيرة التي وقع فيها شيخه ابن عيينة، والتنبيه عليها- دليل على حرصه في تنقية الحديث مما قد يضعفه ويوهنه (4).
(1) الحاكم، علوم الحديث، 112 - 113.
(2)
الخطيب البغدادي، أخلاق الراوي، 2/ 295.
(3)
الخطيب البغدادي، الكفاية، 24.
(4)
من أمثلة ذلك في مسند الحميدي:
- فقد أخرج الحميدي لشيخه سفيان بن عيينة حديثاً لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من طريقين، مرة عن هشام بن عروة، والأخرى عن الزهري، وصرّح بعدم سماع شيخه لهذا الحديث من الزهري. "فقال: ثنا سفيان قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من غلبة الدين)) 1/ 281 ح (246).
وأخرج له أيضاً حديثاً من روايته عن أبي الزبير، وصرّح بأنه لم يسمعه منه، فقال:"ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: نزلت في آية الميراث. قال أبو بكر: ولم يسمعه سفيان عن أبي الزبير" 2/ 322 - 323 ح (1265).
- وأشار إلى وهم شيخه بزيادة راوٍ فقال: "ثنا سفيان، قال: ثنا إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان بن بشير - قال الحميدي: كان سفيان يغلط فيه - ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وكان يقرأ فيهما إذا وافق ذلك يوم الجمعة)) 2/ 166 ح (949)، وقد أوضح المراد بغلط سفيان قول الترمذي في كتابه العلل: "سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: هو حديث صحيح وكان ابن عيينة يروي هذا الحديث عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر فيضطرب في روايته. قال مرة حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان بن بشير وهو وهم، والصحيح حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير". الترمذي، العل الكبير، 92 ح (152).
أما مسلم فقد اشترط السلامة من العيوب بشكل عام، وأضاف في مقدمة كتابه قوله:"وسنزيد إن شاء الله تعالى شرحاً وإيضاحاً في مواضع من الكتاب عند ذكر الأخبار المعللة إذا أتينا عليها في الأماكن التي يليق بها الشرح والإيضاح إن شاء الله تعالى."(1)
(1) مسلم، صحيح مسلم، 1/ 4. هذا عدا أنه ألّف كتاب التمييز، والذي يذكر فيه أحاديث أخطأ فيها الثقات، مما يدلل على إمامته في علم العلل، واهتمامه ببيان علل الأحاديث، وقد أشاد بذلك ابن حجر في فتح الباري في أكثر من موضع منها:
قوله "وأخرج مسلم حديث ابن علية (1/ 368 ح (276) (فاقتصر على المتفق على رفعه وحذف الباقي وذلك من حسن تصرفه والله أعلم" ابن حجر، الفتح، 1/ 475.
وأشار في موضع آخر، أثناء شرحه لحديث جرّ الثوب خيلاء، بأن مسلماً أخرج الحديث من رواية ابن عمر، وأن الترمذي زاد فيه قول أم سلمة فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال يرخين شبرا
…
" فعقّب ابن حجر بقوله: "وقد عزا بعضهم هذه الزيادة لمسلم فوهم، فإنها ليست عنده، وكأن مسلما أعرض عن هذه الزيادة للاختلاف فيها على نافع". المرجع السابق، 10/ 259.
وللأستاذ محمد عوّامة بحثان يُظهِر فيهما شيئاً من منهج الإمام مسلم في إعلاله للأحاديث: الأول بعنوان: من منهج الإمام مسلم في عرض الحديث المعلل في صحيحه، والثاني بعنوان: حذف طرف من الحديث الواحد اختصاراً له أو إعلالاً، وذكر في الأول أن للإمام مسلم منهجاً فيما إذا أخرج بعض الأحاديث على وجه فيه بعض الشيء، فله طريقتان في ذلك: الأولى وتكون في الأسانيد: وهي طريقة الأصول أو الاحتجاج ثم المتابعات أو الشواهد، فيذكر الأصل والحجة أولاً ثم قد يُتبعه بمتابع أو شاهد، أو بهما معاً وفي بعض رجاله كلام.
والطريقة الثانية (وتكون في المتون): قد يذكر أول الباب حديثاّ في لفظه بعض الشيء، ثم يُتبعه باللفظ السليم، وينبّه إلى الفرق بين اللفظين أو محل الوهم.
فمن أمثلة الطريقة الأولى: ما أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أنه قال لما نزلت هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال: أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، فقال:«يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ اشتكى؟ » قال سعد: إنه لجاري، وما علمت له بشكوى،
…
)) ثم رواه عقبه من طريق جعفر بن سليمان، بنحو حديث حماد، وقال: "وليس في حديثه ذكر =
وابن خزيمة لم يذكر نفي العلة في شرطه للصحيح إلا أنه مارس تعليل بعض الأحاديث أثناء سرده لأحاديث صحيحه. (1)
وأما ابن حبان فقد ذكر في مقدمة صحيحه أنه ترك من الأحاديث التي ظاهرها الصحة لعلل خفية، حيث قال:"وقد تركنا من الأخبار المشاهير التي نقلها عدول ثقات لعلل تبين لنا منها الخفاء على عالم من الناس جوامعها."(2)
= سعد بن معاذ". ورواه أيضاً من طريق سليمان بن المغيرة، وقال: "لم يذكر سعد بن معاذ، في الحديث" 1/ 110 ح (119). قال ابن كثير في تفسيره موضحاً علة رواية حماد بن سلمة:
"فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة، فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ. والصحيح: أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ موجودا؛ لأنه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس، وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم، والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة، والله أعلم."
- ومن أمثلة الطريقة الثانية: ما أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصوم، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن غيلان بن جرير
…
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((سُئِل عن صوم يوم الاثنين؟ 2/ 819 - 820 ح (1162). فهنا أخّر الرواية السليمة، وقدّم المعللّة، ووضّحها.
ينظر: المراجع: ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، 7/ 367. عوّامة، من منهج مسلم في عرض الحديث المعلل، 22 - 24، 43، محمد عوامة، حذف طرف من الحديث الواحد اختصاراً له أو إعلالاً.
(1)
من أمثلة ذلك في صحيح ابن خزيمة:
- فقد أخرج في صحيحه كتاب الوضوء، باب ذكر الدليل على أن وطء الأنجاس لا يوجب الوضوء. قال: ثنا عبد الجبار بن العلاء، وعبدالله بن محمد الزهري، وسعيد بن عبدالرحمن المخزومي قالوا: حدثنا سفيان قال عبدالجبار: قال الأعمش: وقال الآخران: عن الأعمش، عن شقيق، عن عبدالله قال:((كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا نتوضأ من موطئ .. )). 1/ 25 ح (37).
- وبعد أن أخرج حديث أبي هريرة في كتاب المناسك، باب ذكر الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان أعلمهم وهو بمنى أن ينزل بالأبطح، أعقبه بقوله: "سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أين ينزل غدا في حجته إنما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فأما آخر القصة:((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم))، 4/ 322 ح (2984).
(2)
صحيح ابن حبان، 1/ 126. ومن أمثلة حرصه على بيان العلل أو نفيها في صحيحه ما يلي: فبعد أن أخرج حديثاً في تحريم الذهب والحرير على الذكور أشار إلى طريق معلولة فقال: "خبر سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى - في هذا الباب - معلول لا يصح." 8/ 69 - 70 ح (5410). وهذه الطريق ذكر الدارقطني في كتابه العلل السبب في إعلالها، فقال:"لأن سعيد بن أبي هند لم يسمع من أبي موسى شيئا". الدارقطني، العلل الواردة في الأحاديث النبوية، 7/ 241 ح (1320). =
وأما الخطابي فلم ينصّ في تعريف الصحيح على اشتراط نفي العلة؛ لكنه بعد أن عرّف الصحيح ثم الحسن ذكر أن سنن أبي داود تجمع هذين النوعين، ثم تطرّق إلى الضعيف، وما فيه علّة تضعفه فأشار إلى خلو الكتاب منه، وإن كان فيه شيء فإن أبا داود "لا يألو أن يبين أمره ويذكر علته ويخرج من عهدته."(1)، وهو يشير إلى استبعاد كل ما فيه علة عن حد الصحيح والحسن (2).
أما الحاكم فلم ينصّ على نفي العلة في وصفه للصحيح، لكنّه قال تحت هذا النوع: "إن الصحيح لا يُعرف بروايته فقط، وإنما يُعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا
= ونجد ابن حبان في صحيحه في أكثر من موضع يدفع ما قد يُتوهم من علّة في بعض الأحاديث التي أخرجها، ويذكر السبب، ومن ذلك:
قوله تحت باب ذكر الأمر بالوضوء من أكل لحم الجزور، : "ذكر خبر أوهم غير المتبحر في صناعة الحديث أن هذا الخبر معلول:
أخبرنا عبدالله بن محمد الأزدي قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: أخبرنا النضر بن شميل قال: حدثنا شعبة عن سماك قال: سمعت أبا ثور بن عكرمة بن جابر بن سمرة عن جابر بن سمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن الصلاة في مبات الغنم فرخص فيها وسئل عن الصلاة في مبات الإبل فنهى عنها وسئل عن الوضوء من لحوم الغنم. 2/ 319 ح (1123).
وقال في موضع آخر: "ذكر خبر قد يوهم غير المتبحر في صناعة الحديث أن خبر أبي حميد الذي ذكرناه معلول
…
" وبعد أن ذكر الحديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عقّب بقوله: "سمع هذا الخبر محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي حميد الساعدي وسمعه من عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه فالطريقان جميعا محفوظان." 3/ 340 - 342 ح (1863).
(1)
الخطابي، معالم السنن، 1/ 6.
(2)
من أمثلة ذلك في كتابه معالم السنن:
تأييده لتعليل الإمام أحمد لحديث رافع بن خديج في النهي عن المزارعة، للاضطراب في الرواية، فقال: "وضعف أحمد بن حنبل حديث رافع، وقال هو كثير الألوان يريد اضطراب هذا الحديث واختلاف الروايات عنه فمرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة يقول حدثني عمومتي عنه
…
" وأوضح أن من أخذ بظاهر الرواية لم يطّلع على علتها، فقال: "فإنما صار هؤلاء إلى ظاهر الحديث من رواية رافع بن خديج ولم يقفوا على علته كما وقف عليه أحمد." 3/ 95.
وضعّف حديثاً لتكلّم الأئمة في رواته، ولمعارضته لأحاديث أقوى منه، فقال أثناء شرحه لحديث عبدالله ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قضى الإمام الصلاة وقعد فأحدث قبل أن يتكلم
…
)) "هذا الحديث ضعيف وقد تكلم الناس في بعض نقلته وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم ولا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهره"1/ 175.
النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة؛ ليظهر ما يخفى من علة الحديث" (1)، وجاء كلامه بعد أن ذكر أمثلة لأحاديث ظاهرها الصحة لكنها معلولة بعلل بيّنها (2)، وهو بهذا يشير إلى العلل الخفية التي تؤثر في صحة الحديث، وأن مذاكرة نقاد الحديث وأهل معرفة علله تعين على تمييز الصحيح من السقيم، فقال - تحت النوع السابع والعشرين من علوم الحديث هذا النوع منه معرفة علل الحديث-: "وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه، وعلة الحديث،
يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولا، والحجة فيه عندنا الحفظ، والفهم، والمعرفة لا غير." (3)
قال ابن الصلاح: "ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول، أو وقف في المرفوع، أو دخول حديث في حديث، أو وهم واهم بغير ذلك، بحيث يغلب على ظنه ذلك، فيحكم به، أو يتردد فيتوقف فيه. وكل ذلك مانع من الحكم بصحة ما وجد ذلك فيه."(4)
(1) الحاكم، علوم الحديث، 59 - 60.
(2)
فقد ذكر ثلاثة أحاديث بأسانيد تخلو من رواة مجروحين إلا أنه أعلّ متونها، فأعلّ الحديث الأول بزيادة لفظة، فأخرج حديث: ((صلاة الليل والنهار مثنى مثنى
…
)) ثم قال: "هذا حديث ليس في إسناده إلا ثقة ثبت، وذكر النهار فيه وهم، والكلام عليه يطول" المرجع السابق، 58.
وأعلّ الآخر بالخطأ في متنه، وأن الإسناد قد رُكّب عليه متن آخر، فأخرج حديث: ((ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط،
…
)) وقال: "هذا إسناد تداوله الأئمة والثقات، وهو باطل من حديث مالك، وإنما أريد بهذا الإسناد: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط،
…
))، ولقد جهدت جهدي أن أقف على الواهم فيه من هو فلم أقف عليه، اللهم إلا أن أكبر الظن على ابن حيان البصري على أنه صدوق مقبول. المرجع السابق، 59. وأعلّ الثالث كذلك فقال:"هذا حديث تداوله الثقات هكذا، وهو في الأصل معلول واه"، ثم ذكر أنه ذكرها للمثال فقط ويُقاس عليها ما شابهها من الأسانيد الصحيحة التي رُكّب عليها متون رويت بأسانيد أخرى.
(3)
الحاكم، علوم الحديث، 112 - 113.
(4)
ابن الصلاح، علوم الحديث، 90.
وقد ذكر الحاكم للعلة أجناساً عشرة على سبيل التمثيل لا الحصر (1)، ولعله هو أول من أشار إلى اختلاف العلماء - من فقهاء ومحدثين- في هذا القيد -قيد اشتراط نفي العلة في الحديث الصحيح- أو بشكل أدق في ماهية العلة المؤثرة في صحة الحديث، حيث ذكر في المدخل إلى الإكليل في القسم الثالث من الصحيح المختلف فيه: "خبر يرويه ثقة من الثقات عن إمام من أئمة المسلمين فيسنده، ثم يرويه عنه جماعة من الثقات فيرسلونه
…
" ثم أعقب بقوله: "فهذه الأخبار صحيحة على مذهب الفقهاء، فإن القول عندهم فيها: قول من زاد في الإسناد أو المتن إذا كان ثقة.
فأمّا أئمة الحديث فإن القول فيها عندهم: قول الجمهور الذي أرسلوه لما يخُشى من الوهم على هذا الواحد." (2) ويُعدّ ما ذكره في هذا القسم مما اُختلف فيه فيعدّه بعض النقاد من أنواع العلل، حيث تُعلّ الرواية المسندة بالمرسلة.
بينما نجد الخليلي يسمّي ذلك علة لكنها لا تتنافى عنده مع الصحة، فيطلق عليه: الصحيح المعلول (3)، حيث يقول: العلة تقع للأحاديث من أنحاء شتى، لا يمكن حصرها. فمنها أن
(1) ينظر أمثلة على أجناس العلل: الحاكم، علوم الحديث، 113 - 119.
(2)
الحاكم، الإكليل، 47. قال النووي:"وأما إذا رواه بعض الثقات الضابطين متصلاً وبعضهم مرسلاً، أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً، أو وصله هو أو رفعه في وقت وأرسله أو وقفه في وقت، فالصحيح الذى قاله المحققون من الحديث وقاله الفقهاء وأصحاب الأصول وصححه الخطيب البغدادي أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر وأحفظ؛ لأنه زيادة ثقة وهى مقبولة. وقيل: الحكم لمن أرسله أو وقفه قال الخطيب: وهو أكثر قول المحدثين، وقيل: الحكم للأكثر، وقيل: للأحفظ".
بينما عزا ابن حجر ترجيح المحدثين إلى القرائن التي تحفُّ بكل رواية على حده، فقال عن منهج الشيخين في كتابه الفتح:"والتحقيق أنهما ليس لهما في تقديم الوصل عمل مطرد؛ بل هو دائر مع القرينة فمهما ترجح بها اعتمداه. وإلا فكم حديث أعرضا عن تصحيحه للاختلاف في وصله وإرساله".
وقال في النكت - فيما يخص منهج المحدثين بشكل عام-: "والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن كما قدمناه في مسألة تعارض الوصل والإرسال.". ينظر: المراجع: النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم، ابن حجر، الفتح، 10/ 203، ابن حجر، النكت، 2/ 687
(3)
سيأتي تفصيل مراد الخليلي بالصحيح المعلول في الفصل الثامن (الحديث المعلل).
يروي الثقات حديثاً مرسلاً ، وينفرد به ثقة مسنداً. فالمسند صحيح، وحجة، ولا تضره علة الإرسال" (1).
من أجل ذلك عقّب ابن دقيق العيد على تعريف ابن الصلاح بقوله: "ولو قيل في هذا الحدِّ: الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره لكان حسناً، لأَنَّ من لا يشترط
بعض هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف. ومن شَرْطِ الحدِّ أن يكون جامعاً مانعاً." (2)
أما من جاء بعد ابن الصلاح فقد نصّوا على نفي العلة ضمن حدّ الحديث الصحيح سوى من أجمل تعريفه، واقتصر على اشتراط السلامة من القدح أو الطعن كابن الملقن في التذكرة بينما نصّ على ذلك في المقنع كما سبق وأشرنا إلى ذلك في نفي الشذوذ.
نخلص مما سبق:
أن العلة بشكل عام هي كل ما يمرض الحديث ويُضعفه سواء كانت ظاهرة أم خفية، وبما أن نفي العلة جاء ضمن قيود الحديث الصحيح، والذي اُشترِط في حدّه شروط تخص الراوي والمروي من اشتراط العدالة والضبط واتصال السند ونحوه، فينصرف المعنى
(1) فمن أقسام الصحيح عند الخليلي في كتابه الإرشاد: صحيح متفق عليه، وصحيح معلول، وصحيح مختلف فيه. وذكر مثالا للصحيح المتفق عليه بما يرويه (رواة ثقات عدول)، ومثّل للصحيح المعلول بعلة لا تضرّه، وذكر أمثلة في حال خالف الثقة الثقات، وعدّها من العلل غير القادحة. وذكر على ذلك مثالا من صحيح البخاري حديث:((أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها)) - أخرجه في صحيحه كتاب الهبة، باب المكافأة في الهبة 3/ 157 ح (2585) وقال:"لم يذكر وكيع، ومحاضر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة"- قال محقق كتاب التتبع للدارقطني -في خاتمة تحقيقه ضمن ثمرات البحث- يبيّن: "دقة نظر علمائنا رحمهم الله، بحيث إننا نقرأ في (صحيح البخاري) و (صحيح مسلم) أوقات كثيرة فما نتفطن لتلك العلل التي ربما أشار إليها صاحبا الصحيح، ومن الأمثلة على ذلك حديث: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية .. )) انتقده الدارقطني، وقد نبّه البخاري أن له علة، ولعلها غير قادحة عنده"
وصحيح مختلف فيه (ومراده ما اختلف الأئمة في تصحيحه؛ لاختلافهم في شروط الصحيح). ينظر: المراجع: الخليلي، الإرشاد، 1/ 157 - 163، الدارقطني، الإلزامات والتتبع، 576.
(2)
ابن دقيق العيد، الاقتراح، 5
المراد بالعلة هنا - على الأرجح- إلى ما قد يكون سبباً خفياً قادحاً في الصحة، "فالمحدثون إذا تكلموا عن العلة باعتبار أن خلو الحديث منها يعد قيدا لابد منه لتعريف الحديث الصحيح، فإنهم في هذه الحالة يطلقون العلة ويريدون بها المعنى الاصطلاحي الخاص، وهو: السبب الخفي القادح. وإذا تكلموا في نقد الحديث بشكل عام فإنهم في هذه الحالة يطلقون العلة ويريدون بها: السبب الذي يعل الحديث به: سواء كان خفيا أم ظاهرا قادحا أم غير قادح."(1)
ولا ريب أن صنيع الأئمة ونقّاد الحديث في مجمله يدل على اشتراطهم خلو الحديث الصحيح مما يُعلّه أو يقدح في صحته، وإن لم ينصّ بعضهم على هذا الشرط إلا أن صنيعه يثبت ذلك، وإنما وقع الاختلاف بينهم في بعض العلل من حيث كونها قادحة في
الصحة أو غير قادحة، ولعل ذلك هو الذي دعا بعضهم للجمع بين وصف الصحيح والعلة فأطلق (الصحيح المعلول).
وقد أشار ابن دقيق العيد إلى أن ما ذكره ابن الصلاح من قيود للحديث الصحيح إنما تنطبق على المجمع على صحته، وأن هناك من لا يشترط كل هذه القيود، (2) فاقترح أن يقال - لكي يكون الحدّ جامعاً مانعاً-: "الصحيح المجمع على صحته هو كذا وكذا إلى آخره
…
" (3).
(1) فحل، أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء، 17.
(2)
لعله يقصد بالشروط التي لم يشترطها بعضهم: نفي الشذوذ والعلة؛ حيث ذكر أن مدار التعريف عند الأصوليين والفقهاء على عدالة الراوي وتيقّظه، وبعضهم يزيد قيد الاتصال.
(3)
ابن دقيق العيد، الاقتراح، 5