المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل - أهداف التربية الإسلامية

[ماجد عرسان الكيلاني]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب:

- ‌الباب الأول: مقدمة أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: دور الأهداف في العملية التربوية:

- ‌الفصل الثاني: أزمة التربية الحديثة في ميدان الأهداف التربوية

- ‌الفصل الثالث: حاجة النظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية، والإسلامية إلى أهداف تربوية إسلامية

- ‌الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع: معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية

- ‌الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة للعمل الصالح

- ‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل

- ‌الفصل السابع: تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى

- ‌أولا: معنى المثل الأعلى:

- ‌ثانيا: أهمية المثل الأعلى:

- ‌ثالثا مستويات المثل الأعلى:

- ‌رابعا: أنواع المثل الأعلى:

- ‌خامسًا: تجديد المثل الأعلى

- ‌سادسًا: مستوى المثل الأعلى، وقيم المعلمين والمتعلمين

- ‌الفصل الثامن: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية، والكونية عند الفرد

- ‌أولًا: معنى الخبرة وأهميتها

- ‌ثانيا: الخبرات الكونية، والاجتماعية، والدينية

- ‌ثالثا: حدود الخبرة ودوائرها

- ‌رابعًا: الخبرات الكونية، والاجتماعية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة

- ‌خامسًا: الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة

- ‌الفصل التاسع: تربية الإرادة عند الفرد

- ‌أولا: معنى الإرادة ووظيفتها

- ‌ثانيا: مستويات الإرادة

- ‌ثالثًا: مستوى الإرادة ونضجها

- ‌رابعا: مستوى الإرادة ومستوى المثل الأعلى

- ‌خامسًا: فقدان الإرادة وضعفها

- ‌الفصل العاشر: إحكام تنمية القدرة التسخيرية

- ‌أولا: معنى القدرة التسخيرية

- ‌ثانيا: درجة القدرة التسخيرية، وحدود الخبرة المربية

- ‌ثالثا: مستويات القدرة التسخيرية

- ‌رابعا: أهمية تنمية القدرات التسخيرية

- ‌الفصل الحادي عشر: إحكام توازن الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية في تربية الفرد

- ‌الفصل الثاني عشر: مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة

- ‌أولا: تضييق مفهوم العمل الصالح وحصره بالإنتاج المادي

- ‌ثانيًا: تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى -تلبية حاجات الجسد البشري

- ‌ثالثًا: حصر الإرادة في مستوى الرغبات والشهوات

- ‌رابعًا: حصر الخبرات بالكونية، والاجتماعية دون الدينية والأخلاقية

- ‌خامسا: حصر القدرات بالعقلية والجسدية دون الأخلاقية

- ‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

- ‌الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة

- ‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها

- ‌الفصل السادس عشر: أهمية إخراج الأمة المسلمة

- ‌الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة

- ‌مدخل

- ‌الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون

- ‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

- ‌ثانيا: أهمية الهوية والجنسية والثقافة الإيمانية في العالم المعاصر

- ‌ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في الهوية والجنسية والثقافة

- ‌الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني الهجرة والمهجر

- ‌معنى الهجرة

- ‌أهمية الهجرة:

- ‌دور التربية في بلورة عنصر الهجرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: العنصر الثالث عنصر الجهاد والرسالة

- ‌معنى الجهاد

- ‌مظاهر الجهاد:

- ‌معنى الرسالة:

- ‌أهمية الرسالة في وجود الأمة:

- ‌دور التربية في تعزيز الرسالة:

- ‌الفصل العشرون: العنصر الرابع الإيواء

- ‌معنى الإيواء

- ‌مظاهر الإيواء:

- ‌أهمية الإيواء:

- ‌مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء:

- ‌الفصل الحادي والعشرون: العنصر الخامس النصرة

- ‌معنى النصرة

- ‌مظاهر النصرة:

- ‌الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء

- ‌معنى الولاية

- ‌درجات الولاية الإيمانية:

- ‌درجات ولاية غير المؤمنين:

- ‌التربية ورباط الولاية:

- ‌الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث

- ‌سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية وعلم النفس الإنساني

- ‌ سلم الحاجات الإنسانية بين التطبيقات الإسلامية، والتطبيقات التي يوجه إليها علم النفس الحديث:

- ‌الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى مرحلة صحة الأمة وعافيتها مرحلة الدوران في فلك الأفكار

- ‌دوران الأشخاص والأشياء في فلك أفكار الرسالة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الخامس والعشرون: مرحلة مرض الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشخاص

- ‌مدخل

- ‌الطور الأول: طور الولاء للقوم

- ‌الطور الثاني: طور الولاء للقبيلة ونظرائها "كالطائفة أو الحزب أو الإقليم

- ‌الطور الثالث: طور الولاء للأسرة

- ‌الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه

- ‌الفصل السادس والعشرون: مرحلة وفاة الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشياء

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أعراض الأمة الميتة

- ‌ثانيا: إعلان الوفاة وإجراءات الدفن

- ‌الفصل السابع والعشرون: مصير الأمة المتوفاة

- ‌الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة

- ‌ملاحظات حول مفهوم الأمة المسلمة

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر

- ‌ ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها:

- ‌الفصل التاسع والعشرون: مشكلة التناقض بين إعداد الفريد وإخراج الأمة في أهداف التربية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌ أصحاب الرأي الناقد "نظرية التناقض بين الأهداف

- ‌ أصحاب "نظرية التآمر الطبقي في التربية

- ‌الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية والتآلف بين بني الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثلاثون: ضرورة التألف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة

- ‌الفصل الحادي والثلاثون: الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة

- ‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic

- ‌الفصل الثاني والثلاثون: التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري

- ‌الأصول العقدية والاجتماعي لوحدة الجنس البشري

- ‌ الأساليب والوسائل العملية لتحقيق الوحدة الإنسانية:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون: التناقضات القائمة بين مفاهيم التربية العالمية الإسلامية والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الأول عالمية الإسلام في مواجهة الجنسيات الإقليمية والعصبيات المحلية التي يقوم عليها المجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الثاني: الهجرة والسير في الأرض في مواجهة قيود السفر والتنقل

- ‌التناقض الثالث، الأمن الإسلامي في مواجهة الصراعات الإقليمية

- ‌التناقض الرابع، الحاجة لتكافل المسلمين في مواجهة قوانين الإقامة والعمل

- ‌التناقض الخامس، مكانة الإنسان واحترامه في مواجهة الاعتداء على حرماته، والاستهانة بكرامته

- ‌الفصل الرابع والثلاثون: توصيات

- ‌أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌ثانيا: توصيات تتعلق بإخراج الأمة المسلمة:

- ‌المصارد والمراجع

الفصل: ‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل

‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل

"

في الإنسان قدرات عقلية كامنة -كالقدرات الجسدية، يستطيع من خلالها التعرف على البيئة القائمة من حوله بمكوناتها وأحداثها، ثم خزن تلك المعارف وتمييزها واسترجاعها وتوظيفها في الوقت المناسب طبقًا للمواقف والمشكلات التي يمر بها خلال مسيرة الحياة.

وتعبر القدرات العقلية عن نفسها في السلوك الظاهري من خلال -القدرة على التدبير: أي تدبير أمور المعاش في حياة الأفراد والجماعات. وتتخذ قدرة التدبير هذه حالات ثلاث: الحالة الأولى، تدبير لجلب ما هو نافع صائب، ولدفع ما هو ضار خاطئ، ويسمى صاحب هذه القدرة -عاقلًا حكيمًا. والحالة الثانية، ضعف في قوة التدبير عن جلب ما هو نافع صائب، وعن دفع ما هو نافع صائب، وعن دفع ما هو ضار خاطئ. ويسمى صاحب هذه الحالة -أبلها سفيها. والحالة الثالثة، طغيان في قوة التدبير لتعمل على جلب الضار الخاطئ، وإعاقة ما هو نافع صائب، ويسمى صاحب هذه الحالة -مخادعًا وماكرا سيئا.

والذي تهدف إليه التربية الإسلامية هي تنمية الحالة الأولى إلى درجة النضج، وتزكية الأفراد والجماعات من الحالتين الثانية، والثالثة.

وتتفاوت القدرات العقلية قوة وضعفا من شخص إلى آخر، أو عند الشخص الواحد خلال مراحل حياته -تماما كالقدرات الجسدية. فقد تقوى حتى تخترق بيئة الكون الكبير، فتتعرف على مكوناته وتقف على أسرار قوانينه، وتسخر هذه المكونات، والقوانين حسب الأهداف، والحاجات التي يتوجه إليها صاحب هذه القدرات. وقد تضعف هذه القدرات العقلية حتى يعجز

ص: 57

الإنسان عن فهم ما يجري في بيئته البيتية، والإقليمية المحدودة فيسخره الكون وتتقاذفه الأحداث والأهواء. وقد تنطفئ هذه القدرات العقلية حتى لا يعود الإنسان يعرف من أمره شيئًا.

والإشارة التي وردت في القرآن الكريم إلى القدرات العقلية إنما جاءت بصيغة -الفعل وليس الاسم- وباعتبارها وظيفة من وظائف القلب، وفعل من أفعاله التي تجري داخل الإنسان قبل أن تتحول إلى ممارسات حسية على أعضائه الخارجية:

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ} [الحج: 46] .

فالعقل -إذن- إشارة إلى وظيفة، وليس إلى شيء قائم بنفسه، مثله مثل وظائف الفهم والأكل والشرب والهضم، والنوم والقيام والقعود والركض والقفز، وإنه يعتريه نفس الأحوال التي تعتري هذه الوظائف من نشاط وعجز وهكذا.

والإنسان يولد مزودا بهذه القدرات العقلية -كبقية القدرات التي أشرنا إليها- ولكنها تكون في حاجة للتنمية، وإلى تدريب الإنسان على حسب استعمالها ورعايتها. وتتقرر درجات نموها ونشاطها وصحتها ومرضها حسب نوع التربية التي يتلقاها الإنسان، وطبقا لوعي القائمين على تربية هذه القدرات وخبراتهم، وطبقًا للوسائل التي تستعمل لتنميتها واستعمالها، وللبيئة الاجتماعية والثقافية التي تعمل التربية خلالها. ونجاح التربية في هذه المهمة يحقق صفة "الصواب" في العمل التي هي أحد الشرطين الرئيسين لبروز العمل الصالح -المصلح. ولذلك تتسبب التربية الخاطئة، والبيات غير السليمة في إضعاف هذه القدرات أو تحطمها، أو تحيلها إلى معوقات للإنسان وسببا من أسباب تخلفه وشقائه.

والإشارات التي وردت في القرآن تدل على أن القدرات العقلية درجات متفاوتة وأن لكل درجة وظيفتها، وأثرها في سلوك الإنسان، ومواقفه من الخبرات التي يمر بها، وأن هذه القدرات يجب أن تستعمل طبقا لمنهج

ص: 58

معين هو ما نسميه بـ"منهج التفكير" الذي يتضمن ثلاثة أقسام رئيسة هي: خطوات التفكير، وأشكال التفكير، وأنماط التفكير، وأن هذه القدرات يجب أن تنمى بكيفية معينة ومن خلال أدوات ووسائل خاصة. ولذلك كله لا بد للتربية الإسلامية، وهي تعمل على تربية وظيفة العقل أن تركز على أربعة أمور رئيسة هي:

الأول: تصنيف القدرات العقلية.

والثاني: بلورة منهج التفكير السليم الذي تستعمل طبقا له القدرات العقلية.

والثالث: كيفية تنمية القدرات العقلية ومنهج التفكير السليم.

والرابع: توفير البيئة اللازمة لتنمية القدرات العقلية، والتفكير السليم.

وفيما يلي تفصيل لهذه الأمور الأربعة الرئيسة:

أولًا: تصنيف القدرات العقلية وتحديدها:

القدرات التي يشير إليها القرآن هي: قدرة العقل، وقدرة التأويل، وقدرة التدبر، وقدرة الفقه، وقدرة التفكر، وقدرة التذكر، وقدرة النظر، وقدرة الشهود، وقدرة الإبصار، وقدرة الحكمة.

وليس هناك -في القرآن- ما يصنف لنا هذه القدرات حسب درجاتها، وعلاقاتها في سلم العمليات العقلية. فهذه أمور متروكة للبحث والدراسة التي يطلب إلى الإنسان القيام بها. ولكن القرائن التي ارتبطت بهذه القدرات عند الإشارة إليها تعطينا إيضاحات لمراد القرآن عند ذكر كل قدرة من هذه القدرات المشار إليها.

فـ"قدرة العقل" تشير قرائنها إلى أنها القدرة على خزن المعلومات، واسترجاعها وتوظيفها عند الحاجة إليها، وهي شاملة لكل القدرات.

أما "قدرة التأويل" فقد اقترنت في القرآن بالقدرة على إدراك التطبيقات

ص: 59

العملية التي تقابل التقريرات النظرية أو بالعكس. ومن أمثلتها قدرة يوسف عليه السلام على تقديم التفسيرات، والمقترحات التي تقابل الأفكار والرؤى التي عرضت عليه، أو قدرة الخضر على تفسير ما عمله خلال رحلته مع موسى عليه السلام.

وأما "قدرة التدبر"، فقد اقترنت الإشارة إليها بالقدرة على الربط بين المقدمات، والنتائج واكتشاف الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:

- {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .

- {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 22-24] .

وأما "التفكر" فهو قدرة تشير إلى استعمال المهارات العقلية كلها للوصول إلى الحقيقة. ولقد تكررت الإشارة إلى "التفكر" في تسعة عشر "19" موضعا من القرآن الكريم.

أما "التذكر" فهو قدرة عقلية تشير إلى القدرة على استرجاع الخبرة، ورؤية جانب الصواب فيها.

وأما -النظر- فهو قدرة عقلية يشترك معها قدرات السمع، والبصر للكشف عن المجهول. ولقد عرف ابن تيمية -قدرة النظر- فقال:

"

والنظر جنس تحته حق وباطل، ومحمود ومذموم"1. أي ليس من الضروري أن تكون حصيلة النظر دائما صائبة، بل هي تصيب وتخطئ تبعا للطريقة التي تستعمل بها.

1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب السلوك، جـ10، ص486.

ص: 60

ولقد تكرر ذكر -قدرة النظر- في القرآن عند الدعوة إلى النظر في مظاهر الكون عامة ومفصلة، وفي تكوين الإنسان ونشأته ومصيره.

وأما -الشهود- فهو قدرة عقلية تشترك معها القوى الحسية كذلك، ولكنها تختلف عن قدرة النظر في أن ثمراتها صائبة صحيحة.

وأما -الإبصار- فهو قدرة عقلية نافذة تساعد على دقة الفهم، والتعمق في تحليل الظاهرة وكوامنها.

وأما -الحكمة- فهي قدرة عقلية على فهم العلاقات النظرية ومهارة عقلية- حسية على تحويل العلاقات المذكورة إلى تطبيقات عملية، وتصويبها ورعايتها وهي تقابل الخبرة المتخصصة، والحكيم يقابل الخبير المتمكن في مصطلحاتنا المعاصرة وبالإجمال يمكن أن نمثل للقدرات العقلية -كما وردت الإشارات إليها في القرآن الكريم- بالرسم التالي.

ونحن وإن قدمنا هذه الأمثلة القرآنية للقدرات العقلية، فلا يعني ذلك أن المنهج الملائم للكشف عن هذه القدرات، والوقوف على دقائقها ووظائفها هو من خلال البحث النظري في القرآن، أو من خلال الاشتقاقات اللغوي، كما كان -ولم يزل- شأن الكثيرين من المفسرين والأصوليين

ص: 61

والفقهاء والمتصوفين، وإنما نسترشد بالإشارات القرآنية العامة، كمقدمة توجه إلى ضرورة قيام المختصين بالتجارب العملية التي تهدف إلى الوقوف على القدرات العقلية، ووسائل تنميتها والتدريب على استعمالها.

فهذا هو الذي يتفق مع -منهج المعرفة الإسلامي- الذي قدمنا تفاصيله في كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- حين ذكر أن الوحي يقدم -الخبر الصادق- تماما كما يقدم المنهج العلمي الحديث -فرضية البحث- وأن الخطوة التي تلي هي اختبار صدق هذا الخبر في ميدان الآفاق، والأنفس -للاطمئنان إلى صدقه- كما قال إبراهيم عليه السلام -وليحصل العلم الموصل إلى الإيمان واليقين.

ثانيا: منهج التفكير السليم

يتضمن منهج التفكير الذي تتطلع إليه التربية الإسلامية ثلاثة مكونات رئيسية هي: خطوات التفكير، وأشكال التفكير، وأنما التفكير، وفيما يلي تفصيل لكل من هذه المكونات الثلاثة:

أ- خطوات التفكير:

تبدأ خطوات التفكير السليم بالإحساس بالظاهرة، ثم الانتقال إلى خطوة الوعي بهذه الظاهرة وتحديد إطارها وميدانها، ثم الانتقال إلى خطوة التعرف على تفاصيل الظاهرة من خلال تحري المعلومات المتعلقة بها وجمعها، ثم الانتقال إلى مرحلة تحليل هذه المعلومات وتدبرها، وتصنيفها واكتشاف العلائق بينها، ثم الانتقال إلى خطوة اكتشاف الحكمة الكامنة وراء الظاهرة.

ومن الإنصاف أن نقول: إن خطوات التفكير العلمي التي أفرزتها التربية الحديثة تتطابق مع هذه الخطوات، بل إنها كانت مثيرا قويا في لفت الانتباه إلى خطوات التفكير، التي يشير إليها القرآن الكريم.

ص: 62

والقرآن يجعل هذه الخطوات من التفكير صفة أساسية من صفات المؤمن، وينهي عن مخالفتها ويتوعد بالمحاسبة عليها:

{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] .

بل إن القرآن ينتقد بشدة لاذعة الذين يقفزون عند السماع الأولى للمشكلة إلى إصدار الأحكام، وإشاعتها دون السماح لها بالمرور بمنطقة السماح الداخلي الذي يشترك به مع القدرات العقلية، ويتبادل معهما التحليل والتأليف والاستنتاج. ويصف القرآن هذا الأسلوب المتسرع بأنه تلقيا للمعلومات الأولية باللسان دون الصبر عليها حتى تمر بالأذن، وتصل إلى منطقة الوعي. ويتهدد القرآن الفاعلين لذلك بالعقوبة الإلهية لما يترتب على هذا الأسلوب من أخطاء في الحكم، وعدوان على الأبرياء:

{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 15-17] .

وحين تتعقد المواقف والمشكلات -خاصة تلك التي تتعلق بأمور السلم، أو أمور الحرب والأخطار -وتحتاج إلى درجات عالية من القدرات العقلية والخبرات العميقة، ومناهج التفكير الحكيم، فإن القرآن يعيب على أولئك الذين يتلقونها باللغط، والإشاعة ويوجه إلى وجه إقامة هيئة متخصصة يكون عملها تحليل هذه المواقف، والمشكلات واستنباط أسبابها، والحلول اللازمة لمواجهتها:

{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] .

ص: 63

ومن الطبيعي أن العاملين في هذه الهيئة يحتاجون إلى إعداد متميز في مجال تربية القدرات العقلية، ومنهج التفكير الحكيم لمساعدتهم على استنباط الأمور وعلمها. ومن الطبيعي أن يجري انتقاء الذين تجري تربيتهم للعمل في مثل هذه الاختصاصات من بين "أولي الألباب" المتفوقين من ذوي القدرات العقلية العالية:

ب- أشكال التفكير:

وأما عن القسم الثاني لمنهج التفكير السليم، وهو -أشكال التفكير- فهذه تشمل ما يلي:

1-

تدريب المتعلم على النقد الذاتي بدل التفكير التبريري:

نعني بالنقد الذاتي ذلك الأسلوب من التفكير، الذي يحمل صاحبه المسئولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل، وأما ما ينتهي إليه من فشل.

ونعني بالتفكير التبريري ذلك التفكير الذي يفترض الكمال بصاحبه، وإذا أخطأ

برأه من المسئولية، وراح يبحث عن مبررات خارجية، وينسب أسباب الأخطاء، أو القصور والفشل إلى الآخرين.

والقرآن -في جميع توجيهاته- يقرر النقد الذاتي قاعدة أساسية في جميع النواقص، والأخطاء الفردية أو الاجتماعية. ومن توجيهاته في هذا المجال قوله تعالى:

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] .

{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] .

وفي قصة آدم وإبليس توجيهات واضحة لممارسة النقد الذاتي، وإدانة للتفكير التبريري وإلقاء المسئولية على الآخرين. فمع إن أحداث القصة تذكر

ص: 64

بصراحة دور إبليس في إغواء آدم وزوجه، وسعيه الجاد لدفعهما ليأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها إلا أن آدم، وزوجه حملا نفسيهما مسئولية المعصية التي حدثت، ولم ينسبا ذلك إلى الشيطان الذي أغواهما بذلك وحسنه لهما. وفي ذلك توجيه لذرية آدم وحواء، ليتخذوا من النقد الذاتي منهجا في تقويم الآثار السلبية التي تنتج عن الممارسات الخاطئة:

{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 22-23] .

كذلك توجه القصة إلى أن التفكير التبريري ونسبة الأخطاء إلى الغير هما منهج تفكير إبليسي رائده إبليس نفسه، حين نسب الإغواء إلى الله -مع إن شيئا من ذلك لم يحدث- وإنما كان سبب معصية إبليس ما اتصف به من حسد لآدم، واعتزاز بالأصل وتفاخر في المنشأ.

والواقع أن التحليل الدقئق للأخطاء التي تقع أو المصائب التي تنزل بوضح إن هذه الأخطاء، والمصائب هي مسئولية من تنزل به؛ لأن المصيبة هي وليد يولد من تزاوج قوة مع ضعف كما يولود الطفل من تزواج ذكر مع أنثى. ولا يمكن بحال أن تولد مصيبة من التقاء قوة بقوة.

فالمصائب التي تنزل سببها تزواج ضعف من نزلت به مع قوة من تسبب بها. ولو أن من نزلت به المصيبة كان مبرأ من الضعف لأوقفت قوته قوة المسبب وأبطلت فاعليتها. ولذلك يحاسب الله الضعفاء والمستضعفين كما يحاسب الأقوياء المعتدين، ويعتبر كلا منهما ظالما: هذا ظالم لنفسه إذ لم يسلحها بالقوة، ويستعمل طاقاتها وإمكاناتها لدفع العدوان الذي نزل بها، وذلك ظالم للناس إذ استعمل قوته للعدوان، ونصرة الباطل بدل أن يستعملها لنصرة الحق.

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي

ص: 65

الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] .

وفي المقابل يمدح الله الأقوياء الذين إذا نزل بهم العدوان والبغي قابلوه بالقوة ودفعوه:

{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] .

وبالإجمال فإن النقد الذاتي يتخذ في القرآن الكريم، والسنة الشريفة شكل المبادئ الثابتة والموازين الدائمة التي توجه الإنسان؛ لأن يتحرى دوره هو نفسه في كل ما يصيبه في أي زمان، أو مكان ولا يبحث عن مبررات من خارجه.

2-

تدريب المتعلم على التفكير الشامل بدل التفكير الجزئي:

المقصود بالتفكير الشامل هو ذلك الأسلوب من التفكير الذي يتناول الظاهرة من جميع جوانبها، ويتحرى جميع أجزائها وما يتعلق بها.

أما التفكير الجزئي فهو يركز على جزء من الظاهرة، ثم يعمم أحكامه على بقية الأجزاء.

والقرآن الكريم يربط مستوى العلم بمستوى التفكير، فيسمي -ظاهر العلم- والإحاطة بالعلم- والرسوخ في العلم.

أما ظاهر العلم فهو العلم السطحي الذي يقف عند الظواهر المرئية، وهو ثمرة التفكير الجزئي. أما الإحاطة بالعلم فمعناها العلم بحاضر موضوعات العلم، ومكوناتها الرئيسية وتفاصيلها الدقيقة التي انتهى العلم إليها في الوقت الحاضر.

وأما الرسوخ في العلم، فمعناه العلم بماضي العلم، وبالمكونات الرئيسية لموضوعاته والتفصيلات والعلاقات القائمة بين هذه التفصيلات التي انحدرت

ص: 66

خلال التاريخ ثم القدرة على تركيبها كلها -أي حاضر العلم وماضيه- في كل واحد. والإحاطة بالعلم والرسوخ في العلم هو ثمرة التفكير الشامل.

والإحاطة بالعلم تؤدي إلى التصديق، ولكنها لا تؤدي إلى اليقين بينما عدم الإحاطة بالعلم يؤدي حتما إلى التكذيب والاختلاف:

{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] .

والرسوخ في العلم يؤدي إلى الإيمان كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] .

وفي الغالب يرتبط التفكير الشامل بأوقات الاجتهاد والازدهار العلمي، ويكون العمق في البحث والاستقصار والمثابرة، ويكون للعلماء من التأني والصبر على مشاق البحث ما يصلون به إلى درجة الرسوخ والابتكار.

ويرتبط التفكير الشامل كذلك بدراسة ما يعجب وما لا يعجب، بل إن دراسة ما لا يعجب إن كان باطلًا -خاصة في ميدان العقائد- هو مقدمة لرفض الباطل وتقبل ما هو حق. والقرآن يشير إلى أن معرفة الطاغوت مقدمة للكفر به، والرسوخ في الإيمان:

{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] .

أما التفكير الجزئي فهو يرتبط -غائبًا- بأوقات الجمود والتقليد، وضعف القوي العقلية، والميل مع الهوى. وخطورة التفكير الجزئي أنه تفكير انتقائي ينتهي إلى الأحكام الخاطئة المضللة، ويقود إلى تمزيق وحدة الموضوع، وتجزئة الميادين المعرفية والظواهر العلمية مما ينعكس أثره على تجزئة الظواهر الاجتماعية، وتمزق وحدة الجماعات. وإلى أمثال ذلك يشير قوله تعالى:

- {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] .

ص: 67

ويشير القرآن إلى أن تجزئه التفكير والفهم -خاصة في الدين- يؤدي إلى الشرك؛ لأن التفكير والفهم الجزئيين يتركان فراغا تملأوه الأوهام، والأفكار الخاطئة:

- {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31-32] .

- {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .

وهكذا سواء أكان موضوع الفهم والتفكير هو الدين أم غير الدين، فإن التفكير الجزئي يؤدي إلى تعدد وجهات النظر وتباعدها، وتنافرها وينتهي في النهاية إلى تفتيت الجهود، والفشل في الوصول إلى الحقيقة، أو الثمرات المنشودة.

3-

تدريب المتعلم على التفكير التجديدي بدل التفكير التقليدي:

والتجديد الذي عناه القرآن هو التفكير الذي يتحرر من عوامل الألفة، والآبائية والتقليد، وينظر في الأفكار الجديدة نظرة وفي الواقع نظرة أخرى، ثم يقارن الفكر بالواقع ويتحرى الملائمة والصواب. ولذلك ربط القرآن النظر في آيات الكتاب -حيث الأفكار الجديدة- بالنظر في آيات الآفاق والأنفس -حيث الواقع والأحداث الجارية- ووجه التفكير الإنساني لاكتشاف نتائج هذا الربط التي تصدق آيات الكتاب.

أما التفكير التقليدي فهو عدم استعمال القدرات العقلية، واللجوء إلى المحاكاة أو الآبائية والاكتفاء بالمألوف القائم. ولا فرق أن يدور التقليد حول نماذج قديمة جدًّا وأخرى جديدة جدًّا. فكلا النوعين تعطيل للقوى العقلية، وإن اختلفت ميادينهما وأدواتهما. {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] .

ص: 68

ويستنكر القرآن جمود المقلدين، وهو يهتف بهم إلى التحرر من وأهام التقليد:{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] .

ويحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الفرد عديم الفكرة مسلوب الإرادة. "لا يكن أحدكم إمعة يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت

". ويقول كذلك: "كونوا للعلم وعاة، ولا تكونوا رواة" [كنز العمال، جـ10، رقم 29335] .

وفي سبيل ذلك يوجه الإسلام الإنسان إلى البحث في أسرار الكون، وعلائق الاجتماع وقوانين الوجود القائم سواء ما يتعلق بالإنسان، أو الحيوان أو الجماد.

والآيات التي تدعو إلى النظر في الوجود المحيط هي آيات كثيرة جدا في القرآن الكريم.

4-

تدريب المتعلم على التفكير العلمي بدل الظن والهوى:

في القرآن توجيهات متكررة للحث على التفكير العلمي والتدرب عليه. فهو يدعو إلى عدم التسرع في إصدار الأحكام قبل استكمال المعلومات اللازمة، والتعرف على الحقيقة كاملة:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1، وهو يحث على طلب الدليل في كل اعتقاد. والتوجيهات في ذلك كثيرة منها:{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} 2.

كذلك يدعو إلى التثبت في كل أمر قبل الحكم عليه بالقبول، أو الرفض وينهي عن تبديد الطاقات السمعية والبصرية، والعقلية في أمور لم

1 سورة الحجرات: الآية 6.

2 سورة الكهف: الآية 15.

ص: 69

تتوفر لها الأدلة العلمية الكافية: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} 1.

وفي المقابل ينهى القرآن عن اتباع الظن ويندد بأهله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} 2، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 3. وفي الحديث:"إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"4.

والتفكير العلمي -في التربية الإسلامية- لا يقتصر على أماكن الدرس ومختبرات البحث، وإنما هو صفة لازمة للإنسان في الحياة اليومية، والعلاقات الشخصية والعامة والمواقف الودية والعدائية. والواقع إن مما يميز الفكر المتقدم، والمجتمعات المتقدمة عن الفكر المتخلف، والمجتمعات المتخلفة هو أن التفكير العلمي صفة أساسية في الأولى بينما التفكير القائم على الظن، والهوى صفة ملازمة للثانية. ولقد أدركت المؤسسات التربوية الدولية ضرورة التفكير العلمي للإنسان المعاصر، الذي يتطلع للتغلب على التحديات التي أفرزها التطور الهائل في التكنولوجيا، وانهيار الحدود الثقافية والاجتماعية بين المجموعات البشرية في -قرية الكرة الأرضية- ولقد ورد في تقرير اللجنة الدولية، التي كونتها منظمة التربية والثقافة، والعلوم "اليونسكو" لدراسة أوضاع التربية في العالم، وتقديم التوصيات بشأن تربية المستقبل أن الإنسان العلمي، الذي يستعمل التفكير في كل مكان، وفي كل موقف دون التأثر بإفرازات العرقية، أو الطائفية أو القبلية أصبح ضرورة كضرورات الحياة المادية ولوازم المعيشة اليومية5.

1 سورة الإسراء: الآية 36.

2 سورة النجم: الآية 23.

3 سورة النجم: الآية 28.

4 البخاري، جـ8، باب الأدب، ص23.

5 إدجار فور وزملاؤه، تعلم لتكون "اليونسكو، 1972" ص146، 210.

ص: 70

5-

تدريب المتعلم على التفكير الجماعي بدل التفكير الفردي:

في القرآن الكريم والسنة الشريفة توجيهات، وتطبيقات متكررة هدفها تدريب الإنسان على التفكير الجماعي الذي يربط مصير الفرد بالجماعة، ومصير الجماعة بالفرد، ويجعل تبادل الرعاية بين الطرفين صفة لازمة للمجتمع الراقي.

والتوجيها المتعلقة بهذا الشأن كثيرة جدًّا من ذلك قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 2 و "مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"3.

ويلحق بذلك تظافر التفكير الجماعي ليتجسد في مبدأ الشورى، ومثال القوم الذين ركبوا في سفينة، وإن جميعا مسئولون عن سلامتها، وتوفير حاجات بعضهم بعضا من الماء وغير ذلك.

6-

تدريب المتعلم على التفكير السنني بدل التفكير الخرافي، أو التفكير الخوارقي:

التفكير السنني الذي يشدد عليه القرآن، ويكرر لفت الانتباه إليه هو التفكير الذي يعتبر أن الكون، والاجتماع البشري تسيره سنن -أي قوانين- إلهية معينة وأن التعايش مع عناصر الكون، والنجاح في مجرى الاجتماع البشري إنما يعتمدان على مواقفة هذه السنن، والقوانين في ميادين الحياة المختلفة. وبمقدار ما ينجح الإنسان في الكشف عن هذا السنن، والقوانين وفي حسن استخدامها والتوافق معها بمقدار ما يستطيع تسخير الكون

1 سورة الأنفال: الآية 25.

2 البخاري: الصحيح، جـ2، كتاب الجمعة، ص6.

3 مسلم، الصحيح، جـ16، باب البر، ص140.

ص: 71

والاجتماع البشري لتحيق المقصدين النهائيين للتربية الإسلامية وهما: بقاء النوع البشري، ورقيه خلال أطوار والحياة والمصير.

أما التفكير الخرافي الذي اتسمت به أطوار الطفولة البشرية، والذي كان يتوهم الهيمنة والفاعلية في قوى موهومة، وأرواح مخترعة جسدها التصور البشري آنذاك بأشكال الصنمية، والوثنية ورموزهما المختلفة، فهذه لا بد للتربية الإسلامية أن تكون دائما على حذر من آثارها، ومظاهرها في اغتصاب القدرات العقلية، وآثارها المدمرة في السلوك والاجتماع.

كذلك يوجه القرآن والحديث إلى ضرورة التحرر من التفكير الخوارقي الذي يعفي الإنسان من مسئولياته في التغيير، والعمل وينتظر حدوث -الخوارق والمعجزات الإلهية- في تحقيق حاجاته وحل مشكلاته. فهذه الخوارق -وإن حدثت في عهود سابقة، وفي مواقف محدودة- إلا أنها ظواهر تاريخية مضت وختمت بختم النبوة والرسالة، وانتقال البشرية إلى طور الرشد الذي حددت بداياته وملامحه ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم والذي قام جهاده -أساسًا- على الجهود البشرية العادية وإحكام تعبئة المقدرات البشرية المألوفة، ومراعاة السنن والقوانين الإلهية في جميع الشئون:

{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] .

{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] .

جـ- أنواع التفكير:

أما عن القسم الثالث لمنهج التفكير السليم، وهو -أنواع التفكير- فهذه تتضمن ما يلي:

1-

التفكير المنطقي أو التحليلي: وهو يختص بالنظر في معاني الرموز التي تدور حول العلائق، والأسباب، والنتائج مثل التفكير الرياضي

ص: 72

والتفكير الفلسفي، ويمارس عمله في ضوء مجموعة من القوانين والنظريات.

2-

التفكير التجريبي، وهو يختص بالموضوعات التي تدور حول الحقائق المتعلقة بعناصر الكون المحسوس مثل التفكير الفيزيائي والكيميائي، ويقوم بإصدار الأحكام في ضوء الخبرات البشرية المحسوسة بعناصر الكون ومحتوياته.

3-

التفكير الأخلاقي، وهو يهتم بالتقريرات التي تفاضل بين المواقف والأعمال وتقومها. ويصدر أحكامه إزاءها من حيث صلاحها أو سوئها، وخيرها أو شرها في ضوء عقائد ومبادئ معينة.

4-

التفكير الجمالي، وهو يهتم بالتقريرات التي تفاضل بين الأشياء، والمواقف والأعمال والمنتجات، ويقومها ويصدر أحكامه إزاءها من حيث جمالها، أو قبحها في ضوء معايير جمالية معينة.

والأزمة التي تعاني منها نظم التربية المعاصرة هي الانشقاق القائم بين أنماط التفكير المشار إليها، وعدم تكاملها مما ينعكس آثاره على نتاج هذه الأنماط من التفكير في ميادين الأعمال، وفي المواقف الحياتية المختلفة. فالذين يغلب عليهم التفكير المنطقي يكون صوابهم واضحًا -مثلا- في ميادين الرياضيات والفلسفة، والقانون ولكن خطأهم يكون أوضح حين يجنحون إلى ميادين الذوق، والعلاقات الإنسانية الرفيعة والأخلاق، ومثلهم أصحاب التفكير التجريبي، والجمالي يكون صوابهم واضحا في ميادين الاعتقاد والأخلاق. وتعاني المؤسسات الإسلامية التربوية التقليدية من هيمنة التفكير الأخلاقي على جميع الميادين. ومع أن الصواب والنفع واضحان في ميدان الأخلاق، إلا أن سلبيات هذا التفكير تكون فادحة حين يتخطى ميدانه إلى الميادين الأخرى. ولذلك يشيع في الحياة الإسلامية المعاصرة نقص واضح فيما يتعلق بميادين التفكير التحليلي، والجمالي من حيث تعشق المعرفة وحب

ص: 73

النظام وتقدير قيمة النظافة، وجمال العلاقات الاجتماعية العامة وحسن تحليل المشكلات.

ثالثا: كيفية تنمية القدرات العقلية ومنهج التفكير السليم

المحور الرئيسي في المنهج اللازم لتنمية القدرات العقلية والتفكير السليم هو التفاعل مع عناصر الكون القائم والأحداث الجارية فيه. فالقدرات العقلية تنمو وتنضح من خلال دراسة هذا الكون، وعناصره المتناثرة في الكرة الأرضية وغيرها من الكواكب. ولذلك كانت التوجيهات الإسلامية للسير في الأرض، والبحث في نشأة عناصر الوجود وتطور هذه العناصر وتركيبها.

أما التفاعل مع الأحداث الجارية، فلا بد أن يتم هذا التفاعل في بعدين رئيسين: البعد المكاني والبعد الزماني، أو نقول بعد الجغرافيا وبعد التاريخ، وإلى البعد المكاني كانت التوجيهات القرآنية للبحث في آثار المجتمعات الماضية، ونشاطات المجتمعات القائمة، وذلك بقصد الوقوف على قوانين الله في انهيار المجتمعات الماضية، ثم النظر في بدء هذه المجتمعات، والتطورات التي اعترتها أو تعتريها خلال مسيرتها الطويلة، وكذلك النظر في المجتمعات المعاصرة، وتحليل عوامل قيامها ونشاطها الجاري.

أما البعد الزماني فقد تعددت الإشارات، والتوجيهات القرآنية إليه من خلال الدعوة للنظر في أحداث التاريخ، وتطور الحضارات والمجتمعات، والظواهر الاجتماعية والدينية، والثقافية التي رافقت العصور والأزمان المتتالية.

وكلما اتسعت رحلة القدرات العقلية، وعملية التفكير خلال بعدي الوجود الزماني، والمكاني المشار إليهما كلما نمت هذه القدرات، وأحكمت عملية التفكير، وتمكن الإنسان من مواجهة المشكلات القائمة بثقة، وقدرات عقلية مناسبة.

ص: 74

ولا بد من الانتباه إلى أن تنمية القدرات العقلية تحتاج إلى مراعاة عدد من الأمور هي:

1-

إن القدرات العقلية تولد كامنة في الإنسان، وهي تنمو وتشتد بالرعاية والتربية، وتضعف أو تموت بالإهمال أو سوء الاستعمال، أو سوء التربية أو سوء السلوك والتطبيقات الخاطئة، أو أجواء القهر والتسلط. والإشارات القرآنية إلى أمثال ذلك كثيرة ومتعددة تجتمع الإشارة إليها جميعا في مثل قوله تعالى:

{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] .

2-

إنه لا نهاية للقدرات العقلية بل هي متنوعة، ومتدرجة بتنوع الموجودات وظواهر الكون ومواقف الحياة، وإن في الإنسان قدرات عقلية هائلة ما زال القسم الأكبر منها لم يستعمل. ويشير القرآن إلى أن في الإنسان قدرات عقلية تمكنه من معرفة المخلوقات كافة، والوقوف على نشأتها وتكوينها وما يتعلق بها، ثم تلخيص ذلك كله في أسماء جامعة مانعة. وإلى هذه القدرات يشير قوله تعالى:

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] .

3-

إن مجموع العمليات العقلية والتفكيرية التي يقوم بها الإنسان في مواجهة موقف معين هو عملية العقل كعملية الهضم، أو الشرب أو النوم. والعاقل هو من كانت لديه القدرات العقلية التي يتطلبها الموقف، ويستطيع القيام بالخطوات التفكيرية بالترتيب الذي ذكرناه. والتمرس بهذه القدرات والمهارات حتى درجة الإحاطة بالموقف، ومعالجته إلى الدرجة التي تحلل المشكلة وتفرز الحلول المطلوبة هو الحكمة، التي تعجل صاحبها حكيما بسلوكه خبيرا بموضوعه.

4-

إن الفشل في تربية القدرات العقلية، ومنهج التفكير يفرز آثارا خطيرة جدا في حياة الفرد والمجتمعات سواء. فالفرد الذي لا تنضج قدراته العقلية ومنهج التفكير فيه حين يحس بمشكلة ما أو يواجه موقفا معينا فإنه

ص: 75

يصاب بالحيرة، ويظل يدور في دوامة الإحساس بالمشكلة ولذع الجهل بها حتى ينتهي الأمر به إلى أحد موقفين: إما أن ينفعل ويركب التعسف، والتخبط وإما أن يلفه الدوار ويستسلم للموقف المشكل ثم يئول إلى الانهيار. وكلا الموقفين مظهر من مظاهر القصور العقلي والفشل في مواجهة المشكلة أو الموقف.

وقد يكون لدى الفرد القدرة العقلية الأولى -القدرة على الحفظ، أو القدرة على خزن المعلومات واسترجاعها. ولكن لا يكون لديه القدرات التالية كالفهم والتحليل والتقييم، والتطبيق وقد يكون مضطرب التفكير كأن يقفز من الخطوة الأولى، وهي الإحساس بالمشكلة إلى الخطوة الأخيرة، وهي طرح الحل واستعماله. وقد ينظر للمؤلف نظرة جزئية فيتعلق بالمعلومات الناقصة، ويصدر الحكم.

وهذه الحالات هي ثمرة التربية العقلية الناقصة، أو الخاطئة وفي جميع هذه الحالات لا يصل صاحب هذا النوع من العقل، والتفكير إلى الحل أو الحكم الصحيح، وتنعكس آثار هذا النقص سلبيا عليه وعلى من حوله، ويسمى غير عاقل. والفرد الذي يعاني من هذا النقص لا ينتفع بالموجودات المحيطة به ولا يسهم بتسخيرها. والمجتمع الذي لا يهيئ لأفراده البيئات التربوية الحرة لتنمية القدرات العقلية ومهارات التفكير، ولا المناهج والمؤسسات والوسائل اللازمة لذلك يظل مجتمعا متخلفا غائبا عما حوله ويعش كلا على غيره، ولا ينتفع بالموجودات المحيطة به ولا يسخرها، ولا ينتفع بالأحداث والتيارات التي جرت في الماضي أو تجري في الحاضر، وتنقلب مصادره البشرية والمادية شئوما عليه. وإلى هذا العجز يشير القرآن الكريم:

{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] .

5-

لا بد من ملاحظة أن المنهج الذي يكشف عن القدرات العقلية

ص: 76

ويرعى تنميتها هو منهج علمي يتخذ مختبره من ميدان الآفاق، والنفس البشرية وأنماط الحياة الاجتماعية، وآثار القدرات العقلية نفسها في عالم الواقع وفي ميادين الكون. وليست الاستشهادات التي سقناها من القرآن والسنة إلا إشارات توجيهية لدخول المختبر المشار إليه.

أما المنهج اللغوي أو التأملي الذي استعمله الماضون، فهو منهج أوقعهم في كثير من الأخطاء، وقاد إلى نكسات هائلة في ميادين العلم والفكر والاجتماع.

6-

إن إتقان منهج التفكير وأشكاله والتدرب على مهاراته، وكذلك نمو القدرات العقلية شرطان أساسيان في الفهم والسلوك. فالقرآن يذكر بوضوح أن الذكري فيه هي لأولى الألباب، وأن الذين يتقنون مهارات العلم والتعلم هم الذين يعلمون مراميه ومقاصده، بينما يفتقر المعرضون عنه إلى المهارات الأولية في التعلم، وهي حسن الاستماع الذي أقر المعرضون بآثار فقدانه حين اعترفوا بعدم الفهم، وقالوا: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه:

{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 3-5] .

رابعا: توفير بيئة الحرية اللازمة لتنمية القدرات العقلية والتفكير السليم

تحرص التربية الإسلامية على توفير البيئة المناسبة لنمو القدرات العقلية نموا سليما. وأبرز سمات هذه البيئة أمران: الأول، الحرية. والثاني، الممارسة والتدريب على التفكير الحر.

أما عن السمة الأولى وهي -الحرية- فلأن القدرات العقلية -كالنبات- تنمو وتزدهر في أجواء الحرية. وهي تموت أو تتشوه في أجواء الكبت الفكري والقهر الإرادي، وحين تموت القدرات العقلية أو تعاق عن النمو وتتشوه لا يكون هناك شهود للمثل الأعلى، ولا إدراك لبراهين صدقه،

ص: 77

ولذلك لا يكون هناك إيمان حقيقي به، وإنما تسليم وتقليد أعمى، أو آبائية ونكران، أو مراءاة ونفاق، وبالتالي لا تتولد -الإرادة العازمة- التي هي الزوج الأول لتوليد "العمل الصالح". كذلك لا يكون هناك شهود للخبرات الكونية، ولذلك لا تتولد -القدرة التسخيرية- التي هي الزوج الثاني لتوليد العمل الصالح.

لذلك يمكن القول -جزما وتأكيدا- أن الحرية في الأمة المسلمة هي فرض عين، وعلى الجميع القيام بها وممارستها وتوفيرها، وحمايتها من الطغيان الداخلي ومن العدوان الخارجي. وإذا غابت الحرية وقع الإثم على الجميع وذلك لسببين: الأول، إن الحرية سبب رئيسي لنمو القدرات العقلية التي يفهم القرآن بواسطتها، وتفهم آيات الله في الآفاق والأنفس، فإذا لم توجد هذه القدرات العقلية اقتصر الإنسان على تلاوة آيات الله في القرآن، وحفظ آيات الله في الآفاق والأنفس دون فهم لمقاصدها النهائية، وتحول كالحمار يحمل أسفارا. والثاني، أن غياب الحرية يؤدي إلى ضعف القدرات العقلية وضمورها -إن كانت موجودة- مما يمهد لعودة الصنمية والوثنية والتخلف. فالحرية هي مظهر التوحيد، والتوحيد في جوهره حرية؛ لأنه تحرر من عبودية الأشخاص والأشياء، والأفكار الخاطئة أو الخرافية.

فالحرية -إذن- تعني الاختيار المستنير، العارف، الواعي، أي هي العمل الذي تتضح منطلقاته وأهدافه، ويصدر عن ذات الشخص وعن قواه العقلية، والنفسية الناضجة المتكاملة، ويبطل فيه تأثير الحاجة، والعادة، وترديد مقولات الآخرين وتأثيراتهم وإيحاءاتهم، خلال الأحكام الأساسية عن الخير والشر1.

والحرية بهذا المفهوم تختلف عن الحرية السائدة في المجتمعات

1 يتحقق هذا المفهوم لـ -الحرية- بالإيمان حسب مفهومه الإسلامي؛ لأنه يقوم على التحرر من الصنمية بمختلف رموزها. ولذلك لا يكون العوام والجهلة، وأصحاب التقليد المذهبي وأولي العصبيات أحرارا، وليسوا مؤهلين لممارسة الحرية.

ص: 78

الغربية الحديثة وامتدادها حيث تعني استجابة الإنسان لخواطره، أو غرائزه ودوافعه العفوية دون تزكية نفسية أو تربية عقلية.

وتحقق الحرية في واقع الحياة حين لا يقيدها إرادة مخلوق أو تأثيره، ولا تخرج عن سنن الخالق وقوانينه في الوجود. ولذلك تحدث أزمة الحرية حين تقيدها إرادات المخلوقات أو آثارها، أو حين تخرج عن توجيهات الخالق، فتصطدم بقوانين الخلق وسنن الحياة في مواقع كثيرة من شبكة العلاقات التي تنظم علاقات -إنسان التربية الإسلامية- بالخالق والكون والحياة، والإنسان والمصير.

والحرية -في المفهوم الغربي ثلاثة أنواع: حرية التفكير، وحرية الاختيار، وحرية العمل. أما في المفهوم الإسلامي فهي أنواع أربعة تضم الأنواع الثلاثة التي يشتمل عليها المفهوم الغربي مضافا إليها نوع رابع هو -حرية عرض المثل الأعلى- التي يشير إليها القرآن عند قوله تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .

وأهمية النوع الرابع من الحرية أن الأنواع الثلاثة الأولى لا معنى لها دون الرابع؛ لأنها إطار والرابع محتوى، ولذلك ربما أدت إلى نتائج سلبية إذا لم يوجد النوع الرابع -أي المثل الأعلى- إذ تصبح المشكلة هي: يفكر الإنسان بماذا، ويختار ماذا، ويعمل ماذا؟ إن جواب هذا الـ"ماذا" هو نموذج المثل الأعلى -أي النموذج المثالي للحياة. وهو ما يسميه القرآن الكريم- شرعة ومنهاجا. فالشرعة تعني -مبتدأ أو منطلقًا- يبدأ الإنسان منها عمليات التفكير والاختيار والعمل. والتفكير الفلسفي المنقطع عن الوحي يسميها -مسلمات يتخيلها الفيلسوف، أو المفكر ويبني منها -نموذج المثل الأعلى- الذي يطرحه للناس، وفي الغالب يشترك الناس في التخيل وطرح نماذج المثل الأعلى طبقا لدوافعهم وحاجاتهم الآنية العفوية غير المنظفة. والمثل الأعلى لا بد أن يكون -نموذج تشغيل الجهاز أو الآلة- من مصممها، ومهندسها، والمشرف على صناعتها.

ص: 79

والسؤال الذي نطرحه هنا: ما هي الأداة التي يمارس الإنسان بواسطتها هذه الأنواع من الحرية، هل هي الدوافع أم العقل؟ في الحضارة الحديثة يغلب استعمال -الدوافع- كأداة لاختيار نوع الحرية. والدوافع أدوات عمياء غير مبصرة لا تختار إلا الحاجات الأساسية السفلى. أما في التربية الإسلامية فالعقل هو أداة هذا الاختيار شريطة أن تكون القدرات العقلية ناضجة مكتملة، وهي ما يشير إليها القرآن باسم -الألباب. ولقد انتبه إلى هذا الأمر -بول هـ. هيرست- حيث كتب يقول:

"إن مبدأ -حرية إقرار الأفعال- أساسي في القيم الأخلاقية. ولكن يوجد إلى جانبه مبادئ أخرى. فالحرية لا تؤدي قراراتها إلى نفع أخلاقي ما لم تتم هذه القرارات في الحدود التي يقررها العقل"1.

ويرتبط بالأمر المذكور أعلاه الانتباه إلى مؤهلات المربي الذي يدرب الناشئة على الحرية، ويقدم لهم قدوة ممارساتها. وفي ذلك يقول الفيلسوف -فرتز شوماخر:"إن المربي كالجنائي الماهر الذي يعمل على تطوير تربة خصبة مناسبة حيث يغرس فيها النبات الغض وينمو بجذور وأغصان قوية. وخلال هذا النمو يجد جميع عناصر الغذاء التي يحتاجها. والنبات الغض سوف ينمو طبقا لقوانين النمو التي هي دقيقة ونافعة إلى درجة لا نستطيع تصورها. والنبات سوف ينمو بشكل أفضل حينما يعطى أقصى درجات الحرية ليختار عناصر الغذاء التي تناسبه. أي أن الحرية تشكل عاملا أساسيا في التربية"2.

وهنا تبدو درجة الخطر الذي تتسبب به الأمة حين تسلم معاهد التعليم

1 paul H. Hirst، Moral Educatin in Secular Society،"London: University of London Press، 1974" P.61.

2 E. Fritz. Schumacher، A. Guide For the Perplexed. "New york: Harper & Pubishers، 1977" P.122.

ص: 80

ومنابر الإعلام والصحافة والتلفزيون، والسينما لمرتزقة المعلمين وقاصري العقول، ومتوسطي الذكاء من المعلقين الصحفيين والإعلاميين وبائعي المتع والشهوات ليشوهوا معنى الحرية وتطبيقاتها.

وأما عن -السمة الثانية- وهي الممارسة العملية للحرية، والتدرب على التفكير الحر فيمكن القول أن الأصول الإسلامية تطلقها كاملة حين تجعل للصواب من ثمرات التفكير أجرين، بينما تجعل للخطأ أجرا واحدًا، مع ملاحظة أنها لم تخصص أجرا للخطأ إلا في ميدان التفكير والاجتهاد العقلي. ومعنى هذا أن من لا يري الله أثر نعمته عليه في العقل، والتفكير لا ينال من الله أجرًا، وأن من يخطئ في استعمال هذه النعمة هو أفضل من المعطل لها العاجز عن استعمالها، المستسلم للإبائية والتقليد.

ولتكون الحرية كاملة تعمد التربية الإسلامية إلى تطهير البيئة من جميع الضغوط، والقيود التي تحول دون هذه الحرية، فتزكيها من الصنمية والخرافة اللتين تحولان دون حرية التفكير، ومن الطغيان الذي يحول دون حرية الاختيار، ومن الخوف والجمود اللذين يحولان دون حرية العمل، ومن الظلم الذي يحول دون حرية عرض المثل الأعلى.

أزمة الحرية في التربية المعاصرة:

تتباين أزمة الحرية في التربية المعاصرة في كل من المجتمعات التي توصف بالتقدم، والمجتمعات التي توصف بالنمو أو التخلف. ويمكن التعرف على طبيعة هذه الأزمة من خلال أمرين: الأول، فحص القيم التربوية والعلمية السائدة في النوعين من المجتمعات. والثاني، تتبع تطور حرية الإنسان في كل من البيئتين المذكورتين.

أما عن الأمر الأول، أي القيم التربوية والعلمية فيلاحظ أنه في المجتمعات التي توصف بالتقدم تنبع قيم حرية التفكير والتعبير، والعمل والاختيار من المؤسسات التربوية ابتداء حيث يعطي المربون حرية التفكير

ص: 81

والتعبير والعمل، والاختيار كاملة لتلاميذهم وطلابهم، ويتعاملون بها مع أقرانهم في مجالس المعلمين، ومجالس الكليات والجامعات وعلى صفحات الكتب والمجلات، وفي المؤتمرات والندوات. أما في مجتمعات العالم الثالث -ومنه المجتمعات العربية والإسلامية. فجميع شرور الإرهاب الفكري وكبت الحريات تنبع -ابتداء- من المؤسسات التربوية. وجميع المربين ذاق ويعرف أساليب القسر البيروقراطي والإلزام السلطوي، والأسلوب الواحد المفروض في التفكير والتلقي، والاستظهار والتعبير والامتحان الذي يمارسه المعلمون إزاء المتعلمين ابتداء من المستوى الابتدائي حتى المستوى الجامعي. والكل خبر -وما زال يخبر- المشاحنات والعداء، والبغضاء والطعن بالتعبير الشفوي، والكتابي الذي يقع به الزملاء والنظراء من المعلمين والدكاترة إزاء ملائهم إذا خالفوا مقولاتهم في مجالس المعلمين، أو مجالس الأقسام والكليات والجامعات، أو مناقشات أطروحات الماجستير والدكتوراه.

وأما عن الأمر الثاني، وهو تتبع تطور حرية الإنسان في كل من البيئتين فيلاحظ أن المؤسسات التربوية، والموروثات الثقافية والقيم الاجتماعية ومؤسسات الإعلام، والأمن والإرادة تتظافر كلها -في العالم الثالث- لسلب الإنسان حرية التفكير وحرية الاختيار سواء. لذلك تظل القدرات العقلية معطلة عن النمو معوقة عن الاستعمال. ففي الشرق العربي وما حوله -مثلًا- تبدأ المؤسسة التربوية الأولى -أي الأسرة- في كبت الحرية وتطويع إرادة الصغير للكبير والضعيف للقوي. منذ الساعات الأولى لولادة الإنسان، حيث تسلب حرية المولود في الحركة من خلال ما يسمى بـ"التقميط والتلفيع" أي لفه بالقماش الذي يكبل يديه ورجليه، ويحيله إلى أشبه بالجثة المكفنة. كذلك يمنع من البكاء الذي يشكل المقدمة الأولى لحرية التعبير، ويمنع من اليقظة ويجبر على الاستسلام والنوم بالتخدير المادي والمعنوي.

وحين يبدأ المولود رحلته في محطات الشهور يمنع من لمس مواد

ص: 82

البيئة المحيطة وإذا حاول التعرف على تفاصيل محتوياتها تعرض للعقاب، والتأنيب ووجهت إليه تهم الشيطنة والتخريب. وحين نقل الشرق ظاهرة لعب الأطفال صارت اللعب تشترى باسم الصغار ليلعب بها الكبار ويستأثرون بها بحجة الحفاظ عليها من تخريب الأطفال وإفسادهم.

وحين يبدأ الطفل رحلته في محطات السنين تبدأ قولبة عقله، ومشاعره وسلوكه بقوالب الآبائية والعصبية، والتقاليد والقيم المتفرعة عنهما بأساليب قسرية ملزمة. وحين ينتقل الطفل إلى الروضة ثم إلى المدرسة يتابع المعلم دوره في كبت حريات الطفل الأربع: حرية الحركة، وحرية الكلام، وحرية التفكير، وحرية الاختيار. ويبدأ في تدريبه على تسمير جسده في المقعد والتلقي دون تفكير أو ممارسة، وينتصب المعلم أمامه آمرا ناهيا معصوما من الخطأ مبرءًا من النقص. وبذلك يعده ليرى كل مسئول يعلوه في المستقبل بنفس الصورة فلا يناقش ولا يشارك بل يتلقى وينفذ. ولا تختلف تقاليد الجامعة في الشرق ومناهجها عن تقاليد، ومناهج المدرسة كثيرًا. ويكمل عمل البيت والمدرسة والجامعة مؤسسات الإعلام، والصحابة والوعظ فجميعها تمارس الإلقاء بدون نقاش، والقولبة بدون تمحيص، والاتباع بدون تفكير.

وهكذا تتظافر المؤسسات التربوية ابتداء من البيت حتى الجامعة، والبيئة المحيطة لخنق القدرات العقلية عند الناشئ، ولتخريج إنسان يحفظ ذهنه ولا يعقل، وتقع عيناه على آيات الله في الآفاق، والأنفس إذا مر بها ولا يبصر، وتطرق أذنيه الأقوال ولا يسمح. وتكون محصلة العمل التربوي قولبة مواطن متدرب على أن يسمع فيطيع، ويتلقى فلا يناقش، ويؤمر فيعمل دون تفكير بالنتائج.

أما في المجتمعات المتقدمة، فإن المولود يترك منذ الساعات الأولى للولادة طليق الحركة وينظر إلى بكائه كظاهرة صحية لازمة لتوسيع أجهزة التنفس، وتمرين أوتار الصوت، وتهيئتها للقيام بحرية التعبير في الحياة المقبلة.

وحين يمضي في محطات الشهور يعتبر لمس الطفل لمواد البيئة

ص: 83

المحيطة شارة لبدء عمل القدرات العقلية ونموها للتعرف على مكونات البيئة وقوانينها. ولذلك نشأت من أجله صناعة ألعاب الأطفال لتسهم في نمو قدراته العقلية، وتشبع استعداداته في دراسة ما حوله.

وحين يمضي الطفل في محطات السنين يعطي الحرية كاملة -في البيت والمدرسة والجامعة- لفحص ما يرى، ومناقشة ما يسمع، والتعبير عما يشعر، وتطبيق ما يفكر، والمشاركة في النشاطات الدائرة والتدرب على أدوار الحياة المقبلة والإسهام في مواجهة تحدياتها، ومعالجة مشكلاتها.

هكذا تتظافر المؤسسات التربوية -ابتداء من البيت حتى الجامعة والبيئة المحيطة- لرعاية القدرات العقلية عند الناشئ، ولتوفر لها فرص النمو وأسبابه وبيئته، وليستمتع بالحرية طفلا في البيت، وتلميذا في المدرسة، وطالبا في الجامعة، وبذلك يتذوق قيمة الحرية مواطنًا في أمة، ويرعاها ربا في أسرة، ويذود عنها ممثلا في البرلمان أو جنديا في الميدان، أو عضوا في المجتمع، ويمنحها للآخرين حاكما في دولة أو وزيرا في وزارة، أو مديرا في دائرة، وهكذا في بقية مواقع المسئولية التي ترعى العلاقات الاجتماعية وتنظمها.

وهنا قد ينهض سؤال وهو: لماذا انتهت الحرية في المجتمعات المتقدمة -خاصة في المجتمعات الغربية- إلى ما نراه من فوضى أخلاقية في علاقات الجنسين، وتناول المسكرات والمخدرات وانهيار الأسر؟

والجواب أنه ليست الحرية هي السبب في هذه الفوضى الأخلاقية، وإنما السبب هو سوء "المثل الأعلى" -أي نموذج الحياة- الذي تعرضه مؤسسات التربية والإعلام، والتوجيه والإدارة أمام القدرات العقلية لإنسان المجتمعات المذكورة. فهذا "المثل السوء" يعرض للحرية مفهومًا يتصف أحيانا بضعف الإرادة وأحيانا بطغيانها مما يفرز إرادة جازمة، ولكن غير نبيلة. فالإنسان الغربي -مثلا- لا يضيره -بل يسره- أن تصحب نساؤه الأصدقاء وتحضرهم إلى غرف النوم. ولكن ثائرته تثور ولا تهدأ، وثائرة

ص: 84

كل ما يسمع أو يرى إذا تعرضت المرأة -أية امرأة- للاغتصاب أو التحرش. فـ"المثل الأعلى" السيئ -هنا- لا يدفع الرجل للثورة من أجل عفة المغتصبة وحريتها سواء، وإنما يبالغ في الدفاع عن حرية الاختيار، ويضعف إلى درجة الصفر عن نصرة العفة. ومثاله ما تطالعنا به الصحف المحلية هناك عن شكاوى بعض الزوجات إلى المحاكم؛ لأن الأزواج دنوا من فرشهن رغمًا عنهن.

فالعامل الأساسي -إذن- في الانحرافات الأخلاقية هو -المثل السوء- المعروض أمام القدرات العقلية وليست الحرية، فهو ينتصر للحرية وحدها دون الفضيلة، تماما كالعربي أو المسلم التقليدي الحاضر الذي ينتصر للفضيلة دون الحرية. والغربي حين يبدل "المثل السوء" بـ"مثل أعلى" عال كأن يبدل "المثل المسيحية واليهودية، وفلسفة عصر النهضة" بـ"المثل الأعلى الإسلامي" وتشاهد قدراته العقلية "المثل الأعلى الإسلامي"، وتتفاعل معه فإنه لا يتضرر أبدا بأجواء الحرية من حوله بل إنها تصبح دعما لإبداعاته الإسلامية، وعاملا مسهلا لنشاطاته.

مسئولية التربية الإسلامية إزاء الحرية:

وفي ضوء ما مر تتجدد مسئولية التربية الإسلامية، ومؤسساتها المنشودة إزاء قضية الحرية فيما يلي:

أولا، مراجعة الموروثات الثقافية، والقيم الاجتماعية لتعود -للحرية- مكانتها في قلب نظام القيم السائدة في المجتمعات الإسلامية، ولترفع المؤسسات التربوية درجة غيرة الإنسان المسلم على حريته إلى درجة غيرته على نسائه، بل أشد، وليتحاشى الاعتداء على حريات الآخرين أو هتكها، أو اغتصابها كما يتحاشى الاعتداء على أعراضهم ونسائهم.

فالتربية الإسلامية في عصر النبوة وضعت الحرية في محور الحياة الاجتماعية، وأنجبت -جبل عمر بن الخطاب- الذي ثارت ثائرته على

ص: 85

عمرو بن العاص حين هتك ولده حرية القبطي في مصر، فانفجرت قداسة الحرية على لسان عمر وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!! في الوقت الذي أعمل سوطه تأديبا لابن عمرو، ودفع السوط إلى القبطي ليجيله على صلعة عمرو، والذي بعزته تطاول ابنه على حرية القبطي.

وحين هجرت مؤسسات التربية الإسلامية رعاية الحرية دخلت الأمة كلها في نفق مظلم، اغتصبت الحريات فيه لقرون دون حس أو شعور.

ثانيًا، دخول ميدان التربية العالمية لطرح نموذج "المثل الأعلى الإسلامي" المتعلق بالحرية الإنسانية طرحًا يرقى إلى مستوى "الجدال الأحسن" أسلوب ومحتوى، خلال التفاعل الحضاري، والتربوي والثقافي الذي تزجيه الحضارة الحديثة إلى جميع "حارات قرية الكرة الأرضية". ولن تستطيع التربية الإسلامية، ومؤسساتها القيام بهذا الواجب العالمي إلا إذا نجحت في بيئاتها الخاصة في رعاية -قيمة الحرية- ورفعها إلى المكان اللائق بها في نظام القيم السائدة. فهذا النجاح سوف يوفر للمتعلم المسلم التفاعل مع نموذج "المثل الأعلى" الإسلامي، ويقدم الأفراد المسلمين والمجتمعات الإسلامية كنماذج حية ملموسة للذين يعانون من غياب المثل الأعلى في الحضارة الحديثة، فيتأسون بأهلها ويتوجهون لمصادرها.

خامسا: تربية القدرات العقلية عند المؤسسات التربوية الإسلامية قديماوحديثا:

في المصادر الإسلامية التاريخية إشارات على أن المشتغلين بالتعليم في القرون الأولى، انتبهوا للقدرات العقلية واشتغلوا بتصنيفها. وأولى الإشارات المباشرة هي تصنيف سفيان الثوري المتوفى عام 148هـ. وهذا التصنيف كما يلي:

الإنصات، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم العمل، ثم النشر.

وتابعه في التصنيف تليمذه المباشر عبد الله بن المبارك حيث قال:

ص: 86

"أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر".

ويلاحظ على التصنيفين إنهما يمزجان القدرات العقلية، والمهارت الحسية المرافقة.

ولقد جمع أحمد رزوق "المتوفى عام 899هـ" مختلف التصنيفات في قاعدة عامة هذا نصها: "لكل شيء وجه. فطالب العلم في بدايته، شرطه الاستماع والقبول، ثم التصور والتفهم، ثم التعليل والاستدلال، ثم العمل والنشر. ومتى قدم رتبة عن محلها حرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها. فعالم بغير تحصيل ضحكة، ومحصل دون تصور لا عبرة به، وصورة لا يحصنها الفهم لا يفيدها غيره، وعلم عري عن الحجة لا ينشرح به الصدر، وما لم ينتج فهو عقيم. والمذاكرة حياته لكن بشرط الإنصاف والتواضع. وهو قبول الحق لحسن الخلق. ومتى كثر العدد انتفيا، فاقتصر ولا تنتصر واطلب ولا تقصر وبالله التوفيق"1.

ويمكن أن نمثل لخلاصة هذه التصنيفات بالشكل التالي:

كذلك ظهرت بعض التصنيفات التي حاولت التعريف بالعقل ومظاهره

1 ماجد عرسان الكيلاني، تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية، ص96.

ص: 87

مثل كتاب "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" -لابن حبان، وكتاب "المسائل في أعمال القلوب والجوارح، والمكاسب والعقل" للمحاسبي. ومما قال فيه:

"العقل له ثلاث معانٍ: الأول، غريزة يعرف بها الإنسان ما ينفعه وما يضره، والثاني: الفهم والبيان. والثالث: البصيرة والمعرفة بقدر الأشياء النافعة والضارة في الدنيا والآخرة"1.

أما -الرازي- فقد قسم القدرات العقلية إلى ثلاثين قدرة عرف كلا منها في كلام طويل مفصل. أما هذه القدرات فهي: الإدراك، الشعور، التصور، الحفظ -التذكر، الذكر، المعرفة، الفهم، الفقه، العقل، الدراسة، الحكمة، اليقين "علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين"، الذهن، الفكر، الحدس، الذكاء، الفطنة، الخاطر، الوهم، الخيال البديهة، والأوليات أو البديهيات، الروية، الكياسة، الخبرة، الرأي، الفراسة وهي نوعان: نوع يحدث بالإلهام، ونوع بالاستدلال2.

ولقد تفرع الحديث حول العقل، ومظاهره وعلاقته بالوحي عند مدارس الفقه، وعلم الكلام والتصوف والفلسفة. إلا أن هذه الدراسات والمجادلات اتصف بأمرين: الأول، أنها لم تعتمد المنهج العلمي التجريبي -كما هي حال علم النفس المعاصر- وإنما اعتمدت على الاشتقاقات اللغوية، والتأملات الفلسفية.

والأمر الثاني، إن هذه الدراسات والمجادلات لم تصل إلى نتائج حاسمة حول ماهية العقل وآثاره. فقد ظلت الأكثرية تعتبر العقل جوهرا مستقلا. وتعكس كتابات أمثال ابن مسكويه والغزالي، وعلماء المعتزلة، والأشاعرة والفلاسفة وغيرهم هذا التصور.

ولقد انعكست هذه الاختلافات -حول العقل- على طريقة فهم القرآن

1 المحاسبي، المسائل في أعمال القلوب والجوارح والمكاسب والعقل. "القاهرة: عالم الكتب، 1969"، ص241.

2 الرازي، التفسير الكبير، جـ2، ص203-208.

ص: 88

وتكوين العقيدة وظهور اتجاهات الزندقة. فكان لذلك آثار سلبية أهمها توقف البحث في القدرات العقلية وتنميتها، ثم انحسار أجواء الحرية العقلية، واضطهاد الخائفين في هذا الميدان.

وأخيرًا انتهت تربية القدرات العقلية، ومهارات التفكير إلى حالتين: الأولى، الوقوف عند العناية بالقدرة على الحفظ كما هو الحال في مؤسسات التربية العاملة في ميدان الفقه والعلوم الدينية. والثانية، تقليل قيمة القدرات العقلية وإهمالها إهمالا كاملا كما هو واضح عند الصوفية وفرق الشيعة المتطرفة، حيث حصرت الأولى منهج المعرفة بما أسمته الإلهام، وحصرته الثانية في شخص الإمام.

ويمكن أن نمثل لما انتهت إليه حالة القدرات العقلية عند الفئات المشار إليها بالشكل التالي:

وهذان الشكلان الأخيران من تربية القدرات العقلية، ورثتهما مؤسسات التربية الإسلامية في العصر الحديث.

ص: 89

ومن الإنصاف أن نقول: أن -مؤسسات التربية الحديثة- التي أقيمت على النمط الأوربي -رغم حديثها عن القدرات العقلية- إلا أنها من الناحية العملية تهمل القدرات العقلية ولا تنمي إلا "القدرة على الحفظ"، وذلك بسبب عاملين: الأول، النشأة الأولى للعاملين بها في محاضن البيئة العربية، والإسلامية التقليدية التي اعتادت على إهمال القدرات العقلية المبدعة، والاقتصار على قدرة الحفظ. والثاني، أزمة الحرية الفكرية التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة في البيئات المذكورة.

فالمؤسسات التربوية التقليدية، والحديثة يتشابهان في إهمال القدرات العقلية المبدعة، ولا يهتمان إلا بالقدرة على الحفظ والاستظهار. ويتضح ذلك من أمرين: الأول، اقتصار العناية على السرد والرواية من المدرس والحفظ من الطالب. وما يسرده المدرس هو من خارج واقع المجتمع الحاضر وبعيدا عن مشكلاته. ففي مؤسسات التربية الحديثة "يقص" المعلم أو الدكتور على الطلبة سير العلماء، والرواد الغربيين ومنجزاتهم في ميادين العلم والتربية والاجتماع. وفي المؤسسات التربوية الإسلامية يقص "الشيخ" أو"الشيخ الدكتور" على الطلبة سير الآباء ومنجزاتهم.

والأمر الثاني، أن الطلبة في كلا النظامين يقومون بدور المستمعين الذين يسلخون من أعمارهم حوالي ربع قرن، أو ثلثه أو نصفه وهم يعيدون ويكررون ما يروى لهم من الأساتذة، ولا يطلب منهم إلا استظهار ما يسمعونه، ولا يتهيأ لهم فرص التطبيق والتحليل أو التفكر والتدبر والفقه. ووقوف مؤسسات التربية المذكورة -في تربية القدرات العقلية- عند القدرة على الحفظ أو الاستظهار وقصورها عن العمليات العقلية العليا يفرز آثارا سلبية أهمها:

1-

عجز الإنسان الذي تخرجه هذه المؤسسات عن "التفاعل" مع أبناء مجتمعه، والإسهام في حشد الطاقات لصالح الجميع. ولذلك فهو عاجز عن التفاهم والحوار المتبادل، وتقتصر قدراته التواصلية عند الحديث من

ص: 90

طرف واحد -هو نفسه، فهو يستطيع أن يروي ويخطب، ولكنه لا يستطيع أن يسمع أو يناقش، أو يحلل أو يطبق ويتوصل إلى حال؛ لأن الرواية والخطبة ترتبطان بالقدرة العقلية الأولى -أي القدرة على الحفظ، أما النقاش والتحليل والتطبيق فهو يتطلب قدرات عقلية عليا من الفهم والتحليل، والتأليف والتطبيق، ويتطلب مهارة في الاستماع بحيث يسمع غيره بدقة لا أن يفكر بما سيتحدث حين يبدو أنه يستمع لغيره. وينعكس هذا العجز على علاقات الأفراد ومواقفهم. فالخطيب أو المتحدث يريد في جميع أحواله أناسًا يستمعون له ويصفقون لا أناسا يناقشون ويعارضون. والسامعون يريدون متحدثا يكرر على أسماعهم ما يحفظون، ويعزز ما يعتقدون، لا ناقدًا ينثر محفوظاتهم ويعيد نقدها وترتيبها وتقويمها، ولذلك تنفجر الانفعالات وتثور الخلافات وينفجر التعسف المخرب، ومواقف الرفض وتطبع العلاقات والممارسات السياسية، والاجتماعية بطابع الحقد والتوتر والخلافات المدمرة.

2-

عجز الإنسان الذي تخرجه هذه المؤسسات عن "تحديد هويته" بين بني الإنسان. ولذلك ما زال المتسلط، أو المستعمر الخارجي يحدد له "هوية أو جنسية" إقليمية أو قبلية، أو طائفية أو قومية انطلاقا من أهداف هذا الخارجي في السيطرة والهيمنة والتصرف بالمقدرات. ومع إن الإنسان العربي أو المسلم قد عانى طويلًا -وما زال يعاني- من هذه "الجنسيات" المفروضة عليه من قوى خارجية لا تريد به خيرًا إلا أنه ما زال يواليها، ويدافع عنها ويموت في سبيلها، ولما يظهر بعد أنه قادر على إعادة النظر في هذه "الجنسية" المفروضة عليه واستبدالها بـ"جنسية" مؤصلة لها جذورها في تاريخه ومبرراتها في حاضره.

3-

عجز الإنسان الذي تخرجه هذه المؤسسات عن "تحديد منهاج حياته" في ضوء المتغيرات المعاصرة التي تؤثر في واقعة. فهو ما زال يستورد "مناهج الحياة" كما يستورد أدوات الحياة ووسائلها ومؤنتها. فتارة هو يستورد "الرأسمالية" بتطبيقاتها الإدارية، والتربوية، والاقتصادية، والأمنية،

ص: 91

وتارة يستورد "الاشتراكية" بتطبيقاتها كذلك. وحين تتغير هذه "المستوردات" في مواطنها الأصلية يقع ضحية الحيرة والاضطراب، والتشنج كما حدث حين حدثت التغييرات العقدية، والسياسية في المعسكر الشيوعي على أثر "بروستورايكا" جورباشيف ورفاقه.

4-

عجز الإنسان الذي تخرجه المؤسسات التربوية المذكورة عن "التفاعل مع ماضيه وتراثه" -أي دراسته وهضمه وتطوير ما كان إيجابيا مفيدا في حاضره، واتقاء ما كان سلبيا معوقا لحركته- وإنما يقوم الآخرون بربطه، ووصله بهذا التراث ربطا ووصلًا. ويعتمد نوع "الربط" هذا على -الرابط والمربوط به- أي على الأستاذ الذي يربطه، ونوع الماضي أو التراث الذي يتم ربطه به. فإذا ربطه "الشيخ" أو"الآباء المحافظون" بالجزء الإيجابي من التراث قدس هذا التراث جملة، ونفى عنه كل نقص وصار -إبائيا- مغتربا في ماضيه غافلا عن حاضره. وإذا ربطه "البروفسور" أو"الغرباء المستشرقون" بالجزء السلبي من التراث انقلب على هذا التراث جملة، ونفى عنه كل مزية إيجابية وصار "مغتربا" عن حاضره غافلا عن أصوله.

5-

عجز الإنسان الذي تخرجه المؤسسات التربوية عن "التفاعل مع بيئته الطبيعية"، واستخراج كنوزها وتسخير مواردها لصنع "الوسائل" التي يحتاجها في حاضره والطور الذي يعاصره. وإنما يستقدم "الآخرين" ليقوموا نيابة عنه بالتفاعل مع هذه البيئة، ومقاسمته مصادرها وثرواتها، أو حفر قنوات لها لتصب في خزائن أقوامهم الذين جاءوا من عندهم وهكذا.

6-

قلنا: إن الإرادة السليمة هي ثمرة "وظيفة العقل + المثل الأعلى". أي هي ثمرة القدرات العقلية، ومنهج التفكير السليم + المثل الأعلى. ولكن الذي يحدث في المؤسسات التربوية المعاصرة أن المعادلة تتشكل في الواقع كما يلي:

قدرة على الحفظ + مثل أعلى = إرادة متهورة "تعصب".

ص: 92

ولذلك فالتربية المعاصرة -في أحسن أحوالها- تفرز شعورا دينيا أو شعورا وطنيا ولا تفرز "فقها دينا" أو"فقها وطينا". أي أنها تؤدي إلى -العقم الإرادي- والاغتراب في مثل الماضي والحاضر والإحصاص بالنقص إزاءهما.

7-

قلنا: إن -القدرة التسخيرية- هي ثمرة: "وظيفة العقل + الخبرات". ولكن الذي يحدث في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة هي أن المعادلة تتشكل كما يلي:

قدرة على الحفاظ + الخبرات = قدرة غير تسخيرية.

أي أنها تؤدي إلى ظاهرة "العقم العقلي"، وعدم الاستفادة من الخبرات العلمية والدينية والاجتماعية.

سادسًا: تقدم البحث في القدرات العقلية في التربية الحديثة:

من الإنصاف أن نقول: إن علم النفس الحديث الذي نشأ على أيدي الغربيين قد خطا خطوات هائلة في ميدان البحث المتعلق بالقدرات العقلية، وطرق تنميتها وتصنيفها وقياسها، حيث برزت مئات الأبحاث، والمؤلفات التي أفرزها البحث في هذا المجال.

وتركز البحوث العلمية الحاضرة على المخ البشري، وفي مجال العلوم البيوكيماوية حيث تمكن العلماء من إدراك آليات الذكاء، وفهم عملية التعلم. ولقد تمخضت هذه الاكتشافات عن نتائج مدهشة منها أن نسبة كبيرة من إمكانيات المخ غير مستعملة، حتى إن بعض العلماء يقدرونها على وجه التقريب بحوالي 90%1.

وتقديرًا للأهمية القصوى التي يعلقها المختصون بعلوم الذكاء، والقوى العقلية فإن المراكز المختصة في الجامعات في كل من أمريكا والاتحاد

1 إيدجار فور وزملاؤه، تعلم لتكون، ص164.

ص: 93

السوفياتي قد تخطت عوامل الصراع السياسي -خلال فترة الحرب الباردة- وأقامت علاقات تعاونية في ميدان البحث المتعلق بالذكاء، والقوى العقلية. ويقدر بعض علماء النفس السوفيات أنه لو أتيح للإنسان استعمال 50% "خمسين بالمائة" من قدراته العقلية لاستطاع أن يتعلم "40" أربعين لغة وأن يدرس في فصل واحد مسافات دراسية في عشرات الكليات1.

والهدف الأخير الذي تعمل من أجله هذه الجهود المتكاملة هو رفع مستوى القدرات العقلية عند المتعلم إلى درجة تمكنه من الاستفادة من الإمكانيات العقلية غير المستعملة، وبالتالي رفع درجة التعلم وسرعته، وتطوير أساليب التربية ووسائلها بما يتناسب مع الانفجار المعرفي، والثورة العلمية المتسارعة، وتأهيله في السياسات الدولية الجديدة والعلاقات العالمية المعقدة.

والواقع إن المستوى العالي للقدرات العقلية الناجمة عن العناية التي توليها مؤسسات التربية، والبحث العلمي في الغرب لهذه القدرات، مضافًا لأجواء الحرية التي توفر النمو السليم لهذه القدرات، جعلت الإنسان الغربي -في كثير من التنظيمات الاجتماعية والسياسية- قادرًا على رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس وعلى استثمارها في شئون الإدارة، والسياسات الداخلية والخارجية، والذين يتحررون منهم من "الأغلال" الاجتماعية و"الآصار" الثقافية يبصرون "المثل الأعلى" في آيات الوحي حين تعرض عليهم هذه الآيات، فيعتنقون الإسلام، بينما نرى الإنسان في العالم الإسلامي التقليدي يعاني من عمى كامل عن رؤية آيات الله في الوحي، وعن رؤيتها في الآفاق والأنفس بسبب ما يعانيه من آثار البيئة الخانقة للحرية المانعة لنمو القدرات العقلية. والذين أحسوا بهذه الظاهرة -من أمثال الشيخ محمد عبده- عبروا عن إحساسهم هذا بأمثال القول: وجدنا في الغرب مسلمين بلا إسلام، وفي الشرق إسلام بلا مسلمين.

1 Frank Globe the Third Force، "New york: Pocket Books، 1970"، P.159.

ص: 94