الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
والتربية التقليدية أو المقلدة يكرسان الخبرات غير المربية؛ لأنهما يحلان الحفظ والاستظهار محل التفكر ويصنعان من رءوس المتعلمين مستودعان لقصاصات الماضي أو حاضر مجتمع غريب غير المجتمع القائم، فلا يسهمان في تنمية خبرات جديدة لها أثرها في الواقع القائم، ولها استمرارها في الخبرات التالية:
ثانيا: الخبرات الكونية، والاجتماعية، والدينية
لعله من المناسب أن نقسم الخبرة من حيث ميادينها إلى أقسام ثلاثة: خبرات كونية، وخبرات اجتماعية، وخبرات دينية، وإن كانت الاجتماعية والدينية تمتزجان إلى درجة تجعل منهما قسما واحدا. وفيما يلي تفصيل لكل قسم من الأقسام الثلاثة:
1-
الخبرات الكونية:
العلاقة الجارية بين الإنسان والكون علاقة متبادلة وفاعلة ومستمرة. والذين يتفاعلون مع الكون بوعي وكفاءة، يفرزون خبرات هائلة تترك آثارها العميقة في مسيرة الحياة. أما الذين يمرون على آيات الكون دون أن يحسنوا استعمال طاقاتهم السمعية والبصرية، والعقلية فإنهم يبقون ضحايا الغفلة، والجهل كأن لم يسمعوا أو يبصروا.
والخبرات الكونية المربية هي التي مكنت الإنسان من اكتشاف قوانين الكون، وتسخير خبراته وكنوزه الهائلة الكاشفة عن قدرات الله ونعمه. ومن هنا كانت التوجيهات القرآنية المتكررة التي تأمر بالتوجه إلى الكون، والتفاعل مع مكوناته، من ذلك قوله تعالى:
- {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 182] .
- {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام: 99] .
- {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] .
والتفاعل مع عناصر الكون طبقا لمواصفات الخبرة المربية ثمرته الرئيسية تحرير الإنسان من الخرافة التي يصنعها الجهل بهذا الكون، ونشأته وتكوينه، والقوانين التي تحكمه. كذلك يمد هذا التفاعل الإنسان بالوسائل الفعالة لتسخير عناصر الكون، والاستفادة من خزائنه وثرواته. ويتفرع عن هذه الخبرات الكونية علوم طبيعة متجددة بتجدد المعرفة وتراكم المكتشفات الكونية.
ولكن التفاعل مع الكون يحتاج إلى كمال أدوات المعرفة وتكاملها. أي هو يحتاج إلى اشتراك كل من -الوحي والعقل والحواس- وتكاملها. وكل نقص في هذه الأدوات، أو خلل في تكاملها يؤدي إلى نتائج خطيرة مدمرة. فنقص -الوحي- يقود إلى أخطاء في تفسير المقاصد الكبرى للوجود الكوني، كما هي حال العلوم الحديثة التي أفرزت مسلمات خاطئة مثل مسلمات: الصراع مع الطبيعة، ونظرية النشوء والارتقاء، ونظرية البقاء للأقوى، وبعض نظرياتس التحليل النفسي الفرويدي.
ونقص -العقل- يقود إلى الجمود والتفكير الخوارقي، وإلى اختفاء التفكير السنني -القانوني، وإلى إلغاء دور الإنسان في عملية التغيير التي يقسمها القرآن إلى قسمين: تغيير يقوم به "القوم" من الناس أولًا، وتغيير يقوم به "الله" ثانيًا.
ونقص -الحواس- يقود إلى العجز والكسل، وإلى عدم اكتساب المهارات العملية اللازمة لتيسير حياة الإنسان، وحسن الانتفاع بالتطبيقات
التكنولوجية الناتجة عن الخبرات الكونية، ثم تكون ثمرة هذا النقص مضاعفات الفقر والمرض، والهزيمة التي تعوذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والنقص -في الوحي والعقل- والاقتصار على الحواس يرتد بالإنسان إلى الوقوع في أسر الخراقة، والوهم والردة إلى الصنمية والوثنية، والنكوص على عصور الكهوف والأدوات الحجرية.
ب- الخبرات الاجتماعية:
الاجتماع الإنساني هو تؤأم الكون في مسيرة الوجود المتجدد الخلق، المنظمة التفاعل. وأحداث هذا الاجتماع هي السلسلة الموازية لتجدد خلق الكون1. وحلقات هذه السلسلة حلقات فاعلة، ومنفعلة يتأثر كلها منها بما سبقه ويؤثر فميا يتلوه.
والإنسان هو محور المسيرة الإنسانية وقلبها. وهو حين يتفاعل مع الوجود المشار إليه على أساس من الخبرات المربية، فإنه يقف على قواني هذه المسيرة وآثارها، ويستفيد من ذلك كله في النمو النضج المادي والرشد الحضاري. أما حين يتفاعل مع مسيرة الوجود على أساس من الجهل، والخبرات غير المربية فإنه يصاب بالجمود والوهن الثقافي، والمادي ويؤول إلى الضلال الاجتماعي والحضاري. ولذلك تتكرر التوجيهات القرآنية للخبرات المربية القائمة على النظر في وقائع الاجتماع البشري، وفي قيام المجتمعات وموتها ونشأة الحضارات وانهيارها، ثم الاستفادة من القوانين والسنن التي تؤثر في ذلك كله، والنتائج التي تنتج عن عمل هذه القوانين إيجابا وسلبا. ومن أمثلة هذه التوجيهات ما يلي:
1 الفكر الحديث الذي أفرزته الحضارة الحديثة، يطلق على عملية -التجدد في الخلق- اسم "التطور"؛ لأنه لا يريد الاعتراف بفكرة -الخالق والخلق- ويعاني من عقدة نفسية في هذا الشأن سببها خبراته المؤلمة مع الكنيسة!! وليس البحث العلمي، ونتائج العلم.
- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109] .
- {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] .
- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} [غافر: 82] .
- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد: 10] .
لذلك كان من مهمات التربية الإسلامية أن توجه -إنسانها- إلى النظر في وقائع الاجتماع البشري في الماضي، والحاضر، والمستقبل، وإلى أن يجوب الأرض بحثا عن المواقع التي جرت فيها الوقائع الماضية، فينقب في آثارها لدراستها، وتحليلها واستخلاص الخبرات المربية التي تؤثر في الخبرات التي تتلوها. وعلى التربية الإسلامية، ومؤسساتها أن توجه المتعلم، وتدربه على تحليل وقائع الحاضر لشهود أثر السنن الاجتماعية، وقوانينها وتجنب الاصطدام بها، والتوافق معها لعبور المستقبل واستشرافه.
وتجاهل هذه الوقائع والخبرات كلها له نتائجه المدمرة. فالذين يتجاهلون خبرات الماضي يرتدون إلى كهوف العصر الحجري، والذين يقفون عبد خبرات
الماضي يتوقفون عن التعايش مع الخلق الجديد -المتجدد، والزمن ويعرضون أنفسهم للفناء والدفن في الماضي. والذين يعبثون بخبرات الحاضر- من مداحي
أرباب القوة أرباب القوة، وسحرة أرباب الجاه والثراء1. ويقدمونهم كقوى تحرك التاريخ والاجتماع يصرفون العقول عن
1 في مناسبة الحديث النبوي القائل: "إن من البيان لسحرً" ا، ذم لسحر البيان ونهي عنه، وليس مدحا له كما هو شائع. وهو يتضمن أيضا توجيها هاما جدا: وهو أن -المترفين- الذين يقاومون رسالات الإصلاح في كل عصر، وقطر إنما يجندون لهذه المقاومة -سحرة- يزيفون الحقائق ويصرفون الأبصار والأسماع والعقول عنها، وإن السحرة في الماضي كانوا يسحرون -الحواس- بسحر حسي؛ لأن معجزات الرسل كانت حسية. أما وقد جاءت معجزة الرسالة الإسلامية معجزة فكرية -هي القرآن- فإن السحر الذي سيحاول تزييف حقائقها، وصرف العقول والأبصار والأسماع عنها هو -سحر البيان- الذي يمارسه جيوش من الكتاب والصحفيين، والإعلاميين والمفتين، والفنانين وفقهاء الملوك والرؤساء وأمثالهم.
قوانين الاجتماع البشري ويفسدون أثر الخبرات الاجتماعية المربية، ويحولونها إلى خبرات غير مربية، وينكصون بالإنسان إلى عهد الصنمية والوثنية، وما ينجم عن ذلك من مضاعفات الضعف والتخلف؛ لأن بعض ما تعنيه -الصنمية والوثنية- أن تصرف العقول والأذهان عن فاعلية قوانين الله في الخلق -التي يسميها القرآن السنن- وإسناد هذه الفاعلية إلى مخلوقات من الأشخاص والأشياء.
أما التفاعل الصحيح مع خبرات الماضي والحاضر، والمستقبل فثمرته اهتداء الإنسان إلى قوانين الاجتماع البشري، والاستفادة منها في تسخير القدرات والطاقات الإنسانية لتقويم المسيرة البشرية، ولبناء الحضارات التي ترتقي بالنوع الإنساني، وتجنيبه العثرات والسقوط.
جـ- الخبرات الدينية:
مع أن الخبرات الدينية هي بعض نماذج الخبرات الاجتماعية، إلا أن إفرادها في هذا البحث سببه المكانة العالية، التي تحتلها الخبرات الدينية في سلم الخبرات الاجتماعية. فالخبرات الدينية تحتل مكانة التوجيه، والإرشاد لمسيرة الاجتماع البشري، والتفاعل الإيجابي مع هذه الخبرات يؤدي إلى تكامل الوحي، والعقل والحواس، وإلى رقي الإنسان ونشأة الحضارة، كما أن التفاعل السلبي يؤدي إلى الانشقاق بين الوحي والعقل، والحواس وإلى انحطاط الإنسان، وانهيار الحضارة كما مر في الجزء الأول من هذه السلسلة.
ولعل أهيمة هذا الدور الذي تقوم به الخبرات الدينية هي التي جعلت
-ماسوا- يصنف الخبرات الدينية في خبرات القمة، أو ما أسماه -Peak Experience- ثم مضى ينتقد مناهج العلم، والمعرفة المعاصرة لتجاهلها هذه الخبرات1.
والقرآن فيه دعوة متكررة للتفاعل مع حركة الرسالات الإلهية، والخبرات الدينية بما يشبه دراسة تاريخ الأديان، ومقارنة الأديان، والسير في الأرض لتأسيس علم الآثار الديني لتكون ثمرة ذلك كله الوقوف على حركة التطور الديني التي رافقت تطور الاجتماع البشري، ثم انتهت وبلغت كمالها في الرسالة الإسلامية.
وثمرة هذا المنهج هو تحرير الإنسان من هيمنة -الكهانة والكهان- واكتشاف المسار الحقيقي للخبرة الإنسانية في هذا المجال الحساس، ثم الاستفادة من ذلك كله في استنباط التوجيهات، والإرشادات الدينية اللازمة لعبور المستقبل.
ولذلك فإن الخبرات الدينية التي لا تفيد في هذه الثمرات لا تكون خبرات مربية، وإنما هي من جنس حشو الرءوس بالقصاصات التي تتضمن أخبار الماضين في ميدان الخبرات الدينية.
والخبرات الدينية نوعان:
خبرة دينية أصيلة صادرة عن خالق الكون الواحد الأحد، وأبرز خصائصها أن محور القيم فيها هو "الشريعة فوق القوة"، وبالتالي يكون العلماء، والمفكرون هم -أولو الأمر- في المجتمعات التي توجهها الخبرات الدينية الأصيلة.
وخبرة دينية مقلدة أو -ساحرة- أو غير أصيلة أساسها التأويلات الخاطئة لنصوص الدين الأصيلة أو ابتداع نصوص، أو إخفاء نصوص.
1 دكتور ماجد عرسان الكيلاني، فلسفة التربية الإسلامية، ص49-58.