الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مظاهر الإيواء:
تحتاج التربية الإسلامية إلى تعميق الإحاطة بمظاهر -الإيواء- حسب متطلبات الزمان، والمكان في ضوءس الخطوط العريضة التي يوجه إليها القرآن الكريم. وأهم هذه الخطوط ما يلي:
أولا: تقدير قيمة الأرض واستعمارها بالطرق التي وجه الله إليها
يتكرر التوجيه الإلهي في القرآن الكريم إلى أن الأرض من أعظم نعم الله على الإنسان. والقاعدة الأساسية في الاستفادة من هذه النعمة أن يجد كل إنسان فيها -الإيواء- بمعانيه الشاملة التي مرت، وأن يعطي الجمع الفرصة لاستعمار الأرض والانتفاع بها، وأن لا يجري احتكارها من قبل فئة، أو طبقة أو شعب أو عرق معين. وكل تنظيم للانتفاع بالأرض، ومقدراتها يجب أن ينطلق من هذه القاعدة التي تسعى لتأمين -الإيواء- في الأرض للإنسانية كلها:
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10] .
{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] .
وليتضح -مفهوم الإيواء- وتبين تطبيقاته واضحة جلية، فقد قضت الحكمة الإلهية أن يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة من البشر يدربهم على تطبيق هذا الإيواء، ثم يقدمهم نموذجا محسوسا للإنسانية كلها، وهذه الجماعة المشار إليها هي -الأمة الإسلامية.
ويتكرر ذكر الأرض في القرآن الكريم في 466 موضعًا. أما في الحديث الشريف، فقد احتل ذكرها حيزًا يصعب إحصاء عدده. ويمكن تصنيف التوجيهات القرآنية، والنبوية المتعلقة بالأرض إلى أربعة: التوجيه الأول، هو حسن الانتفاع بالأرض كمكان للإيواء والسكن والاستقرار. والثاني، هو حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش والغذاء. والثالث، اشتراك الإنسانية كلها للانتفاع بموارد الأرض وخيراتها. والرابع، حسن
الانتفاع بالأرض كمختبر من مختبرات المعرفة الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى.
أما تفاصيل هذه التوجيهات فهي كما يلي:
1-
حسن الانتفاع بالأرض كمكان للإيواء والاستقرار:
الأساس في -الإيواء- أن يتوفر لكل إنسان، مهما كان لونه أو جنسه أو عرقه أو دينه، حاجاته في الاستقرار المادي، والنفسي بغية التفرغ لتحقيق حاجة أعلى هي الحاجة لتحقيق الذات المتمثلة في معرفة الخالق، والإيقان بقدرته وطاعته ومحبته، ثم معرفة الحكمة من النشأة والحياة والمصير. ولتحقيق هذا الهدف خلق الله الأرض للأنام، ووضع في تكوينها كل المقومات والصفات التي تسهم في الوصول إلى هذا الهدف وتحقيقه.
ولتحقيق أسباب الاستقرار المادي أحسن الله خلق تضاريس الأرض، وجملها ووفر فيها جميع أسباب الرخاء والراحة، حتى صارت بسهولها وجبالها، ومائها وخضرتها وأجوائها والنباتات والحيوانات، والطيور التي تزينها وتجعل الحياة فيها فراشا ومهدا:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22] .
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [الزخرف: 10] .
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48] .
ولتحقيق أسباب الاستقرار النفسي أرسل الله رسله بالتوجيهات التي ترسخ مقومات هذا الاستقرار وتشيعه. وهذه التوجيهات قسمان: الأول، قيم رئيسة كبرى يتفرع عنها قيم فرعية كثيرة غايتها إشاعة التوافق مع سنن الخلق، وقوانينه لتكون ثمرة هذا التوافق هي الصلاح، والإصلاح المفضيين إلى الاستقرار
وتجسيد -الإيواء- في الأرض. وهذه القيم الرئيسة الكبرى هي:
1-
إشاعة العدل وجعله محور العلاقات البشرية؛ لأن العدل سبب في إرسال الله تعالى للرسل سلام الله عليهم، ومن أجله خلق الله الحديد ليصنع منه السلاح الذي ينصر العدل. وهذا ما يوجه إليه قوله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] .
وأهمية العدل هي أن النفوس الإنسانية -في بيئة العدل- تتصف بالاتزان والموضوعية، وحسن النظر المفضي إلى شهود براهين الإيمان وتعشقه، بعكس الظلم الذي يثير النفور والإحباط، والتطرف والحمية المفضية إلى الكفر.
2-
التواضع في الأرض واتخاذه أساسا لشبكة العلاقات الاجتماعية. وأساسه أمثال قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] .
والهون هو التواضع ولين الجانب، والمشي هو أسلوب الحياة ومناهجها.
3-
التوسط في "إنتاج" موارد الأرض و"استهلاكها". وأساس ذلك أمثال قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] .
والأصل الذي تنبع منه هذه القيم الثلاث الرئيسة، وفروعها الثانوية هو -معرفة- الله -وتوحيده في العبادة أي في المحبة والطاعة.
أما عن -القسم الثاني- من التوجيهات الإلهية فهي التحذير من -منكرات رئيسة كبرى- تقابل القيم الرئيسة الفاضلة التي مر ذكرها. ومن هذه المنكرات تنبع جميع أشكال الإفساد في الأرض، ويهدم استقرار الإنسان. وهذه المنكرات الرئيسة هي:
1-
شيوع الظلم في الأرض وسريانه في العلاقات الإنسانية. ويتكرر التحذير من الظلم وآثاره المدمرة للاستقرار النفسي، والمادي في مواضع كثيرة من القرآن والحديث. ويتفرع عن الظلم مضاعفات ضارة لا حصر لها.
2-
التكبر والعلو في الأرض وما يتفرع عن ذلك من مضاعفات العصبية والعدوان والبطر. ولذلك يتكرر الحديث عن آثار "العلو" في الأرض، وما جره من دمار على الذين اقترفوه. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:
{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4] .
- {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 45، 46] .
- {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] .
- {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] .
- {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] .
- {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] .
3-
الإسراف في "إنتاج" موارد الأرض و"استهلاك" خيراتها، وما يتفرع عن هذا الإسراف من تخريب، وإفساد والبيئة ومصادر نعم الله وإحسانه، ويتكرر التنديد بالإسراف والتبذير ويرد مقترنا بالعلو في الأرض، ويضع أهله في مصاف الشياطين الذين يتركز فيهم غضب الله ومقته.
والمصدر الرئيسي لهذه المنكرات الثلاثة -أو أم المنكر وأشكاله- هو الكفر بالله أو الشرك به، ومعصيته والتنكر لهديه.
ويتكرر التحذير في القرآن الكريم من مغبة الإفساد في الأرض، ومن محاربة رسالات الله التي تهدف إلى إشاعة الصلاح في الأرض، وتوفير مقومات -الإيواء- فيها. وحتى لا تكون التوجيهات الإلهية مجرد توجيهات نظرية كان إخراج الأمة المسلمة كطليعة بشرية تتعهد نشر الإصلاح، ومحاربة الإفساد في الأرض، وتهيئة الأرض كمكان للإيواء بمظاهره المختلفة، وتجسيدا للاسقترار النفسي والمادي الموصل إلى الهدف الكبير -هدف معرفة الله ومحبته وطاعته.
وخلال عمليات -إخراج الأمة المسلمة- والتوجيه إلى عناصرها، ومقوماتها والغاية من إخراجها يحذر الله سبحانه من عواقب التهاون في هذا الإخراج، وإلى أن القصور فيه، أو الانحراف عن أهدافه سيؤدي إلى شيوع الفتن في الأرض، والفساد الكبير أي هدم مقومات الاستقرار ومظاهر الإيواء.
{إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] .
2-
حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش والغذاء:
الأرض أعظم مصادر العيش والحياة بدون منازع. ويعتمد مستقل أية أمة إلى حد كبير على الطريقة التي تستعمل بها الأرض. وحين كان الإنسان يحسن التعايش مع الأرض كانت الحضارات تقوم، وحين يسيء هذا التعايش تنهار الحضارة، وترحل إلى مكان آخر يحسن فيه إنسان آخر التعامل مع الأرض. وهذه قاعدة تنطبق على أكثر من ثلاثين حضارة شاهدتها الأرض1.
1 E.Frtz Schumacher، Small is Beautiful. "New York: Harper & Inc. 1973" PP. 102-103.
والأساس في حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش قاعدتان: الأولى، الإقامة في الأرض حيث تتوفر الحرية -خاصة حرية العبادة:
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت: 56] . أي هاجروا واستقروا حيث تستطيعون عبادتي عبادلة شاملة غير مجزأة، وعبادة متحررة من الضغوط المادية والنفسية والاجتماعية والفكرية. والثانية، حرية السفر في مناكب الأرض كلها للتجارة والعمل. وإلى هذه الحرية الثانية يشير القرآن بتعابير "الضرب في الأرض" و"السعي في مناكبها". وتتكرر هذه الإشارة في كل من سور البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والمزمل.
ولا يجوز أن يحول بين الناس، وبين الضرب في الأرض والسعي في مناكبها والأكل من رزق الله عوائق التقسيمات الجغفراية، والجنسيات العصبية وأيدولوجيات العلو والاستكبار، وأخلاق الجشع والإسراف:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] .
ولا يجوز -أيضا- أن تقف المعتقدات الدينية حواجز مادية مانعة أمام الانتفاع بمصادر العيش في الأرض. ولذلك حين دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يخص "المؤمنين" من ساكني البلد الحرام بالأمن، والثمرات -أي بنعمة الإيواء الأمني والمعيشي- جاءه الجواب الإلهي أن هذا -الإيواء- سوف يتمتع به "الكافرون" أيضا في فترة الحياة الدنيا القليلة، ثم يجزون على كفرهم في نار الآخرة:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126] .
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية1: كان إبراهيم عليه السلام
1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ12، ص30، 31.
احتجرها دون الناس، فأنزل الله عز وجل ومن كفر أيضا، فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقا لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى النار. ثم قرأ ابن عباس:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}
…
ومن نفس المنطلق نزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أبا بكر أن لا يوقف نفقته على من قذف ابنته عائشة أم المؤمنين، ويأمر الأنصار أن لا يوقفوا إنفاقهم على القربى والأنسباء من اليهود الذين لم يستجيبوا للرسالة -كما مر في صفحة سابقة- لأن توفير -الإيواء- للكافر يهيئ له أنه يتفرغ للتأمل في آيات الله، وبراهين قدرته في الآفاق والأنفس.
وتتكرر التوجيهات الإلهية أن يقوم الانتفاع بالأرض كمصدر للعيش على ما تسميه -أكل الحلال والطليب- والتحذير من أساليب الشيطان التي توجه إلى ما تسميه -الحرام الخبيث: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] .
وللانتفاع بخيرات الأرض منهجان لا ثالث لهما: فإما منهج الله في "الحلال الطيب" الذي يفرز مفاهيم في الاقتصاد تهيئ لجميع الناس الانتفاع الجسدي والنفسي والعقلي، وتشيع التعاون والتكافل بينهم، وتوفر للجميع التمتع بـ"الطيب" من الغذاء المؤدي إلى العافية والكرامة، وإما منهج الشيطان في "الحرام الخبيث" الذي يفرز نظريات في -الإنتاج والاستهلاك- تصيب البشر كلهم بالضنك النفسي والجسدي والعقلي، وتشيع الاستغلال والاحتكار، والابتزاز ونهب مقدرات الأفراد والشعوب لصالح أقليات مترفة تاركة للأكثرية الرديء -أو الخبيث- من الغذاء الجالب للأسقام، ومضاعفات المجاعات، والفتن في الأرض والفساد الكبير.
ويوجز الرسول صلى الله عليه وسلم الآثار المتبادلة للمنهجين بقوله:
"ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث"1.
ويفصل الرسول صلى الله عليه وسلم التوجيهات القرآنية المتفرعة عن منهج "الحلال الطيب"، وتطبيقاتها العملية في أحاديث كثيرة جدا يصعب حصرها منها ما يلي:
- "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"2.
- "ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغراس"3.
- "إذا قامت القيامة، وبيدك غرسة فاغرسها"4.
كذلك يوجه صلى الله عليه وسلم إلى وجوب إزالة المعوقات التي تحول دون استثمار الأرض وزراعتها. وأهم هذه المعوقات احتكارها ممن لا يزرعون ولا يعملون.
- "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها، فيلمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه"5.
- "من كانت له أرض فليزعها أو فليحرثها أخاه، وإلا فليدعها"6.
- "وعن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ"7.
1 صحيح البخاري، كتاب الأشربة.
2 صحيح البخاري، كتاب الحرث. ومثله: صحيح مسلم، كتاب المساقاة والمزارعة.
3 مسند أحمد، جـ5، ص415.
4 مسند أحمد، جـ3، ص184، 191.
5 صحيح مسلم "شرح النووي"، جـ10، باب كراء الأرض، ص197.
6 نفس المصدر، ص199.
7 صحيح مسلم، جـ10، باب كراء الأرض، ص197.
وعن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه، فبلغه أن رافع بن خديج يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فدخل عليه وسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع فتركها ابن عمر بعد1.
ويلحق بالمعوقات التي تحول دون الانتفاع بالأرض الاستيلاء عليها ظلما، وعدم
تمكين الآخرين من الاستفادة منها. والتحذيرات النبوية في هذا صارمة وحازمة. منها قوله صلى الله عليه وسلم:
- "من اقتطع أرضا ظالما لقي الله وهو عليه غضبان"2.
- "من أخذ من الأرض شيئا ظلما جاء يوم القيامة يحمل ترابها إلى المحشر"3.
- "من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين"4.
وأبشع أنواع الظلم المعاصر هو استغلال النفوذ للاستيلاء على الأرض، وتحويلها إلى سلعة تجارية باهظة الثمن، لا يقدر على دفعه إلا من أفنى عمره بالكد القاسي في أرداء الأرض كلها من أجل الحصول على مأوى لا يتعدى المائة متر مربع.
ويرتبط بهذه التوجيهات ضرورة قيام التربية الإسلامية بإعادة النظر في مفاهيم التملك المطلق، التي أشاعتها عصور الملك العضوض، والقوانين التي بررت استيلاء أصحاب القوة والسلطان على الأرض رغم أنهم لا يعملون. والتربية -هنا- ملزمة أن تبني أصولها على نصوص القرآن والحديث، وتطبيقات السنة وعصر الراشدين. وكل فهم يستبدل فتاوى "علماء السلاطين
1 مسلم، الصحيح، "شرح النووي"، جـ10، باب كراء الأرض، ص202.
2 مسلم، الصحيح "شرح النووي"، جـ2، كتاب الإيمان.
3 الطبراني، المعجم الكبير، جـ22، ص269، رقم 690.
4 البخاري، الصحيح، كتاب المظالم.
والخلفاء" في الماضي، أو "علماء الملوك والرؤساء" في الحاضر بنصوص الوحي والسنة الصريحة في عدلها وإرشادها، فإنما يندرج تحت قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} . وحينما سئل صلى الله عليه وسلم عن معنى ربوبية الأحبار والرهبان أجاب أنهم أحلوا الحرام، وحرموا الحلال1.
3-
اشتراك الأمة كلها للانتفاع بمصادر الثروة العامة، وعدم احتكارها من قبل فئة أو عائلة أو طبقة:
وهي ما يوجه إليه قوله تعالى:
{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} 2.
وفي تفسير الطبري أن الحكمة من قوله تعالى:
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 3.
إشارة إلى أن المال للأمة مجتمعة، وليس للبعض دون البعض الآخر. فـ"الباطل" هو أن يحتكره البعض دون البعض الآخر، أو يستأثر بوافره دون الآخرين؛ لأن الأصل في مفهوم الأمة المسلمة أنها كالجسد الواحد، وأن الغاية هي توفير أمنها مجتمعة، فإذا ظهر التفاوت، وصار المال دولة بين الأغنياء وحدهم انعكست آثار ذلك على الجميع، ولم ينج من الأمة أحد، وإنما الأمر يختلف بتوقيت الهلاك حيث يهلك المحرومون أولا ثم يتبعهم المحتكرون. فالأصل في المال أنه لله وأن الأمة كلها مستخلفة عليه، ولها مجتمعة حق الانتفاع به شريطة أن لا يخرج مفهوم المال عن كونه "ماعونًا" يعين الناس على إقامة أمور دينهم ودنياهم. وفي تفسير الصحابة لقوله تعالى:
1 الطبري، التفسير، جـ10 "تفسير آية 31 من سورة التوبة"، ص114، 115.
2 سورة الحشر: الآية 7.
3 سورة البقرة: الآية 188.
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .
هناك تفاسير متنوعة تتكامل جميعها لتقرر وجوب انتفاع الأمة كلها بمصادر الثروة، وعدم احتكارها من قبل فئات أو عائلات أو طبقات معينة.
ففريق على رأسه -علي بن أبي طالب- يرون أن الكنز هو كل ما زاد عن أربعة آلاف درهم أوديت فيه الزكاة أم لم تؤد.
وفريق على رأسه -أبو ذر الغفاري، وسالم بن الجعد -يرون أن كل ما زاد من المال عن حاجة صاحبه فهو كنز.
وفريق على رأسه -عبد الله بن عمر- يرون أن -الكنز- هو كل مال وجبت فيه الزكاة ولم تؤد زكاته1، 2.
ولقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعريين نموذجا يجسد -الإيواء- ويمثل التطبيق الأمثل لمبدأ المشاركة العامة بالثروة. والأشعريون هم جماعة من المسلمين ينسب إليهم الصحابي أبو موسى الأشعري. ولقد كان من "فقههم" لـ"الإيواء" والمشاركة العامة في الثروة أنهم لا يكنزون شيئا دون بعضهم البعض. فإذا انتابهم قحط في أيام السلم أو حلت بهم ضائقة اقتصادية في أيام الحرب جمعوا ما عندهم من الماء والغذاء، ثم اقتسموه بالتساوي.
1 الطبري، تفسير البيان، جـ10، ص117-121.
يلاحظ أن مطلع الآية التي تندد بالذين يكنزون الذهب والفضة ابتدأ بتحذير المسلمين من اقتفاء نهج الأحبار والرهبان في هذا الشأن، ثم نددت باللذين يكنزون عامة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .
2 والرأسمالية -التي هي تجسد عملي- لكنز الذهب والفضة والاحتكار نشأت في أحضان المسيحية، وقيمها الاقتصادية ثم امتدت إلى أرجاء العالم كما أشار لذلك باحثون على رأسهم عالم الاجتماع الألماني ماكس وبر Max Weber.
ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم عملهم هذا بقوله:
"إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم" 1، 2.
أي هم على سنتي وهم النموذج الذي يمثل هذه السنة.
ولا شك أن كلا من الآية والحديث المذكورين يشير إلى أن الأصل في الاقتصاد الإسلامي هو ضمان حاجات الأمة مجتمعة. ولذلك يتوجب على التربية الإسلامية أن تضع في محور القيم الاقتصادية التي تميها وجوب الاقتداء بأمثال "فقه الأشعريين" و"فقه علي بن أبي طالب" و"فقه أبي ذر وسالم بن الجعد" من الصحابة بهدف بلورة -علم اقتصاد إسلامي ونظم اقتصادية إسلامية قادرة على إعادة التوازن في حاجات الأمة، كلما نزلت بالأمة أزمات اقتصادية أو حدثت في صفوفها فروق طبقية، وهو الأمر الذي عزم الخليفة عمر بن الخطاب على فعله حينما قال: عزمت على أخذ فضول أموال أغنيائهم ورها إلى فقرائهم.
والواقع أن تربية الرسول صلى الله عليه وسلم للمجتمع الذي بناه قامت على جعل هذا التوازن الاقتصادي محور الحياة الاجتماعية؛ لأنه يجسد المظهر الاجتماعي للعبادة. وهذا المظهر هو محور صدق العبادة كما تم تفصيل ذلك في كتاب -فلسفة التربية الإسلامية- والأمثلة لهذه السياسة النبوية كثيرا جدًّا. ومن أمثلتها قوله صلى الله عليه وسلم:
1 صحيح مسلم "شرح النووي" جـ16، كتاب فضائل الصحابة.
صحيح البخاري، كتاب المغازي.
2 لا بد للتربية الإسلامية وهي تعمل على رسوخ القيم الاقتصادية العادلة أن تراعي ظروف الزمان، والمكان فيما يخص تطبيق هذه القيم. فإذا كانت وسيلة الأشعريين في التطبيق قد ناسبت مجتمع المدينة الصغير، فإنه تعقيد العلاقات، واتساع المجتمعات يستدعي وسائل مناسبة شريطة الحفاظ على روح المبدأ المشار إليه.
"المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار" 1، 2.
والإشارة إلى الموارد الثلاث بالأسماء الواردة في الحديث، إنما هي إشارة إلى مقومات الحياة الرئيسية في تلك البيئة الصحراوية في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الإسلامي. فإذا تبدلت البيئة، وتطورت المرحلة انسحبت حكم الشراكة على -مقومات الحياة الرئيسية- للعيش فيها أيضا. إذ الأساس في -الإيواء- هو توفير الأمن الاقتصادي والاجتماعي المفضي إلى الأمن الديني في مهجر الأمة. وكل ملكية فردية تزول وتتحول إلى الأمة إذا قامت الحاجة لذلك. ومن توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك:
- "كل شيء سوى جلف هذا الطعام، والماء العذب، أو بيت يظله فضل ليس لابن آدم فيه حق"3.
- "ما عظمت نعمة الله على عبد إلا اشتد عليه مئونة الناس، فمن لم يحتمل تلك المئونة للناس، فقد عرض تلك النعمة للزوال"4.
- "إن لله أقواما يختصهم بالنعم لمنافع العباد، ويقرها فيهم ما بذلوها إلى غيرهم. فإذا منعوهم نزعها منهم فحولها إلى غيرهم"5.
1 مسند أحمد "تحقيق الساعاتي"، جـ15، ص132، رقم 23.
2 لقد حض الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم بيع الماء، ونهى عن حجب الزائد منه في عدة أحاديث، ولقد أورد البخاري في كتاب الحرث، ومسلم في كتاب المساقاة، والمزارعة مثل هذه التوجيهات، منها قول جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضراب الجمل، وعن بيع الماء، والأرض لتحرث. أي تؤجر لتزرع.
وفي حديث آخر:
"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم. رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب. ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم. ورجل منه فضل ماء فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت ما لم تعمل يداك".
3 كنز العمال، جـ3، ص398 نقلًا عن الطبراني في الكبير.
4 كنز العمال، جـ6، ص347 نقلا عن البيهقي في شعب الإيمان.
5 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ6، ص350 نقلا عن الطبراني في الكبير، والحلية لأبي نعيم.
- "إن إبليس يبعث أشد أصحابه، وأقوى أصحابه إلى من يصنع المعروف في ماله"1.
4-
حسن الانتفاع بالأرض كمصدر للمعرفة الموصلة إلى الله تعالى:
إن مظاهر الانتفاع بالأرض التي مرت في البنود "1، 2، 3" ليست أهدافا نهائية في ذاتها، وإنما هي أهداف خاصة تفضي إلى هدف عام أكبر وهو -حسن الانتفاع بالأرض باعتبارها أحد مختبرات الآفاق، والأنفس التي يشاهد الإنسان فيها معجزات الله في خلقه وشواهد ربوبيته، وبراهين توحيده في الطاعة والمحبة والولاية. وإلى هذا الهدف العام الكبير يوجه أمثال قوله تعالى:
{إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] .
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] .
وتتنوع مظاهر المعرفة التي يوجه القرآن إلى ميادينها في الأرض:
فهناك توجيهات إلى علوم "أصل الأنواع" ونشأة المخلوقات. والطريقة التي يرشد إليه القرآن في هذا الميدان هي السير في الأرض، ودراسة ما على سطحها من كائنات ومخلوقات:
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] .
وهذا المنهج طبقه -دارون- حين سار في الأرض مبتدأ من جنوب أمريكا الجنوبية، ولكنه -بسبب منهج المعرفة الذي يفصل بين الوحي والعقل والحواس- ضل الفهم وأخطأ تفسير ظواهر الخلق التي درسها، واليوم يكتشف العلماء الكثير من أخطاء دارون، ومنهجه في البحث، ولكن يبدو أنه اكتشاف متأخر؛ لأن آثار أخطار دارون قد ترسخت في تطبيقات أفكاره في
1 المصدر نفسه، ص349 نقلا عن الطبراني في الكبير.
السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية والأخلاق والقيم، وأفرزت آثارا مدمرة
في حياة الفرد وعلاقات الجماعات.
وهناك توجيهات إلى مختلف العلوم الطبيعية المتعلقة بالأرض، والكواكب وما على الأرض من كائنات حية وجامدة. ومن أمثال هذه التوجيهات:
- {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] .
ولقد اكتشف البشرية بعض أدوات هذا الإمساك المتمثلة في الجاذبية وقوانينها، ولكن افتقارها لتوجيهات الوحي أعمالًا عن -الحق- في هذا الاكتشاف.
- {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} [الزمر: 5] .
وهناك توجيهات إلى علوم الاجتماع البشري الذي جرى على الأرض، ودعوة للتنقيب في آثار المجتمعات السابقة، واكتشاف الأسباب التي أدت إلى انهيارها، وعمل سنن الله فيها:
وخلال هذه التوجيه يلفت القرآن الكريم الانتباه إلى أن كثيرًا من الأجيال السابقة قد عمرت الأرض، وجعلت العلوم التي ساعدتها على التمكين في الأرض غاية بذاتها، وفرحت بها وتكبرت وبطرت وانصرفت عن الغاية الكبرى
-وهي طاعة الله وتجسيد هذه الطاعة في- الإصلاح في الأرض -فكان مصيرها أن نزل بها ما كانت تستهزئ بالآخرين منه من ضعف، وتخلف وانهيار. وهذا هو الخطر الذي يتهدد الحضارة الحديثة التي فتنها التقدم العلمي والتكنولوجي فراحت تحارب الله ورسله في كل الميادين، وترتكب نفس الخطأ في الفرع بالعلم، والوقوف عند ثمراته المادية دون الانتقال إلى غاياته الإيمانية.
وتتكرر الدعوة إلى السير في الأرض شريطة أن تكون غايات هذا السير استعمال أدوات المعرفة من العقل والسمع، والبصر للبحث عن مظاهر الحق خلق الأرض لا سير الغافلين عما يرون ويسمعون، الباحثين عن المتع الدنسة، والشهوات الهابطة:
والمحصلة النهائية لهذا السير في الأرض والبحث في خلقها، وما عليها والأحداث التي جرت فوقها هي تخريج نوع من البشر يبقون في -قراءة- دائمة لآيات الآفاق والأنفس، وذكر دائم جوهره:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] .
ثانيًا: تقدير قيمة العمل اليدوي، وتربية المسلم عليه وتدريبه على مهاراته:
لا بد للتربية الإسلامية أن تجتهد في تنمية حب العمل -خاصة اليدوي منه- وجعله من محاور القيم في الأمة، واعتباره الوسيلة الكريمة للعيش الكريم حتى لا يفسح المجال للوسائل غير الكريمة، التي تنال من عنصر -الإيواء- وتفسده. ولا بد للتربية الإسلامية أن تنفر من العجز والكسل اللذين عززهما قيم العصبية القبلية التي تجيز الغزو، وتحتقر العمل وتجعله من مهام الخدم، والعبيد والمستضعفين. فالعجز مبغوض من الله ورسوله. ومن أمثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله عز وجل ليلوم على العجز، قابل من نفسك الجهد، فإن غلبت فقل: توكلت على الله وحسبي الله ونعم الوكيل"1.
وقوله أيضا: "خير الكسب كسب يدي العامل إذا نصح"2.
وقوله كذلك: "إن الله يحب المؤمن المحترف"3.
وسئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أزكى؟ قال: "كسب المرء بيده"4.
وعن أنس بن مالك قال:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الفاقة. ثم رجع فقال يا رسول الله: لقد جئتك من عند أهل بيت ما أراني أرجع إليهم حتى يموت بعضهم! قال فقال له:
- "انطلق هل تجد من شيء"!
1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ8، ص112، رقم 7475.
2 البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، جـ3، ص434.
3 البيهقي، نفس المصدر والصفحة.
4 البيهقي، نفس المصدر، جـ3، ص437.
قال: فانطلق فجاء بحلس وقدح، فقال: يا رسول الله هذا الحلس كانوا يفترشون بعضه ويكتسون بعضه، وهذا القدح كانوا يشربون فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- "من يأخذهما مني بدرهم"!
فقال رجل: أنا يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- "من يزيد على درهم"!
فقال رجل: أنا آخذهما باثنين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- "هما لك"!
فدعا الرجل فقال له:
- "اشتر بدرهم فأسا وبدرهم طعاما لأهلك"!
قال: ففعل، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:
- "انطلق إلى هذا الواي فلا تدع حاجا، ولا شوكا ولا حطبا، ولا تأتيني خمسة عشر يومًا! "الحاج: نوع من الشوك".
قال: فانطلق فأصاب عشرة دراهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- "فانطلق فاشتر بخمسة طعام لأهلك، وبخمسة كسوة لأهلك"!
فقال: يا رسول الله بارك الله في فيما أمرتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
- "هذا خير من أن تجيء يوم القيامة وفي وجهك نكتة المسألة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي دم موجع، أو عزم مفظع، أو فقر مدقع" 1!
ولا بد للتربية الإسلامية أن تزكي القيم الاجتماعية من المفاهيم
1 البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، جـ3، ص404.
الخاطئة للزهد التي عززت الرضى بالفقر، وجعلته من سمات الصلاح والصالحين. فالمؤمنون مدعوون -في القرآن- للسعي في مناكب الأرض -أي مراكز الثقل الاقتصادي فيها- لجمع المال، فإذا جمعوه بالأساليب المشروعة الكريمة زهدوا به فأنفقوه وانتفعوا به، ونفعوا غيرهم بالأساليب المشروعة التي تحفظ الكرامات، ولا توقع تحت ضغوط الفاقة والحاجة. فهذا هو مفهوم الزهد الذي وجه إليه صلى الله عليه وسلم حين علم أصحابه أن الزهد ليس بإضاعة المال، وتحريم الحلال وإنما الزهد أن يكون المؤمن أوثقف بما في يد الله مما في يده، فيعتدل في جمعه ويسهل عليه إنفاقه1.
وتتكرر التوجيهات النبوية في هذا المجال حتى لا تدع مجالا للغموض أو اللبس. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
- "خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلا على الناس".
- "من استطاع منكم أن يقي دينه وعرضه بماله فليفعل".
- "إن الفاقة لأصحابي سعادة، وإن الغنى للمؤمنين في آخر الزمان سعادة".
- "يا جابر لا عليك أن تمسك عليك ما لك فإن لهذا الأمر مدة"2.
- "يأتي على الناس زمان من لم يكن معه أصفر ولا أبيض لم يتهن للعيش".
- "إذا كان آخر الزمان لا بد للناس فيها من الدراهم، والدنانير يقيم الرجل بها دينه ودنياه"3.
1 الترمذي، السننن كتاب الزهد، ابن ماجه، السنن، كتاب الزهد.
2 المتقي الهندي، كنز العمال، جـ3، ص238-240.
3 الطبراني، المعجم الكبير، جـ20، ص278، 279، رقم 659، 660.
ولقد وعى فقهاء الصحابة هذه التوجيهات، فعملوا على إشاعتها وتدريب الرعية عليها. أتى عمر بن الخطاب على قوم فقال: ما أنتم؟ فقالوا: نحن المتوكلون، فقال: بل أنتم المتكلون "أي المتكلون على أموال الناس". ألا أخبركم بالمتوكلين؟ رجل ألقى حبه في بطن الأرض ثم توكل على ربه1!
وعن عمر أيضا أنه قال:
يا معشر القراء! ارفعوا رءوسكم فقد اتضح الطريق، استبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالًا على المسلمين2.
وعن نافع قال: دخل شاب قوي المسجد، وفي يده مشاقص "نصل سهم" وهو يقول: من يعينني في سبيل الله؟ قال: فدعا به عمر فأتي به فقال: من يستأجر مني هذا يعمل في أرضه؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا أمير المؤمنين! قال: بكم تأجره كل شهر؟ قال: بكذا وكذا. قال عمر: خذه فانطلق به. فعمل في أرض الرجال أشهرا، ثم قال عمر للرجل: ما فعل أجيرنا؟ قال: صالح يا أمير المؤمنين. قال: ائتني به وبما اجتمع له من الأجر! فجاء به وبصرة من دراهم. فقال عمر للشاب: خذه هذه فإن شئت الآن فاغز، وإن شئت فاجلس3!
كذلك وعى هذه المفاهيم بعوث المسلمين الثقافية، وعلموها للشعوب التي خرجوا إليها. من ذلك ما وجه إليه معاذ بن جبل معلم الشام، واليمن حين قال:
"يا ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج. فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا فانتظمها
1 البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، جـ3، ص417، 418.
2 البيهقي، نفس المصدر والجزء، ص418.
3 البيهقي، نفس المصدر والجزء، ص419.
انتظامًا، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة، وأنت من الدنيا على خطر"1.
ومثله ما وجه إليه علي بن عتام حين قال:
"ما أحب إلي أن يكون المسلم محترفا. فإن المسلم إذا احتاج أول ما يبذل دينه"2.
والواقع إن القعود عن العمل وجمع المال والسيطرة على موارده من قبل غير المؤمنين أضر بالإسلام والمسلمين، والناس أجمعين في الداخل والخارج. ففي الداخل أخرس ألسنة العلماء عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وعن مواجهة الظالم بظلمه، بل تحول الكثير منهم إلى أدوات تبرر الظلم وتسوغه. أما في الخارج فإن حاجة الشعوب والأمم إلى المال أجبرتها في كثير من المواقف، والسياسات إلى التنازل عن كراماتها واستقلال، وقيمها في الفضائل الإنسانية.
والمترفون عادة يجزئون مفهوم الدين -من خلال علمائهم أو سحرتهم- فيفصلون بين المظهر الديني للعبادة، وبين المظهر الاجتماعي، ويفرغون المصطلحات الدينية من محتوياتها الاجتماعية، ثم يؤولونها بمعان غيبية لا علاقة لها بالواقع، ويصرفون الأفهام عن "الأعمال" إلى "الأشكال"، ويجعلون الزهد رضا بالفقر والفاقة وانتظارا لنعيم الآخرة وعدلها، والمخدوعون لا يفطنون إلى أن سد هذه الحاجات الدنيوية يهدم هذا الجسر، فيسقط في جهنم الدنيا والآخرة سواء. ولذلك دعا إبراهيم عليه السلام أن يرزق الله ذريته التي أسكنها بواد غير ذي زرع من الثمرات، لعلهم يشكرون ويصلون ويسبحون.
1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب الجهاد، جـ28، ص396.
2 البيهقي، الجامع لشعب الإيمان، جـ3، ص437.
ولا بد للتربية أن تتوسع في تشخيص -المشورات المدمرة- التي قدمها خبراء التربية الغربيين للأقطار الإسلامية في العصر الحديث، وكان من ثمارها تنظيم المناهج وبناء آلاف المدارس، والجامعات التي تخرج الآلاف من المختصين بتحليل شعر بعر الآرام، ووصف المواقد ومرابض الجمال، والغزل والمدح والتشبيب، وتاريخ الغزوات القبلية، والفتن بينما لم يؤسسوا إلا مدرسة زراعية أو صناعية واحدة تقام في زاوية معزولة من زوايا القطر النائية، ثم لا يجد خريجوها العمل ولا الاحترام، ويكونون عينة مرعبة لما سيكون عليه المتخصص في الزراعة أو الصناعة.
ومثلها مشورات خبراء الإدارة التي كدست آلاف الموظفين في الدوائر الحكومية، ليتقاسموا أعمالًا روتينية يمكن أن تقوم بها حفنة قليلة منهم. ومثلها مشورات الخبراء العسكريين التي كدست مئات الألوف من أبناء القرى، والبادية في المعسكرات ولا عمل لهم إلا طوابير الصباح والتفيش على الأحذية الملمعة، والذوقون المحلوقة الناعمة والقبات المكوية. وتظل جميع هذه الفئات فريسة العجز، والكسل بانتظار آخر الشهر لاستلام رواتب ورقية لم يعرقوا من أجلها قطرة من عرق. فكانت نتائج تلك المشورات كلها اقتلاع المسلم المعاصر من الأرض، ثم تحويله -في أحسن أحواله- إلى رقيق متجول في الأقطار بحثا عن رزق "الوظيفة" المحدود. أما الأغلبية الساحقة من أقطار المسلمين، فقد تحولت إلى مستودعات تعج بالجائعين الذين ينتظرون قوافل الإعانات الدولية، وهيئات الإغاثة والجمعيات التبشيرية.
ثالثا: والمظهر الثالث لعنصر "الإيواء" هو تنمية قيم الاستقرار والزواج، وتكوين الأسر، وما يتفرع عن ذلك من توفير للسكن، ووسائل المواصلات واعتبار الموجود منها في عداد الملكية العامة إذا اقتضت الظروف ذلك:
وتقدم التوجيهات النبوية أصولًا لمثل هذه القيم من ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم:
"من كان معه فضل ظهر، فليعد به على من لا ظهر له. ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له"
…
قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"1.
وفي موقف أخرى يحذر صلى الله عليه وسلم من مستقبل الاحتكار في وسائل النقل وفي المسكن. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"تكون إبل للشيطان، وبيوت للشياطين. فأما إبل الشياطين فقد رأيتها. يخرج أحدكم بجنيبات معه قد أسمنها فلا يعلو بعيرا منها، ويمر بأخيه قد انقطع به فلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فلم أرها"2.
والإشارة إلى الإبل رمز لوسائل المواصلات، وهي تتغير بتغير العصور وتقدم التكنولوجيا ومثلها الإشارة إلى البيوت. ومعنى -لم أرها- أي لم توجد زمن الرسول، وإنما ستأتي في أزمان بعده حين يحتكر المأوى، ويمتلك أناس عشرات المنازل الفارغة، والمباني الشاهقة بينما ملايين المسلمين يأوون إلى الخرائب، ويفترشون الطرقات، وتكون هجراتهم في الأرض في سيبل المأوى والغذاء.
غير أن بناء المساكن وإقامة المباني في القيم الإسلامية محدودة بحدود الغايات الكبرى من -الإيواء. فالبناء يكون في قمة الأعمال الصالحة إذا كان الهدف منه إيواء المحتاجين للمأوى، وجمع قلوب الأمة على الصلاح والعدل والتعاون.
ومن هذا المنطلق كان الترغيب في بناء المساجد، والبنايات التي يأوي إليها المحتاجون والتوجيهات النبوية في ذلك كثيرة ومتنوعة. من ذلك قوله:
- "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتًا في الجنة"3.
1 مسلم، الصحيح، "شرح النووي"، جـ12، ص33.
2 أبو داود، السنن، جـ3، باب الجهاد، ص39.
3 صحيح مسلم، فضل بناء المساجد، باب الزهد.
صحيح البخاري، باب الصلاة، باب التطوع.
- "وإن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما ينشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحق من بعد موته"1.
أما أن تكون المساكن والأبنية إظهارا للعلو في الأرض، وتجسيدًا للطبقية والترف، وتمييزا للأغنياء عن الفقراء، وتعطيلًا لمساحات واسعة من الأرض عن الزراعة والغرس، فذلك عبث ولهو طائش من يقترفه خارج عن تقوى الله وطاعته.
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 128-131] .
ولقد فسر ابن عباس وتلميذه مجاهد: الريع، بأنه كل مكان مشرف من الأرض مرتفع. والآية: البنيان. والعبث، البناء لمجرد التفاخر. والمصانع: القصور المشيدة2.
والرسول صلى الله عليه وسلم يجرد من الأجر كل إنفاق على البناء الذي لا حاجة له، أو يستهدف الزينة والمباهاة. من ذلك قوله:
- "النفقة كلها في سبيل الله إلا البناء، فلا خير فيه"3.
وعن قيس بن أبي حازم، قال: إنهم دخلوا على الصحابي -خباب- وهو يبني حائطا فقال: إن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب4.
ولذلك ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حين يذهب العلم ويفشو الجهل، فإن
1 سنن ابن ماجه، المقدمة.
2 الطبري، التفسير، جـ19، ص94، 95. تفسير ابن كثير: تفسير سورة الشعراء.
3 الترمذي، السنن، باب القيامة.
4 صحيح مسلم، كتاب الإيمان، الترمذي، السنن، كتاب القيامة.
الناس يتنافسون في تشييد البناء تفاخرا ولهوا، حتى إن سكان الخيام في البادية يشاركون في هذه المنافسة. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
- "من أشراط الساعة إذا تطاول رعاء البهم في البنيان"1.
- "وإذا رأيت الحفاة العراة، الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها، وإذا رأيت رعاء البهم يتطاولون في البنيان فذاك من أشراطها"2.
رابعا: والمظهر الرابع لـ"الإيواء" هو حرمة إقامة الإنسان وعدم طرده أو نفيه من مكان -إيوائه:
فالقرآن الكريم يشدد على -حرمة الإيواء- وعدم إخراج الإنسان من سكنه، وموضع استقراره بسبب الخصومات التي تثيرها اختلافات الرأي، أو الولاءات العصبية والانتماءات الحزبية أو المصالح المختلفة. من ذلك قوله تعالى:
ولقد استعرض الطبري تفاسير الصحابة، وتلاميذهم لهذه الآية فذكر إن قتل الرجل رجلًا آخر مثل قتل الرجل نفسه. وإن إخراج الرجل رجلا آخر من مكان إيوائه كإخراجه لنفسه؛ لأن الأمة بمنزلة رجل واحد كما قال عليه الصلاة والسلام، وإنهم في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
ويضيف الطبري نقلا عن قتادة قوله في الآية: أي لا يقتل بعضكم بعضا، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} . ونفسك يا ابن آدم أهل ملتك -
1 صحيح البخاري، كتاب الاستئذان. وكرره في كتاب الفتن، وكتاب الإيمان.
2 صحيح مسلم، كتاب الإيمان.
أي أمتك. وعن أبي العالية في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} أي لا يقتل بعضكم بعضا، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار1.
وتتضاعف خطورة نفي الإنسان، وإخراجه من مكان إيوائه إذا كان المنفيون من الرسل والدعاة ورجال الفكر، والعلم الذين يكرسون جهودهم لإصلاح ما
أفسد الناس. وإلى هذه الخطورة كانت الإشارة في قوله تعالى:
هذه هي سنة الله التي مضت في جميع الرسالات من قبل، وهي سنة ماضية مستمرة، فحين تخرج الأمم رسلها ودعاتها، وتنفيهم ينزل بها العذاب المدمر، ولن تجد لسنة الله هذه تحويلًا. وعن ابن عباس: إنها نزلت في أهل مكة حين أخرجوا الرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه، فعذبهم الله بعد قليل من
إخراجه بقتلهم يوم بدر2.
خامسا: والمظهر الخامس لـ"الإيواء" هو الربط بين الأمن المعيشي، والأمن الديني
يقترن الأمن المعيشي بالأمن الديني اقتران الوسيلة بالهدف. فإذا انهدمت الوسيلة، وتعطلت فاعليتها صعب تحقيق الهدف. ولذلك يوجه القرآن الكريم -في دعاء إبراهيم عليه السلام إلى أن توفر الأمن المعيشي، والأمن الاجتماعي سبب في عبادة الله وشكره:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا
1 الطبري، التفسير، جـ1، ص394.
2 الطبري، التفسير، تفسير سورة الإسراء "آية 76، 77"، جـ15، ص133.
لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] .
وتتكرر توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العلاقة بين العبادة والأمن المعيشي من ذلك ما يرويه أبو واقد الليثي حيث قال:
"كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل علينا فيحدثنا. فقال لنا ذات يوم: "إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان. ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ثم يتوب الله على من تاب" 1.
وعند تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} .
قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما -وقرأ الآية- وأبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!
وعن عبد الله بن مسعود قال: أمرتم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له2!
فالصلاة -إذن- لا تقوم معانيها في واقع الحياة إلا إذا اقترنت بإيتاء الزكاة، والرسول صلى الله عليه وسلم يربط -أيضًا- بين الأمن المعيشي وبني شفاء الإنسان من الجريمة، والشح، والانحراف. وكأن الأمة المسلمة مسئولة عن توفير الوسائل والمأوى اللذين يوفران للمجرمين، والمنحرفين الشفاء من أمراضهم
وانحرافاتهم من خلال تلبية حاجتهم التي أدت بهم إلى الانحراف. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل: لأتصدقن بصدقة. فخرج
1 مسند أحمد "شرح الساعاتي"، جـ5، ص219، الاتحافات السنية بالأحاديث القدسية، نقلا عن أحمد والطبراني في الكبير.
2 الطبري، التفسير، جـ10، ص87.
بصدقته فوضعها في يد سارق. فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق. قال: اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة! فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية. فأصبحوا يتحدثون تصدق على زانية. فقال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقة فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني، فأتي فقيل له: أما صدقتك عن سارق، فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله" 1.
سادسًا: والمظهر السادس لـ"الإيواء" هو الربط بين الإيواء، والفاعلية السياسية والإدارية:
وحتى يصبح -الإيواء- حقيقة قائمة في الحياة الاجتماعية لا بد من توفير الضمانات الكافية له، وعلى رأسها الوسائل الإدارية، والسياسية التي تضمن للإيواء تحققه واستمراره، ولقد اعتمد تنفيذه في صدر الإسلام على تقوى الحاكم ورسوخه في علمه. من ذلك ما قام به أبو بكر الصديق من رفض حازم لعرض المرتدين لآداء الصلاة دون الزكاة حتى لا تتعطل فاعلية الصلاة في حياة الناس، وتتحول تحت ضغط الحاجات المادية إلى طقوس، وحركات شكلية.
ومثله عمر بن الخطاب الذي حرص على أن لا يتميز الخلفاء، والولادة عن غيرهم في مظاهر العيش. من ذلك كتابه إلى أبي موسى الأشعري الذي جاء فيه:
"إنما أنت رجل منهم " أي من المسلمين". غير إن الله جعلك أثقلهم حملًا. وقد بلغني أنه نشأ لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك، ومطعمك ومركبك، ليس للمسلمين مثلها. فإياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة مرت بواد خصب فلم يكن لها هم إلا التسمن، وإنما حتفها في السمن،
1 صحيح البخاري، باب الزكاة.
واعلم إن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من شقيت به رعيته"1.
وحين كتب إليه عمرو بن العاص من مصر:
"إنا قد خططنا لك دارًا عند المسجد الجامع! ".
رد عليه الخليفة عمر قائلًا:
"أنى لرجل من الحجاز تكون له دار بمصر؟ " وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين"2.
ثم حدد صلاحية الحاكم بالنسبة لمال الأمة بقوله:
"إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت"3.
وفي رواية أخرى:
"يحل لولي الأمر ما يحل لولي اليتيم، من كان غنيا فليستعف، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف"4.
ومثله ما فقهه علي بن أبي طالب حين قال:
"إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم، وإن جاعوا وعروا وجهدوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه"5.
ولكن التاريخ أثبت إن هذا الحرص الذي التزمه أبو بكر، والاستعفاف
1 كنز العمال، جـ5، ص696 نقلا عن الدينوري.
2 كنز العمال، جـ5، ص687 نقلا عن تاريخ مصر لابن عبد الحكم.
3 الطبري، التفسير، جـ4، ص255.
4 الطبري، نفس المصدر والجزء، ص258.
5 كنز العمال، جـ6، ص528 نقلا عن سنن البيهقي.
الذي تحلى به الخليفة عمر، والحس الاجتماعي العادل المرهف الذي أوتيه علي رضي الله عنهم لم يتصف به إلا أبو بكر وعمر، وعلي ونفر لم يتعد أصابع اليد. لذلك لا يجوز أن يترك مصير "الإيواء" المعيشي والاجتماعي لتقوى الحاكمين ومشيئتهم، وإنما لا بد أن توجه التربية إلى صون هذا الإيواء وحمايته بالتشريعات، والمؤسسات التي تقيد يد الحاكم، وتجعله عرضة للاستجواب والاستفسار والمحاكمة إن أتى ما يخرق هذا الحرص والاستعفاف والتشريع.
كذلك لا يجوز أن تترك صدقات الفقراء لمشيئة الأغنياء، ليبذلوا الفضلات والفتات والدراهم، والقروش التي لا تسد حاجة ولا توقف عوزا، وإنما لا بد من التشريعات، وضرائب الضمان الاجتماعي التي توفر حاجة الأمة في "الإيواء" بالأساليب الكريمة، التي لا تناول من كرامات الناس، ولا تعرضهم للمن والأذى إذا لم تكف الزكاة لذلك1.
سابعًا: والمظهر السابع للإيواء هو تكامل أقاليم الأرض التي تقطنها الأمة المسلمة -سواء بالوحدة أو الاتحاد
وأهمية هذا التكامل أنه بدونه يستحيل تحقيق الإيواء، وتجسيد تطبيقاته في الأمن المعيشي والأمن الديني، ويستحيل بناء الحضارة الإسلامية، ونجاح مشروعات التنمية. والسبب إن الحضارة -أية حضارة- لا تقوم ولا تزدهر إلا على رقعات الأرض الكبيرة الواسعة. ويقدم التاريخ في الماضي
1 من الموضوعية أن نقول: أن التربية في دول الغرب والشرق -غير المسلمة- قد نجحت في رفع درجة الغيرة على "الإيواء"، وحمايته من تطاول الأقوياء وأصحاب السلطان. في حين روضت مؤسسات التربية والإعلام في العالم الإسلامي -الإنسان- للرضى بقيم العصبية القبلية التي تطلق أيدي الملوك، والرؤساء في مال الأمة فتنفقه كيف تشاء، وتهب من تشاء، وتحرم من تشاء، وإذا راموا بالقليل لأهل الحاجة أشادت مؤسسات التربية، والإعلام بهذه "المكرمات" الملكية والرئاسية، وأطلقت حناجر الشعراء والمفتين والإعلاميين والمغنين والناشئة، واليافعين بالأناشيد والثناء على هذه "المكرمات" والإشادة بها.
والحاضر البراهين الساطعة لذلك. ففي الماضي مهدت الفتوحات اليونانية والرومانية، ومن قبلها إلى قيام حضارات هذه الأمم، كذلك مهد الفتح الإسلامي -الذي وحد رقعة واسعة امتدت من شرق آسيا حتى غرب أفريقا وجنوب أوربا- إلى قيام الحضارة الإسلامية وازدهارها. وحين عملت معاول العصبيات القبلية، والعرقية، والطائفية عملها، وجزأت العالم الإسلامي إلى دول متناحرة وأقاليم مراقبة الأبواب والحدود توقف المد الحضاري، ثم انحسر ثم جمد ثم انهار.
وفي الحاضر يقدم تاريخ الأقطار الإسلامية الحديثة براهين مماثلة كذلك. فهذه الأقطار التي حرصت -وما زالت تحرص- على تكريس التجزئة، واختراع الكثير من قوانين السفر، والإقامة والعمل التي توفر لهذه التجزئة الدوام والفاعلية، وقعت جميعها تحت غوائل الضعف السياسي، والديون الاقتصادية والاضطراب الاجتماعي رغم ضخامة مصادرها البشرية وثرواتها الطبيعية، وظلت حبيسة التخلف رغم محاولاتها المتكررة للتقدم، والتي مر عليها أكثر من قرنين حتى الآن.
كما أن النظر في حاضر الأمم الحديثة الأخرى يقدم الشواهد البينة للعلاقة المتلازمة بين اتساع الوحدات الجغرافية، وقيام الحضارات وازدهارها. فالأقطار التي توحدت أو اتحدت -كما هو الحال في أمريكا وأوربا، والصين واليابان- وفرت "الإيواء" لشعوبها بمختلف مظاهره وأشكاله. فقد وفرت "الإيواء الفكري والعلمي" لعلمائها وطلابها، ووفرت "الإيواء الاقتصادي" لرساميلها وصناعاتها وتجاراتها وثرواتها، ووفرت "الإيواء المعيشي والأمني" لشعوبها. بل إن توفير هذا الإيواء كان عاملا قويا في جذب العلماء، والمبدعين في جميع الكفاءات والمؤهلات من الأقطار الأخرى. وكان من ثمار ذلك كله أن يسرت للحضارة فيها أن تنشأ وتزدهر، وأن تنتشر في الخارج، وصار إنسان هذه الأقطار يتمتع بـ"الإيواء" المحترم والأمن المعيشي، والاعتقادي وحرية السفر، وكرامة الإقامة والعمل في بقاع الأرض كلها.