الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث
سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية وعلم النفس الإنساني
…
الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة، ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث
إن تجسيد عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة في حياة مجموعة من الناس يلبي حاجات فطرية في الإنسان، ويفجر طاقاته في العمل ويؤدي إلى ميلاد أمة وقيام حضارة. والعبث بهذه العناصر في أمة قائمة أو تسرب الخلل إليها يحرم الإنسان من حاجاته الفطرية، فتموت فاعليته وينتهي إلى العجز والكسل مما يؤدي إلى ضعف الأمة القائمة، وانحلالها وموتها.
ولقد أولى علم النفس الحديث -ظاهرة الحاجات الإنسانية- عنايته وتناولتها علوم الإدارة والسياسة والتربية بالتطبيق. ومن المصادر المعتمدة في هذا المجال -نظرية سلم الحاجات عند أبراهام ماسلو Abraham Maslow رائد مدرسة علم النفس الإنساني Humanistic Psychology التي تقول بتفرد الإنسان، وترفض المقررات التي تسوي بينه وبين الحيوان. ولعله من المناسب استعراض التوازي القائم بين هذه النظرية، وبين عناصر الأمة المسلمة وتطبيقاتها التي مر ذكرها.
1-
سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية، وعلم النفس الإنساني:
للإنسان دوافع أو حاجات كثيرة تتزاحم لتوجيه سلوكه، وتتخذ أوضاعا متغيرة في حياته حيث تقوى أحيانا وتضعف أخرى. وأقوى هذه الحاجات في لحظة معينة تقود إلى النشاط، وتوجيه السلوك كما هو في الشكل التالي:
في الشكل "أ" تقع الحاجات الفسيولوجية في أعلى السلم، وتبدو أقوى الحاجات؛ لأنها حاجات أساسية ضرورية للحياة نفسها مثل الحاجة للطعام، والحاجة للباس، والحاجة للمأوى، والحاجة للزواج، وما لم تشبع هذه الحاجات الأساسية إلى درجة تضمن حياة الجسم، والقيام بوظائفه فإن غالبية اهتمامات الإنسان، ونشاطاته سوف تتركز حول هذه الدرجة من سلم الحاجات بينما تنال بقية المستويات قليلا من الدافعية.
ب- الشكل الثاني: حاجات الأمن:
وإذا بدأت الحاجات الفسيولوجية بالاكتفاء تصبح الحاجات التالية في السلم وهي -حاجات الأمن Safety أو Security أكثر هيمنة، وتسيطر على الاهتمامات، وتوجه النشاطات كما يتضح من الشكل التالي:
في الشكل الثاني تبدو حاجات الأمن في أعلى السلم أي أنها أقوى الحاجات. وحاجات الأمن تعني التحرر من الخوف، أو الإيذاء الجسدي أو الحرمان من الحاجات الأساسية أي أنها تعني حفظ النفس، وصيانة ثروة الفرد ووظيفته حتى يستطيع توفير الغذاء والمأوى لغده وما بعد. فإذا كان أمن الإنسان في خطر فإن بقية الحاجات تصبح غير مهمة عنده، ويتركز اهتمامه ونشاطه وسلوكه لتوفير الأمن الذي ينشده، واتقاء الخطر الذي يتهدده.
والكثير من الناس يحتاجون إلى تقدير عال لأنفسهم يتمثل في الثقفة بالنفس، والهيبة والقوة والهيمنة وشعور الفرد بأنه مفيد، وله بعض التأثير في بيئته. وإذا لم يستطع -هذا النوع من الأفراد- إشباع حاجته للتقدير من خلال السلوك البناء، فإنه قد يلجأ إلى السلوك التدميري، والنشاطات المشوشة غير الناضجة. فالطفل -مثلا- قد ينفجر في نوبة غضب ليلفت انتباه من حوله. والموظف قد يدخل في جدل مع زملائه أو رئيسه، ويصبح مشاكسا في دائرته، والمعارضة قد تدخل في شغب مع الحكومة، وانتقاد حاد أو هدام لأعمالها والتظاهر ضدها، وإثارة أعمال الشغب في وجهها.
ويتعلق بـ -حاجة التقدير- دافعان: المكانة Prestige والقوة Power. أما المكانة فقد تولد مع الفرد إذا ولد في عائلة أو بيئة لها مكانتها. والناس يبحثون عن المكانة بطرق عديدة، ويكتفي الكثير بالبحث عن مظاهرها المادية بينما يجاهد آخرون لنيلها بالإنجاز الشخصي وتحقيق الذات. وكثير من الأشخاص يعملون بجد للحصول على مكانة معينة، فإذا حصلوا عليها ضعفت أو انطفت هذه الحاجة وصارت مهمتهم المحافظة عليها لا التقدم. ولذلك تكون دافعية المكانة قوية في الشباب الذين يميلون لتحسين مكانتهم بينما يقنع الكبار بما وصلوا إليه، وتكون النتيجة أنهم لا يعملون كثيرا لتحسين مراكزهم.
أما عن القوة فهي نوعان: قوة المركز، وقوة الشخصية. وهناك أناس لا قوة لهم على الإطلاق.
هـ- الشكل الخامس: الحاجة لتحقيق الذات
عندما تبدأ الحاجة إلى التقدير بالإشباع بشكل مقبول، فإن الفرد يبدأ في التطلع إلى ما يثبت هذا التقدير ويخلده. ولذلك تصبح -الحاجة لتحقيق الذات- أقوى دوافع السلوك، وتتمركز في أعلى قمة السلم كما هو واضح في الشكل التالي:
وحاجة تحقيق الذات تستدعي مضاعفة إنتاج الفرد، وبلوغ أقصى ما يستطيعه من الإبداع. فالمفكر يحتاج أن يكتب ويفرز أحسن ما يستطيعه من الأفكار، والقائد يحتاج أن يحقق أروع الانتصارات ويكسب المعارك، والسياسي يحتاج أن ينجز أعظم الأعمال. وهكذا فإن تحقيق الذات هو الرغبة في أن يصبح المرء ما في قدرته أن يكون.
ويشبع الأفراد هذه الحاجة بطرق مختلفة. فقد يعبر عنها الإنسان ليصبح مديرًا ناجحًا. وقد يعبر عنها بالبروز في الرياضة، وآخر قد يعبر عنها في التفوق الدراسي، وقد تعبر عنها الأم لتصبح أما مثالية، وفي القتال قد يخاطر الجندي بحياته، ويهاجم وحدة سلاح لتدميرها وهو يعلم تمام العلم إن فرض نجاته قليلة جدا، وهو لا يفعل ذلك لحاجته للانتماء أو التقدير، وإنما لما يظنه مهما.
وتتنوع أساليب إشباع -الحاجة لتحقيق الذات- ويمكن تغييرها في مدار العمر. فالرياضي مثلًا قد يبحث عن ميادين أخرى يضاعف فيها احتمالات تفوقه طبقات لتغير عطائه الجسدي أو لاتساع آفاقه1.
1 Abraham Maslow، Motivation and Personality، "New york: Harper & Row Publishers، 1970" PP. 35-58.
والبحوث التي تناولت تحقيق الذات -بعد ماسلو، بلورت هذه الحاجة في دافعين اثنين هما: دافع الجدارة، ودافع الإنجاز.
أما الجدارة أو الكفاءة فهي تتضمن القدرة على السيطرة على عوامل البيئة الطبيعية والاجتماعية. فالناس الذين لديهم هذا الدافع لا ينتظرون حدوث الأشياء من ذاتها، وإنما يريدون أن تكون لديهم القدرة على تشكيل البيئة لحدوث الأشياء. وتعتمد قوة هذا الدافع أو ضعفه على تجارب النجاح والفشل الماضية. وتتشكل توقعات الأفراد حسب هذه الخبرات. فالذين تكون توقعاتهم سلبية تضعف عندهم روح المخاطرة والمبادرة. وهؤلاء يتركون بيئتهم تتحكم بهم أكثر من المحاولة على تغييرها. وهذا الدافع متغير غير ثابت حسب خيرات النجاح والفشل. وعلى كل هناك وقت يميل فيه دافع الكفاءة إلى الهدوء والركود. وعندما يحدث هذا فإن حس الكفاءة يتحول إلى تنبؤات نفسية عما إذا كانت خبرة معينة ستنجح أو تفشل. وبعد أن يصل الفرد إلى سن معينة، فإنه نادرا ما ينجز أكثر مما يظن أنه قادر عليه؛ لأنه يحاول إنجاز أشياء يظن أنه ليس له قدرة عليها.
وأما -الإنجاز- فقد لاحظ علماء السلوك أن بعض الأفراد لديهم حاجة قوية للإنجاز، بينما آخرون، ولربما الأكثرية، لا يبدو أنهم يهتمون بالإنجاز، ولقد أثارت هذه الظاهرة البروفسور ديفيد س. ملكيلاند الذي ما زال هو وفريقه في جامعة هارفارد يدرسون الحاجة للإنجاز. والأبحاث التي أجراها مكليلاند قادته إلى الاعتقاد بأن حاجة الإنجاز هي حاجة واضحة متميزة، ويمكن تمييزها من بقية الحاجات، ويمكن عزلها وتقييمها في أية جماعة.
وأبرز خصائص الأشخاص الذين لديهم حاجة عالية للإنجاز هي:
أولًا، دراسة الشيء بدقة قبل البدء به.
ثانيًا، اعتدال روح المخاطرة.
ثالثًا، الاهتمام بالإنجاز أكثر من الحوافز.
رابعا، قضاء وقت أكبر في التفكير بما يجب عمله1.
وليس من الضروري -حسب رأي ماسلو- أن تعمل حاجات الإنسان طبقا للنسق الذي قدمه، وليس من الضروري أن تنطبق هذه الحاجات على كل بني الإنسان. ولكنها هي النموذج الغالب الذي يعمل في غالب الأوقات. ولقد شعر -ماسلو- إن هناك نماذج من البشر تشذ عن هذا المبدأ، وضرب لذلك مثلا بالقائد الهندي غاندي الذي ضحى بحاجاته الفسيولوجية، والأمن ليشبع الحاجات الأخرى عندما كانت الهند تكافح للاستقلال من سيطرة بريطانيا2.
ولا أريد الخوض في درجة النقد لـ -ماسلو- وهو ينتبه لفرد واحد مثل غاندي، ويغفل عن جيل كامل مثل جيل الصحابة في التاريخ الإسلامي الذين قدموا المثل الفريد للتضحية بالحاجات الفسيولوجية، والأمن في سبيل الارتقاء إلى حاجة تحقيق الذات. ولكنه يظل جيلا غير قابل للتكرار بنفس الحجم والزخم -حسب تقرير القرآن نفسه الذي نص بصراحة على أن بلوغ هذا الدرجة تتصف بها ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين.
والواقع إن النظر الراسخ في القرآن الكريم يرشد إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يفرض هذه التضحية قاعدة مستمرة في استراتيجية العمل الإسلامي، وإنما وجه
إليها رسوله صلى الله عليه وسلم مؤقتا في الوقت الذي وجهه، لأن يبحث عن مهجر يهاجر إليه، ويعمل على توفير كافة درجات سلم الحاجات لأتباعه
فيه ابتداء من الحاجات الأساسية، ثم حاجات الأمن والاحترام والانتماء مما يهيئ لهم تحقيق ذواتهم الإنسانية، التي فطروا عليها في الجدارة
1 Paul Hersey and Ken Blanchaerd، Management of Organiztional Behavior، "Englewood Cliffs; Nj: Prentice Hall Inc. 1982- PP. 37-40.
2 Panl Hersey & Ken Blanchard، OP. Cit، P. 29.
والإنجاز وهم يجاهدون لحمل رسالة الإسلام إلى العالم كله. وليست عناصر الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة إلا وسائل عملية فاعلة لتوفير سلم الحاجات المشار إليه.
فعنصر -الإيواء- يحقق -الحاجات الأساسية- وهو يركز على وجوب انتفاع الأمة كلها بمصادر الثرورة، وتنمية قيم الاستقرار والزواج والمسكن، وتأمين المواصلات، وحسن الانتفاع بالأرض ومواردها، وتنمية حب العمل ومهاراته، وغير ذلك مما جرت مناقشته في الفصل الخاص بذلك.
وعنصر -النصرة- يحقق -حاجات الأمن- وهو يركز على سيادة "الشريعة فوق القوة"، وتحصين إنسان الأمة المسلمة من الغيبة والتجسس، والاضطهاد والنفي وهو أيضا يحقق -الحاجة للتقدير- وهو يركز على حرمة الإنسان ونصرة العدل ضد الظلم، والدفاع عن حرماته أمام طغيان القوة في الداخل أو الخارج.
وعنصر -الإيمان- يحقق -الحاجة للانتماء- وهو يركز على بلورة "هوية المؤمنين وجنسيتهم وثقافتهم" المتميزة عن بقية الجنسيات والثقافات.
وعنصر -الجهاد والرسالة- يحقق -الحاجة لتحقيق الذات- وهو المجال الذي يفتح الباب واسعا في مسرح الكرة الأرضية كلها ليحقق المسلم ذاته من خلال إثبات "جدارته" في حمل الرسالة -رسالة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر- وبرهنة "جدارته" على "الإنجاز" من خلال تجسيد هذه الرسالة في معتقدات ونظم وتطبيقات.
وعنصر -الهجرة- يرتقي بحاجة الانتماء إلى أعلى مستوياتها، ويجعل لسلم الحاجات الإنسانية ميزة خاصة، وهي قابلية الهجرة من التطبيقات الخاطئة لهذه الحاجات، أو تلك التي انقضى أمدها إلى تطبيقات تتفق مع متطلبات الزمان والمكان.
ويلاحظ على سلم الحاجات التي توجه إليها الأصول الإسلامية، أنها تتلاحم مع الأصول العقدية، والقيم الأخلاقية التي يوجه إليها الإسلام مما يسهل الحكم على تطبيقات هذه الحاجات، وتصنيفها إلى تطبيقات خيرة وأخرى خاطئة. وتبدو هذه السمة واضحة في الآيات القرآنية التي تتحدث عن دعاء إبراهيم عليه السلام:
فالدعاء من أجل إشباع -حاجات الأمن، والثمرات، والتقدير "من أفئدة الناس" وسائل تعين ذرية إبراهيم "ليقيموا الصلاة" و"يشكرون". وإقامة الصلاة تعني إقامة معانيها في واقع الحياة، أما حقيقة الشكر فهو أن لا يعصى الله فيه نعمه.
أما في علم النفس الحديث، فإن -سلم الحاجات الإنسانية- يطرح مجردا من العقائد والقيم والأخلاق مثله في ذلك مثل -العلم الطبيعي- ثم لا يكترث واضعو نظرية سلم الحاجات هذا إن جاءت تطبيقاتها لنصرة الخير، أو لتعزيز مكانة الشر. وانطلاقا من هذه الفرق اختلفت تطبيقات الحاجات المشار إليها في كلا المدرستين التربويتين، وهو ما سيعالج في الفقرة التالية من هذا البحث.