الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سعتها في الملكية المطلقة للحاكم الجالس على رأس المجتمع. وهذا التجانس بين قمة -الملك العضوض- والقواعد الشعبية العضوضة يندرج أيضا تحت المبدأ الإسلامي القائل، "كما تكونون يول عليكم". وتفصل الأحاديث النبوية في تشخيص هذا اللون من قيم -الملك العضوض- ومظاهره ومضاعفاته، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
"سيأتي على الناس زمان، لا ينال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالغصب والبخل، ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزمان، فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضة وهو يقر على المحبة، وصبر على الذال وهو يقدر على العز، أتاه الله ثواب خمسين صديقا ممن صدق بي"1.
وفي حديث آخر:
"يأتي على الناس زمان همتهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شر الخلق لا خلاق لهم عند الله"2.
1 عز الدين بليق، منهاج الصالحين، "بيروت: دار الفتح، 1398/ 1978" ص938.
2 نفس المصدر، ص937 نقلًا عن الديلمي.
أولًا: أعراض الأمة الميتة
تبقى الأمة الميتة -بعد حدوث الوفاة- فترة من الزمن تكون خلالها كالعمارة الضخمة المتصدعة التي تظل قائمة ما دامت لم تهب الرياح التي تقوض أركانها، أو لم تعمل فيها آلات الهدم التي تهدم حيطانها. ويقدم القرآن للأمم الميتة مثلا من جثة سليمان التي ظلت زمنا بعد وفاته تخيف العاملين تحت إمرته، فلما أكلت دابة الأرض المنسأة -أو العصاة- التي تستند إليها الجثة، وخرت إلى الأرض قال العاملون تحت إمرته من الجن
والإنس لو كنا نعلم وفاته ما لبثنا زمنا طويلا في عذاب العمل وتنفيذ الأوامر.
وكذلك أنظمة الحكم والأمة حين تموت تبقى زمنا تتكئ على منسأتها من البوليس والجيش، والمخابرات بحيث يخيل للرازحين تحت ظلمها أنها حية قائمة حتى يبعث الله عناصر انقلابية من الداخل، أو قوة غايزة من الخارج، فتأكل المنسأة وتخر الأمة وتعلن الوفاة. وحينئذ يتبين الرازحون تحت ظلمها أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا زمنا في العذاب المهين.
والرسول صلى الله عليه وسلم يحدد للأمة الميتة أعراضا مجملة رئيسية يندرج تحت كل عرض تفاصيل دقيقة يستطيع أولو الألباب من خلال هذه الأعراض التحقق من وفاة الأمة، ونظام الحكم فيها فيقون الناس مضاعفات الانهيار، ويبدأون محاولات بعث الأمة من جديد. ومن الأحاديث التي تقدم مجمل هذه الأعراض ما يلي:
"إذا رأيت شحا مطاعا، وهو متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودعك من أمر العامة"1.
فالشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، كلها أعراض رئيسية للأمة الميتة يتفرع عن كلها منها عشرات المضاعفات والتفاصيل. وهذه الأعراض تبدو جلية واضحة في الفترة الواقعة بين حدوث الوفاة، وبين إعلانها، وإجراءات الدفن التي مر الحديث عنها:
أما تفاصيل هذه الأعراض فهي كما يلي:
1-
شيوع "الشح المطاع":
والشح في اللغة معناه أشد البخل. وقيل: البخل يكون في المال، أما
1 الترمذي، السنن، جـ8 "كتاب التفسير: تفسير سورة المائدة، ص222، رقم 3060.
ومثله: سنن أبي داود، جـ4، كتاب الملاحم.
و: سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، جـ2، ص1331، رقم 4014.
الشح فيكون بالمال والمعروف1. وقيل: إنه الإفراط في الحرص على الشيء2. ولقد عرفه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بأنه: أن ترى ما أنفقته تلفًا3. أي خسارة.
ولقد ورد ذكر الشح في القرآن الكريم في خمسة مواضع تتكامل جميعها لتدل على أمور ثلاثة: الأول، أن من يبتلى بالشح يتصف بعدم الإنفاق في سبيل الله، والبخل بعمل الخير والسلوك الحسن، والتردد في مساعدة الناس، والنكوص عن الجهاد والجبن أمام الأعداء، وسلاطة اللسان على الأصدقاء، والغياب عند التضحية والبذل، والحضور عند الطمع والغنيمة:
والأمر الثاني، أن من برئ من الشح يتصف بالسخاء والبذل، وإيثار المصلحة العامة، ومساعدة الناس على الاستقرار، ومحبة القادمين الغرباء كمحبة المقيمين الأقرباء، وتيسير أمورهم:
{وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ
1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام، ص115.
2 الطبري، التفسير، جـ5، ص320 "تفسير آية 128 من سورة النساء".
3 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام، ص189.
فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] .
- {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16] .
والأمر الثالث، إن الشح ورد في آية أخرى ليشير إلى المرأة العجوز، أو الدميمة التي تضن بجزء من حقها لضرتها الشابة الجميلة.
وفي الآية -أيضا- إشارة إلى أن الشح يشمل التشبث بمنافع لم تعد الحاجة شديدة إليها، وعدم التفضل بها لمن هو أكثر حاجة إليها، ومن أمثلته الأثرياء الذين يشحون عن الإحسان والتبرع حين تتقدم بهم السن، وتفتك بهم علل الموت بينما يتبرع نظائرهم في المجتمعات غير الإسلامية بتأسيس دور العلم ومراكز البحوث والمستشفيات، وأمثالها من المنافع العامة.
فالشح في حقيقته نقيض لعنصر الولاية في الأمة. أي إن محوره اختفاء الشعور بالصالح العام، وإبطال لفاعلية شبكة العلاقات الاجتماعية التي توفرها عناصر الأمة، أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والرسالة والجهاد، والإيواء، والنصرة التي مرت تفاصيلها في فصول سابقة. وبذلك تكون الأمة التي تصاب بالشح كالجسد الميت الذي تتوقف فيه الدورة الدموية، فلا تزود أجهزته بالغذاء اللازم لاستمرار عافيتها وآداء وظائفها مما يمهد لتفسحها وانبعاث نتنها. ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت -الشح- يتضح أن الشح يتمثل فيما يلي:
أ- الشح بيسر الحياة وشحنها بالضنك والعسر، كتضييق الحكومات على الحريات، وإثقال كاهل الرعية بالضرائب والغرامات، واستغلال رجال
الاقتصاد للأزمات وأوقات الشدة وظروف القطح، والحرب وندرة السلع لممارسة الاحتكار ورفع الأسعار، والإيجار دون اكتراث بما يسببه ذلك من عنت وإرهاق للآخرين.
ب- الشح بإنجاز الواجبات وبذل الجهد وشيوع العجز، والشح بالمعاملة الحسنة وشيوع الفظاظة والغلظة في ميادين الحياة ومؤسساتها المختلفة1.
1 يظهر تجاري -أو جريان- الشح في سلوك -إنسان الأمة الميتة- بشكل عفوي وتلقائي. ولتوضيح ذلك نسوق المثل الواقعي التالي:
احتجت إلى تصديق بعض الوثائق في إحدى القنصليات الأجنبية. وحين ذهبت إلى القنصلية قابلتني على -شباك المراجعة- فتاة عربية ترتدي حجابا شرعيا على رأسها، وجلبابا يستر جميع جسمها. ولم تكد تلمحني حتى بادرتني قائلة -بتجهم وفظاظة: اجلس حتى يأتي دورك!! قالت هذا -دون أن يبرز مني ما يستدعي ذلك. كظمت استيائي وجلست! وحين جاء دوري وبدأت عرض حاجتي قاطعتني بالقول: لا يوجد هنا تصديق على مثل هذه الوثيقة! وكان القنصل -الأجنبي الأصل- يقف إلى جانبها فابستم وتدخل بلطف قائلا: ما الذي يمنع من تصديقها!؟ دعني أنظر فيها!!
نظر في الوثيقة قليلا ثم ابتسم قليلا: عشرة دولارات فقط رسم تصديق!! ثم طلب إلى الفتاة إجراء اللازم، فأراح أصعابي واستل سخيمتي.
وتكررت زيارتي للمراجعة فلاحظت أن السلبية والشح صفتان مستمرتان في هذه الفتاة المسلمة!! المحجبة!! تعامل بها غالب المراجعين، ولا ينقذهم من "العسر" الذي تواجههم به إلا "اليسر" الذي يقدمه الموظفون، والموظفات "غير المسلمين".
والنظر الدقيق في تفسير هذا السلوك الشحيح أن الفتاة العربية -وإن عرضت تدين "الأشكال"- هي بعض شظايا أمة متوفاة، وهي تحمل في ثقافتها وممارساتها جراثيم الشح، بينما يبرأ "الأجانب غير المسلمين" العاملين إلى جانبها من جراثيم هذا السرطان الاجتماعي؛ لأنهم نشأوا في بيئات سليمة منه.
وتتفشى آثار هذا -الشح- وتطبيقاته، وتبدو واضحة حين نستذكر خبراتنا المؤلمة في المطارات ومراكز الحدود، ودوائر العمل الرسمية وشبكة العلاقات الاجتماعية في "مزق" وأقطار الأمة الإسلامية المتوفاة!! والإنسان الذي يخرج خارج حدود الأمة الإسلامية المتوفاة يستذكر دائما هذا "العسر" الذي يعاني منه في بلاده، ومن بني قومه ويقارنه بـ"اليسر" الذي يراه في المطارات ومراكز الحدود، وإدارات الدولة ومراكز العمل، والعلاقات التجارية والرسمية في الأقطار الأوربية والأمريكية!!، وهو لا يتوقف عن المقارنة، والتساؤل والندب والتحسر والاستفهام والاستغراب!!
حـ- الشح بالتكافل وعدم التواصل والتراحم، وعدم البذل والتبرع، وانتشار الفردية والأنانية مع الإسراف في الإنفاق على ملذات النفس وشهواتها.
د- الشح بالمظهر الاجتماعي للعبادة، وشيوع الشكلية في التدين والاقتصار على تدين "الأشكال" دون "الأعمال". والتركيز على طقوس العبادات، وحركاتها دون إقامة معانيها في الحياة، والتوقف عن الزكاة والجهاد، ومنع كل "ماعون" يعين المسلم على إقامة روح الدين وفضائله. وهو ما يشير إليه قوله تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي يراءون بالصلاة بينما هم يمنعون كل "ماعون" يعين الناس على يسر الحياة، وعدم الاشتغال بها اشتغالا يلهيهم عن دينهم أو يدفعهم دفعا لمخالفته، ومخالفة تعاليمه.
هـ- الشح بالعدل وشيوع "التطفيف" في المعاملات. والتطفيف مشتق من قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} والتطفيف في العمل أو الوظيفة أن يرهق أصحاب العمل العمال، والموظفين بالواجبات ويثقلون عليهم في المسئوليات في الوقت الذي يدفعون لهم أجورا، أو رواتب أقل من غيرهم، ويغتنمون كل فرصة "ليخسروهم" أي يخصمون من أجورهم أو رواتبهم. أما التطفيف في التجارة فهو المبالغة في الاستيفاء عند الشراء وإنقاص الوزن، أو المكيال عند البيع. وهكذا في جميع أنواع المعاملات وعلاقات العمل والخدمة والوظيفة.
و الشح بالنفس والأبناء والقدرات، والجبن أمام الأخطار الخارجية أو الأعداء الخارجين، وإيثار السلامة بالمال والنفس، مع القسوة على الأخوة أو الرعايا في الداخل. وهذا ما أشار إليه الحسن بن علي بن أبي طالب حين عرف -الجبن- بأنه: الجرأة على الصديق والنكوص عن العدو1.
1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام، ص189.
ولقد لخص الرسول صلى الله عليه وسلم مظاهر الشح التي تقدمت عند قوله:
"إياكم والشح فإنما هلك من قبلكم بالشح: أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبحلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا"1.
2-
اتباع الهوى:
المحور الذي يدور حول -الهوى- هو مجانبة العدل في السلوك والتفكير والشعور، ثم الانطلاق في ذلك كله من الحمية العصبية والشهوات النفسية. ويذكر الرازي في تفسيره أن الله وضع الهوى في مقابل العدل عند قوله تعالى:{فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] . ثم يعلق على ذلك فيقول:
"المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بالعدل. وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك الهوى. ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر. فتقدير الآية: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} "2.
ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت -الهوى الصفة الثانية للأمة الميتة -يتضح أنه يتمثل فيما يلي:
أ- الظلم، فالذين يمارسون الظلم إنما يقترفونه بسبب الهوى، تلبية لحمية عصبية أو شهوة نفسية. كما إن المظلومين الذين يخنعون أمام الظالم، ويرضون بظلمه إنما يفعلون ذلك بسبب الهوى. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت الظالم فقد تودع منها"3.
فالأمة الميتة تسكت أمام سياسات الظلم وتطبيقاته في الاجتماع
1 نفس المصدر، ص115 نقلا عن الحاكم، ومثله أبو داود، والمنذري في الترغيب والترهيب، جـ3، ص158.
2 الرازي، التفسير، جـ11، ص74 "تفسير آية 135 سورة النساء".
3 مسند أحمد، تصنيف الساعاتي"، جـ19، ص175.
والاقتصاد والسياسة والثقافة والفنون، والتربية وتتسابق لتملق الظالم طلبا لما عنده من شهوات أو لما تربطهم به من عصبيات، فالتاجر في الأمة الميتة يخشى على تجارته، والموظف يخشى على وظيفته، والعامل يخشى على عمله، وصاحب الشهوة يخشى فقدان شهوته وهكذا.
ولا يعني هذا أن الأمة الميتة تخلو من العناصر الصالحة، وإنما معناه أنها تفتقر إلى العناصر "الصالحة-المصلحة" التي تقف أمام الظلم، وتحول دون انتشاره واستشراء مضاعفاته. والتمييز بين الفريقين واضح تمام الوضوح في القرآن الكريم والحديث الشريف. فالقرآن يؤكد على أن العناصر "الصالحة-المصلحة" هي الضمان الواقي للأمة من الهلاك ومن العقوبات الإلهية. من ذلك قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] .
أما العناصر الصالحة غير المصلحة فهذه لا تحول دون وفاة الأمم، ولا تنجو من الدمار الذي ينزل بالأمم المعذبة:
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] .
وينبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن مساعدة الظالم على ظلمه تخرج من الإسلام:
"ألا إنه سيكون بعدي أمراء يظلمون، ويكذبون فمن صدقهم بكذبهم، ومالأم على ظلمهم فليس مني، ولا أنا منهم، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ومن لم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه"1.
1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام، ص23 نقلا عن مسند أحمد "رواية النعمان بن بشير".
والسكوت على الظلم ينتهي بالأمة إلى الكوارث والعقوبات الإلهية:
- "إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب"1.
- "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم"2.
ب- انطفاء العلم وشيوع الجهل:
ولا يعني ذلك شيوع الأمية وإغلاق معاهد العلم، وإنما المقصود تعطل فاعلية العلم الناتج عن التربية، والتعليم اللذين يوجههما الهوى بحيث يصبح وجود العلم شبيها بالجهل؛ لأن أصحاب الأهواء يستثمرون العلم، والمعرفة استثمارا يجعل فقدهما أنفع من ضررهما، وهم يتخذون من العلم حلية اجتماعية يتطاولون بها على الناس، ويظلمونها بدل مساعدتهم وإنصافهم. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] .
جـ- انطفاء فاعلية الحقيقة: وشيوع الهوى معناه الاحتكام إلى النزعات والحمية، والشهوات مما يبطل فاعلية الحقيقة رغم وقوف الناس عليها. وإلى ذلك يشير قوله تعالى:
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] .
د- انطفاء الخير والصلاح وشيوع الشر والفساد: في الأمة الميتة التي يشيع فيها الهوى يتحول الناس إلى أكوام بشرية تتصارع من أجل الشهوات
1 سنن أبي داود، جـ4، كتاب الفتن والملاحم، ص122، رقم 4338.
2 سنن أبي داود، نفس الجزء والصفحة، رقم 4336، 4337.
والعصبيات والحصول على المنافع والمكاسب، فتذهب الأخلاق، وينعدم النظام، ويفشو الفساد في السلوك والمعاملات، وتنعدم روح المسئولية، وتدب الفوضى، ويشيع الغش والخيانة والرشوة، وألوان الخداع والكذب، وما إلى ذلك. وإلى كل هذه المضاعفات يشير قوله تعالى:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] .
هـ- شيوع الصنمية واختفاء التوحيد: ويكون من نتائج ذلك شيوع الرق النفسي والفكري، واختفاء حريات التفكير والتعبير والعمل والاختيار. وتلغى شخصية الإنسان فيصبح متقلبا حسب المواقف التي تقررها أهواؤه في الرغبة أو الرهبة، أو الخوف أو الطمع أو الحرص. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
و شيوع الفرقة وتحطم الوحدة: وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين وسبعين ملة. وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة. وسيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق، ولا مفصل إلا دخله"1.
ز- في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى تشيع الدناءة والصغار، وينعدم الطموح والترفع. وإلى ذلك يشير قوله تعالى:
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176] .
1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام، ص121، 122. نقلا عن سنن أبي داود وسنن ابن ماجه، جـ2، ص249.
ح- في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى يشبع الخطأ في الأحكام، والقرارات والسياسات والمواقف. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} [القصص: 50] .
ط- في الأمة الميتة التي يتبع فيها الهوى يشيع الحمق والقصور العقلي، وقلة الحكمة وعدم الاستفادة من الخبرات الاجتماعية، والكونية التي يقرأها الناس أو يمرون بها أو تراها أعينهم أو تسمعها آذانهم. وإلى ذلك يشير قوله تعالى:
3-
إيثار الدنيا:
وهذه هي الصفة الرئيسية الثالثة للأمة الميتة. ومحورها الوقوف عند العناية بنعيم الدنيا، وشهواتها دون اهتمام بأمور النشأة والمصير. فهي إذن توقف عن مسيرة الإنسان نحو الخلود والرقي. ويتكرر الحديث عن -إيثار الدنيا- في مئات المواضع في القرآن والحديث. ومن تحليل الآيات والأحاديث التي عالجت -إيثار الدنيا- يتضح أنه يتمثل فيما يلي:
أ- شيوع صنمية المال: وهذه الصنمية هي محور إيثار الدنيا، إذ لما كان المال هو الوسيلة الموصلة إلى نعيم الدنيا وشهواتها، فإن الأمة الميتة تنصب من المال صنما تتقرب لمالكيه بالعبادة: أي بالطاعة الكاملة بسبب الرغبة الكاملة به والرهبة الكاملة من فقدانه. وإلى هذه الصنمية يشير قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال"1.
1 الطبراني، المعجم الكبير، جـ19، ص179، رقم 404.
وقوله أيضًا:
"تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي منهما رضي، وإن منع سخط"1.
فهو عبد الدينار والدرهم؛ لأن "ولاءه" يدور في فكلهما إن أعطي منهما رضي، وإن منع عنه العطاء سخط. والقطيفة هي التي يجلس عليها. أو هي رمز للأثاث، فهو عبد الأثاث؛ لأنه دائم التفكير به، مشغول بالبحث عنه سواء أكان تاجرا أو مستهلكا. والخميصة هي اللباس الذي يرتديه الإنسان، فهو عبد اللباس؛ لأنه دائم التفكير به والتفتيش عن أزيائه وأشكاله والنظر في منشورات الدعاية له، والربط بين الدينار والدرهم من ناحية والأثاث، واللباس من ناحية أخرى؛ لأنها كلها مرتبطة بعضها ببعض لا يتوصل عابدها إلى شيء منها إلا بالحصول على الأخرى. وليحصل عابدها عليها لا بد أن يطيع مالكها ومعطيها، والمتسبب بالحصول عليها طاعة كاملة، ويرهبهم رهبة كاملة، ويرغب بهم رغبة كاملة، فهي أصنام متعددة وأرباب متنوعة لكنها مترابطة يوصل بعضها إلى بعض.
ولذلك قال بعض السلف: ألبس من الثياب ما يخدمك، ولا تلبس منها ما أنت تخدمه، واقتن البساط الذي تجلس عليه لا الذي يجلس عليك2.
والتربية المعاصرة، والثقافة المعاصرة -تربية وثقافة الإنتاج والاستهلاك- تفرز إنسانا تجلس "الأشياء" فوق عقله وقلبه وجسده، وتنام وتصحو معه، دون أن تدع لـ"الأفكار" وشبكة العلاقات الاجتماعية متسعا، ويظل ينوء تحت الأشياء كلها آناء الليل، والنهار حتى تصبح دينه ونياه.
1 البخاري، الصحيح، كتاب الجهاد، وكتاب الرقاق.
2 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب السلوك، جـ10، ص597.
ب- فساد القيادة وانتهاك القيم والحرمات: ذلك أن الأمة الميتة التي تؤثر الدنيا على الآخرة تدفع إلى مراكز القيادة فيها العناصر المترفة -أي أهل النعمة والبطر والاستكبار1- لأنها تتوهم فيهم القدرة والخبرة للحصول على الدنيا التي تؤثرها. ولكن المترفين -بحكم إصابتهم بنفس الداء- يتحولون إلى قيادات ظالمة مستغلة تتركز سياساتها حول الاستئثار بمزيد من الدنيا، وأسباب البطر والاستكبار، فيختفي العدل ويفشو الظلم، وتنتهك الحرمات، ويتحلل من المسئوليات ويختفي الأمن والاستقرار. وإلى هذه الحالة يشير قوله تعالى:
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] .
والفسق المشار إليه في الآية نوعان: فسق القيادات أي انحرافها عن المنهاج القويم في الحكم والإدارة، واستعبادها للناس وكبت الحريات. وفسق الشعوب، وهو سكوتها على انحراف القيادة المترفة وتملقها وتبرير ممارساتها. ولذلك أدان الله فرعون وقومه سواء؛ لأنهم سمحوا له أن يستخف بهم فأطاعوه، ونفذوا سياساته وشكلوا جنده وحراسه:
{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] .
جـ- الانغماس في الشهوات، وانتشار روح المنافسة والصراع: في الأمة الميتة التي تتصف بإيثار الدنيا ينحسر عنصر الجهاد، والنصرة في الصراع من أجل حطام الدنيا والانغماس في شهواتها. وإلى هذا يشير قوله صلى الله عليه وسلم:
"
…
فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كانت قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم" 2.
1 الطبري، التفسير، جـ18، ص36.
2 ابن ماجه، السنن، كتاب الفتن، ص1325، رقم 3997.
وفي حديث آخر يقول:
"سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها، ويركبون فره الخيل وألوانها، ويلبسون أجمل الثياب وألوانها. لهم بطون من القليل لا تشبع، وأنفس بالكثير لا تقنع، عاكفين على الدنيا، يغدون ويرحون إليها، اتخذوها إلهة من دون إلههم، وربا دون ربهم، إلى أمرها ينتهون، ولها يتبعون، فعزيمة من محمد بن عبد الله، لمن أدرك ذلك الزمان من عقب عقبكم، وخلف خلفكم أن لا يسلم عليهم، ولا يعود مرضاهم، ولا يتبع جنائزهم، ولا يوقر كبيرهم، فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام"1.
ومن الطبيعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرم الطيبات التي أحل الله لعباده، ولكنه يشير إلى ظاهرة من مظاهر الأمة الميتة حين تنحسر فيها عناصر الإيمان والهجرة، والجهاد والرسالة والإيواء، والنصرة، والولاية لتدور في فلك "أشياء" الدنيا وطيباتها.
د- سطحية التدين: وتتخذ هذه السطحية مظهرين: سطحية العامة حيث يتحول الدين إلى طقوس وأعياد ومناسبات، كأن يصبح رمضان شهر المطاعم والملاهي والتسويق والشراء، ويصبح الحج موسما للتجارة والنرهة والإيجار والاستئجار. وإلى ذلك يشير قوله تعالى:
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف: 51] .
وسطحية العلماء والمتدينين حيث يجري التركيز على "الطقوس والأشكال" بدل "الروح والأعمال".
وهذه السطحية قديمة صاحبت الإسلام منذ نشأته وأصابت
1 محمد خليل الخطيب، إتحاف الأنام، ص236.
الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بأذاها فحذر من مستقبلها ونبه إلى روادها. من ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري حين قال:
بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة من أديم مقروظ لم تحصل من ترابها. قال فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة بن علاثة وأما عامر بن الطفيل. فقال رجل من أصحابه كنا أحق بهذا من هؤلاء. قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء؟ " قال فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشر الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار. فقال: يا رسول الله! "اتق الله! " فقال: "ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: "لا لعله أن يكون يصلي". فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم". قال: ثم نظر إليه وهو مقف فقال: "إنه يخرج من ظئظئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية". قال: أظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود"1.
هذا هو رائد التدين السطحي وسنة "الأشكال": رجل "كث اللحية"، "محلوق الرأس"، "مشمر الإزار". وهو ظئظئ -أي أصل- فئات يتبعون سنته، ويتلون كتاب الله رطبا -أي سهلا لكثرة حفظهم- ولكنهم إذا لاحت لهم شهوة أو منفعة قفزوا عليها، وتجردوا من الذوق والأخلاق ومرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ثم شاهد التاريخ الإسلامي نماذج من هؤلاء أولوهم بأنهم -الخوارج. والحقيقة أن الظاهرة لا تقتصر على فرقة معينة في زمن معين، وإنما هي ظاهرة متكررة كلما مرضت الأمة، وانتهت
1 صحيح مسلم، "شرح النووي"، جـ7، كتاب الزكاة، ص162، 163.
إلى الوفاة وأفرزت نماذج تتعلق بـ"الأشكال" وتمرق من "الأعمال".
هـ- سطحية العلم والتربية: في الأمة الميتة تنحسر ميادين المعرفة، وتطبيقاتها ومناهجها التربوية من ميادين النشأة والمصير وسنن الحياة، والكون لتقتصر على البحث في ميدان "الأشياء" الدنيوية، وإعداد الناس للحصول عليها وإنتاجها ثم استلاكها. وإلى هذه الظاهرة يشير قوله تعالى:
{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] .
والثمرة العامة للنشاطات التربوية والعلمية هي بروز "ثقافة الاستهلاك" التي تلون أنماط الفهم والتفكير، وتحيل كل فقه -حتى فقه القرآن والحديث- إلى أداة لإنتاج "الأشياء" وتسويقها، وتمجيد القائمين على إنتاجها.
أما "الأفكار" فيكون الساهد منها هو أفكار "اللغو" أي أدنى مستويات المعرفة التي يسميها القرآن -لهو الحديث- فهي عند المتدينين تدور حول الجدل عن السحر والعفاريت، وشرعية التمسح بالحجارة وزيادة القبور، واستعمال السبحة وما إلى ذلك. وعند غير المتدينين تدور حول الأشعار الغزلية، والأدب الوجداني، والقصص الجنسي، وبرامج التسلية والترفيه وما إلى ذلك.
وتتصاعد مضاعفات -إيثار الدنيا- وتفرز نتائج سلبية في الفكر، والسلوك والثقافة حتى تبلغ قمتها في بروز ظاهرة -الكفر والاستخفاف بالإيمان. والكفر في جوهره مرض نفسي، وفكري سببه الجهل والحاجة: جهل المالكين للدنيا بحكمتها، وحاجة المحرومين إلى مقومات العيش فيها. وهذا ما أدركه ابن تيمية حين قال: "المحرمات جميعها من الكفر، والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته، فإنه إذا كان عالمًا
بمضرتها، وهو غني امتنع أن يفعلها
…
فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم أو الغنى"1.
وغالبا ما يتخذ الكفر مظهرين: الأول، كفر ضحايا قيم الحرمان الذين أحبوا الدنيا وفشلوا في دوامة الصراع الجاري حول المال، والتنعم بالأشياء. فيدفعهم الفشل والفقر والحرمان إلى الكفر، خاصة إذا لم يتبن علماء الدين قضاياهم، ويتصدوا للظلم النازل بهم والدعوة إلى إنصافهم والعناية بهم2. والمظهر الثاني، كفر ضحايا قيم الترف، أي الذين جهلوا حكمة الجاه والثراء فأبطرهم الانتصار في حلبة الصراع على الدنيا، وأفرجهم احتكار النعيم والثروة والقوة، واعتقدوا أن هذه النصر مرده علمهم، ومهاراتهم في الكسب والإنتاج، فيسخرون من الدين، ويتجرأون على الفساد، ويتحللون من المسئولية الأخروية، وإلى هذا يشير قوله تعالى:
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 212] .
4-
إعجاب كل ذي رأي برأيه:
ومحور هذه الصفة الأخيرة من صفات الأمة الميتة هو تعطل روح الجماعة والعمل الجماعي، وتوقف تبادل الخبرات والمشورة. وينتج عن ذلك بروز ظواهر التعصب للرأي، والعجب والكبر والتعالم، وإملاء الرأي وفرضه على الآخرين في جميع دوائر الحياة الاجتماعية ابتداء من القواعد الدنيا في الأسرة، والمتجر، والمصنع، ودائرة الوظيفة حتى أعلى دوائر المجتمع في رئاسة الحكومة، وقيادة الدولة حيث زعامات الحكم المطلق، والقيادات الدكتاتورية المتنافرة المتناحرة. ويكون من نتائج ذلك بروز
1 ابن تيمية، الفتاوى، كتاب التفسير، جـ14، ص22، 23.
2 راجع فصل -العلاقة بين الإنسان والحياة: علاقة ابتلاء- من كتاب فلسفة التربية الإسلامية للمؤلف.
مجتمعات الكراهية وفقدان الثقة، وشيوع الحسد وانعدام التعاو والوحدة، وتفرق الكلمة، والتستر على الأخطاء والنواقص والعيوب، ورفض النقد الذاتي، وتبرير الهزائم والنكسات والأزمات، وفشل اللجان والمؤتمرات، وعقم التخطيط واللقاءات، والاجتماعات، وانعدام التعاون بين الهيئات، والجماعات وغير ذلك.
والمحصلة النهائية لذلك كله هي تحطم روح الجماعة والعمل الجماعي، وإغلاق الاتصال والتفاهم فلا تحل المشكلات إلا بالخصومة، والفتن والتآمر والقتل، وإلى هذا المصير يشير قوله تعالى:
ولقد فسر ابن عباس قوله تعالى: {مِنْ فَوْقِكُمْ} من أمرائكم. و {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} من سفلتكم، و {يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الأهواء والاختلاق. و {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} يقتل بعضكم بعضًا1.
والواقع أن معاني الآيات المشار إليها لا تقتصر على ما استقاه ابن عباس من خبرات زمانه، بل هي تتدفق طبقا لما يحدثه الخلق الجديد "التطور" في الأزمنة والأمكنة والتكنولوجيا. فقد يكون من مظاهر:{مِنْ فَوْقِكُمْ} الطائرات والقذائف الصاروخية الناسفة، وقد يكون من مظاهر:{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} الأحزاب والمنظمات المتحاربة من أجل غايات مختلطة يحوطها اللبس والغموض، والدسائس الخفية. فمظاهر العذاب تتطور بتطور أدواته، أما القوانين والسنن فهي خالدة مترابطة، وأقدار -أي قوانين- متتالية يفضي بعضها إلى بعض، حين تفسق الأمم عن الصراط المستقيم،
1 الطبري، التفسير جـ7، ص220-221.
دون أن توقفها أهواء أو تحد من هولها، وعواصفها عصبيات ونزعات.
ثم إن هذه الأعراض الأربعة الرئيسية للأمة الميتة: أعراض الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، تتبادل التأثير السلبي، وتتظافر في إفراز مضاعفاتها الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية في واقع الأمة الميتة، ولقد فصل الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكر هذه المضاعفات في أحاديث كثيرة منها:
"يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عددًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل بأسهم بينهم"1.
وفي حدث آخر:
"إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء". فقيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: "إذا كان المغنم دولًا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وتعلم الغير الدين، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه. وبر صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا"2.
1 ابن ماجه، السنن جـ2 ص1332-1333، رقم 4019.
2 الترمذي، السنن، كتاب الفتن، جـ4، ص494، رقم 2210.