الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية، والكونية عند الفرد
أولًا: معنى الخبرة وأهميتها
الخبرة عمل وأثر. ويمكن أن نفهم معنى الخبرة إذا لاحظنا أنها تتألف من عنصرين اثنين.
الأول، هو العمل الذي يقوم به الإنسان.
والثاني، هو الأثر الذي يتركه العمل في نفس الإنسان وحياته.
ولا بد من تكامل العنصرين وحصولهما، فإذا حصل الأول ولم يحصل الثاني لا تسمى خبرة. ولذلك فجميع الأعمال التي نمارسها، والأحداث التي تمر بنا ولا تترك أثرا في أنفسنا وفي حياتنا الاجتماعية، وفي مستقبل الأجيال بعدنا لا تسمى خبرات. ومثل ذلك الآثار -المؤلمة أو السارة- التي تصيبنا دون عمل مسبق، ومخطط له هي أيضًا ليست خبرات؛ لأننا لا نفهم مقدماتها ولا نستطيع التعرف على ما يتلوها.
والعمل- له مكونان: عنصر عقلي، وعنصر مادي. والفصل بين العنصرين يشوه معنى العمل ويعطل فاعليته وأثره. ولذلك كانت الخبرة الحقيقية هي التي يشتمل العمل فيها على العلم والممارسة سواء. وهذا يعني أن نظم التربية التي تقتصر على تقديم المعلومات النظرية دون أن تصحبها تطبيقات، وممارسات يشترك فيها العقل والجسد سواء. أو دون أن تعمل على الإعداد العقلي والجسدي، فإن مثل هذه النظم لا تقدم خبرات مربية نافعة. ومثلها كذلك الطرق والأساليب التربوية، التي تعتمد على تلقين المعلومات والتعليمات الصارمة التي تمنع الحركة، وتعيق النشاط وتكرس
الانضباط والسكون، وتعاقب الطالب إذا قام بأية حركة تحت ستار الزعم أن هذه فوضى، ولهو يفسدان الخبرات العقلية. ولعلنا نلاحظ الثمرات الشاذة لهذه الصرامة، وما يصحبها من تواترات نفسية وعصبية عند المعلم والطالب سواء1.
والطالب حين يتعلم درسا فإنه يستعمل عقله، ويوظف حواسه -خاصة العين والأذن- كبوابات للمعرفة التي يتلقاها ولأخذ ما في الكتاب، أو ما على الخارطة والسبورة وشرح المعلم. وكما أنه يستعمل فاه ويديه وأعضاء الصوت فيه للكتابة والكلام. واستعمال هذه الأدوات بشكل جيد يتطلب تدريبا خاصا وهو جزء من "عمل" الخبرة المربية؛ لأنه يسهل التعلم ويعمقه. أما حين لا يحسن المتعلم استعمال قدراته العقلية، ولا يجيد توظيف حواسه -خاصة العين والأذن- فإن العمل لا يولد أثرًا، وبالتالي لا يكون الخبرة مربية نافعة. ولعلنا -هنا- ندرك الحكمة من وصف الله تعالى للذين لا ينتج لتفكيرهم ونظرهم، وسمعهم آثار مستقبلية تؤثر في حياة صاحبها، وفيمن حوله بالبلاهة والعمى، والصمم، والضلال، والغفلة:
أما العنصر الثاني من عناصر الخبرة، وهو -الأثر- فله مستويان: مستوى مادي:
وهو ما يحدث في حياة الإنسان من تقدم حضاري في أدوات الحياة ومعارفها،
ومستوى معنوي: وهو ما يتكون لدى الإنسان من وعي بمقاصد الحياة وغاياتها.
وفي القرآن يندرج المستوى الأول من الأثر تحت اسم -النعمة - وذلك عن أمثال قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] .
1 John Dewey، Democracy and Education. "New york: Macmillan Co. 1944" PP. 139.
ويندرج المستوى الثاني من الأثر تحت اسم "اليقين" المفضي إلى شكر الله وعبادته: أي طاعة أوامره واجتناب نواهيه. ولكن المتعلم لا يصل إلى هذا المستوى الثاني من -الأثر- إلا إذا تفاعل الجزء الأول من الخبرة -وهو العمل- مع توجيه الوحي الإلهي، الذي يرشد إلى الغايات والمقاصد النهائية. ويطلق القرآن على هذا التوجيه اسم -الذكر- لأنه يذكر بالغايات النهائية للخبرات الإنسانية. وتتكرر صفة "الذكر" هذه في مواضع عديدة من القرآن الكريم عند أمثال قوله تعالى:
- {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] .
- {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القرم: 17] .
وهذا يعني أن الخبرة المربية النافعة مهما كانت متواضعة هي التي تسهم في توليد أفكار، وتطبيقات جديدة تشارك في تقدم الحضارة المادية وحل المشكلات الاجتماعية، ورقي السلوك المؤدي إلى حفظ النوع البشري، ورقيه وخلوده. أما الخبرات التي لا تسهم في جلاء الحقائق ولا كشف القوانين ورقي السلوك الإنساني، فتتحول إلى مجرد كلام منمق يجعل التفكير معه مستحيلا وغير ضروري.
والسؤال الذي يطرح هنا: ما هي السمات التي تجعل الخبرة مربية نافعة؟
التفكير هو -أول- سمات الخبرة المربية؛ لأنه إدراك العلاقات بين العمل الذي نقوم به -أي العنصر الأول للخبرة- وبين الأثر الناتج عن هذا العمل -أي العنصر الثاني للخبرة. وسمة التفكير الصحيح أن يكون تكفيرًا مستمرا لا يتوقف ولا يكمل، وإنما هو في تساؤل دائم عما يجب القيام به من أعمال، وما سينتج عن هذه الأعمال من آثار جديدة. أما أن نملأ رؤوسنا بالأفكار وكأنها أشرطة تسجيل أو ملف قصاصات، ورقية مما تم عمله وإنجازه فهذا ليس بتفكير ولا بخبرة. فالتفكير إذن هو استمرارية الاهتمام بمصائرنا الحاضرة والمستقبلية خلال مجرى الأحداث، والمواقف المبهمة
والمعقدة في نهر التطور الكبير للحياة، ويكون دور التفكير خلال ذلك هو المساعدة في الوصول إلى حل المشكلات القائمة، أو تقديم مشروع للانتفاع بالأحداث الجارية، وتجنب السلبيات المرافقة على أساس الخبرات التي تقدمت قبله1. فالتفكير إذن عملية تعرف وبحث في الأشياء، وتنقيب في مكونات الحياة الجارية بغية الوقوف على القوانين التي تحكم أحداثها، والاستفادة منها في التطبيقات والمواقف المختلفة. وهو كما قلنا -عملية ربط مستمر بين العمل الذي نحاول القيام به، وبين الأثر الذي سيترتب على هذا العمل. وإلى هذا النمط من التفكير يشير قوله تعالى:
والسمة الثانية للخبرة المربية أنها تظل حية في الخبرات التي تتلوها، فيكون لها تأثير مستقبلي على الخبرات التابعة، وهو ما نسميه -استمرارية الخبرة. وهذا التأثير المستقبلي نوعان: تأثير مادي مثل خبرة نيوتن حين جلوسه تحت شجرة التفاح -إن صحت الرواية. فحين سقطت عليه تفاحة راح يتفكر في أسباب سقوطها، ولماذا سقطت إلى الأسفل ولم تنطلق إلى الأعلى أوالجوانب، ثم انتهى به التفكير إلى اكتشاف قوانين الجاذبية. فهذه خبرة ما زالت تفرز خبرات
أخرى، وما زالت تتفاعل مع التقدم العلمي فتؤثر به وتتأثر. والنوع الثاني تأثير اجتماعي مثل خبرات الرسل عليهم السلام، التي ما زالت تتفاعل مع مسيرة
الاجتماع الإنساني، وتسهم في إرشاده وحل مشكلاته. ترى كم أولئك الذين
سقطت عليهم ثمرة ما فلم يزد واحدهم عن مسحها، والتهامها دون أن يسهم بشيء في ميدان العلم، وكم
1 John Dewey، Democracy and Education، P. 151.
من مدع للتقوى والتدين التهم، ولم ير فيها قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] .
إن الخبرات المربية التي ظلت تؤثر في المستقبل هي خبرات كثيرة أسهم بها علماء ومفكرون وفلاسفة فقهاء كثيرون. ولكن يوجد إلى جانب هذه الخبرات أكداس من الخبرات الفكرية، والاجتماعية التي لا تزيد عن كونها أحمال تثقل كاهل الإنسان، وتشكل بعض الأغلال والآصار التي تكبل تفكيره وترهقه، وتعطل نشاطاته وتقوم سدودا منيعة بين يديه، ومن خلفه وتحول بينه وبين إبصار مظاهر الخلق الجديد والخبرات المتجددة المستمرة.
ومثل هذه الخبرات المكبلة للتفكير المرهقة للقدرات العقلية، وإن صنفت في قوائم التراث العلمي، والاجتماعي هي خبرات غير مربية، وهي معيقة لنمو خبرات أخرى؛ لأنها تنتج نقصا بالحساسية والاستجابة، أو تكون مخدرة غير حافظة للنظر، والبحث في العلاقات القائمة بين العمل والنتائج، أو تكون خبرات غير مترابطة ومجزأة1. أو تكون خبرات لأطوار مضت ولا علاقة لها بالحاضر أو المستقبل. ولعلنا -هنا- ندرك الحكمة من تنزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم ليقصص عليه بعض الخبرات التي مر بها الرسل السابقون، وإن الوحي لم يقصص خبرات رسل آخرين مضوا:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] .
والذين تحشى رءوسهم بهذه الخبرات المكبلة المعيقة لا يستفيدون من الأحداث والظواهر، والوقائع والأفكار والرسالات التي يمرون بها. وإلى أمثالهم يشير القرآن الكريم عند قوله تعالى:
1 John Dewey، Experience and Education، Tenth Education، "New york: Collier Books، 1969" PP. 25-26.