الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمقدرات المادية والاجتماعية. ومثال ذلك التضحيات التي قدمها علي بن أبي طالب وولداه الحسن والحسين، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن الزبير، وفقهاء التابعين من أمثال سعيد بن جبير، وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك وغيرهم.
ولكن عدم اكتمال -التحول النفسي- في الأقطار المفتوحة، خاصة الشام والعراق ومصر، جعل سكان هذه الأقطار يدورون في فلك "الأشخاص والأشياء" أكثر من الدوران في فلك "أفكار الرسالة"، ولذلك والوا -طلقاء مكة وثقيف- وساعدوهم في الوصول إلى قيادة الأمة الإسلامية، مكرسين بهذه المساعدة المرض الذي نزل في الأمة الإسلامية حين انتقلت من الدروان في فلك "أفكار الرسالة" إلى الدوران في فلك "الأشخاص" الذين يملكون القوة والممتلكات، وفتحوا الباب للشكل الثاني من المضاعفات، وهو الدروان في فلك أشخاص "العشيرة"، ونظرائها كالطائفة والمذهب.
الطور الثاني: طور الولاء للقبيلة ونظرائها "كالطائفة أو الحزب أو الإقليم
"
وتحول الأمة إلى وحدات قومية متنافسة ينقل عدوى التنافس داخل كل قومية، أي بين قبائلها وطوائفها، الأمر الذي يؤدي إلى انحسار -محور الولاء- من دائرة القوم إلى دائرة القبيلة أو الطائفة، أو الإقليم أو المذهب أو الحزب، مما يهيئ إلى انحسار "المثل الأعلى" الموجه للحياة لتصبح حقيقته هي:
- دوران "الأفكار والأشياء" في فلك "أشخاص" القبيلة أو الطائفة أو الحزب أو الإقليم أو المذهب:
واتصاف -المثل الأعلى- بهذه الصفة يؤدي إلى انحسار عناصر الأمة: أي عناصر الإيمان والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة من دائرة القوم إلى دائرة القبيلة، أو نظائرها واستبدال مضامينها القومية
بمضامين عشائرية أو طائفية أو إقليمية أو مذهبية أو حزبية. ثم تكون نتيجة هذا الانحسار هي تغير تركيب الأمة لتصبح معادلته كالتالي:
الأمة = الولاء للعشيرة "إيمان + هجرة ومهجر + جهاد ورسالة + إيواء +نصرة".
و= أفراد يؤمنون بالحمية القبلية + هجرة قبلية + جهاد ومصالح قبلية + إيواء قبلي + نصرة قبلية.
ومثلها معادلات الطائفة أو الإقليم أو الحزب أو المذهب. ويمكن أن نمثل للتركيب الجديد للأمة بالشكل التالي رقم "5":
ففي الشكل رقم "5" ينحسر -محور الولاء- من دائرة "أشخاص القوم" إلى دائرة "أشخاص القبيلة" أو الإقليم أو الطائفية أو الحزب، ويصبح الطابع العام في الأمة هو:
- "دوران -الأفكار والأشياء في فلك- أشخاص القبيلة -أو الطائفة أو الإقليم أو الحزب".
أما دائرة القوم فتتحول صلة الأمة بها إلى صلة "نفاق" لا صلة ولاء. أي تتحول إلى مخزون الأرصدة التراثية -مثلها مثل دائرة الأفكار- من قبل
لـ"تنفق" عند الحاجة من أجل -الولاء للقبيلة. أما الأفراد الذين يبقون على ولائهم لدائرة القوم، فحين يتفاعلون مع الأحداث على دائرة القوم لا يخرجون إلا بالخبرات السلبية والإحباطات، ومشاعر الخيبة والأسى والعدمية.
وفي طور الولاء للقبيلة "أو الطائفة أو الإقليم أو الحزب" تعدد محاور الولاء في الأمة طبقا لتعدد القبائل أو الطوائف، أو الأقاليم أو الأحزاب المكونة للأمة. أي إن "الأمم القومية" المتجمعة في "بالون" الأمة تمارس مزيدا من الانقسامات، فتتحول إلى أمم قبلية أو طائفية تتنافس داخل إطار "بالون أمة الرسالة"، وتضغط عليه لتمزقه. ولذلك تحدث مضاعفات مرضية في التربية، والاجتماع تتمثل ملامحها الرئيسية فيما يلي:
أ- مضاعفات مرض الولاء القبلي على مستوى التفاعل مع الخبرات الاجتماعية والكونية:
في طور الدوران في فلك "أشخاص" القبيلة أو الطائفية، أو الإقليم ينحسر مستوى التفاعل مع "الخبرات الاجتماعية والكونية" تبعا لانحسار "المثل الأعلى" في الأمة. ويكون التجسيد العملي لهذا الانحسار في ميادين التربية والعلم، وأوضح ما يكون في التغيرات التالية:
1-
تتغير فلسفة التربية، وأهدافها "ليقرأ" إنسان هذا الطور "باسم قبيلته" أو طائفته أو إقليمية، أي لإعزازها وتفوقها على نظائرها في القوة، والتملك والمكانة. أما في ميدان العلم فتضعف دوافع البحث وينقطع التفكر الجدلي بين إنسان هذا التطور وبين "الخبرات" الاجتماعية والكونية، وإلى هذا الانقطاع يشير قوله تعالى:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] .
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 32] .
ويتكرر الحديث في القرآن عن هؤلاء "المعرضين" الذين لا يرون فيما حولهم من أحداث اجتماعية، وظواهر كونية -آيات الله- الدالة على قدرته؛ لأن الإنسان الذي ينحصر ولاؤه وتفكيره في دائرة القبيلة، ونظائرها لا يمكن أن يرقى إلى شهود قوانين الكون وسنن الحياة.
2-
تحل الثقافة القبلية محل العلم والقانون والنظام، ويضيق مدلول المصطلحات لتستمد محتوياتها من دائرة العصبية القبلية ونظائرها، وتشيع -معرفة اللغو والتسلية- فتحل الأمثال والأشعار، والمقولات والأعراف القبلية والطائفية محل -أفكار الرسالة- ومعطيات العلم والمعرفة، ويسود العجز والكسل عن ابتكار الجديد، ويحل محله اجترار سير الآباء والفخر بتراث الأجداد. وإلى هذا يشير قوله تعالى:
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] .
3-
يدب الضعف في "اللغة القومية" ويزداد الجهل بـ"لغة الرسالة" فتنتعش اللهجات العامية داخل القومية الواحدة، وتتمزق الثقافات القومية إلى ثقافات قبلية أو عشائرية أو طائفية؛ لأن اللغات واللهجات والثقافات تتعدد بتعدد محاور الولاء الجديدة.
ب- مضاعفات المرض على القدرات العقلية، والإرادة العازمة والقدرة التسخيرية:
الولاء القبلي سرطان قاتل للقدرات العقلية؛ لأنه ينحسر بها إلى قدرة "الحفظ" دون سواها. إذ المحور في القيم القبلية أن يتلقى الفرد مقولات قبيلته دون تفكير، ثم يندفع لتنفيذها بحمية وحماس. وهذا ما عبر عنه الشاعر الجاهلي دريد بن الصمة بقوله:
فهل أنا إلا من غزية إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزية أرشد
والقرآن والحديث يطلقان على هذا المستوى من التلقي العقلي، والتنفيذ العملي اسم "حمية الجاهلية"؛ لأنه يلغي أنماط التفكير الصحيح، ويمنع الإرادات من النمو إلى الدرجة التي تفرز العزم اللازم لحمل الرسالة، ويحول دون نمو القدرات التسخيرية اللازمة لبناء الحضارات والمحافظة عليها. ولذلك تسخر البيئة إنسان هذا الطور بدل أن يسخرها، ويبدأ التقهقر في مدارج الانحطاط والتخلف.
جـ- مضاعفات المرض في مستوى التفاعل مع الرسالة "شبكة العلاقات الاجتماعية":
في هذا الطور يستشري الخلل في مستوى التفاعل مع توجيهات الرسالة بالقدر الذي يستشري الخلل في "المثل الأعلى" للأمة. وتظهر مضاعفات هذا الخلل في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تنظم العلاقات داخل الأمة وخارجها. أما مظاهر هذا الخلل فتكون كما يلي:
تصبح رابطة "الإيمان" بالقبيلة "أو نظائرها" هي الحمية المحددة لـ"جنسيات" الأفراد و"ثقافاتهم" الفعلية.
ويصبح الحي أو الإقليم الذي تسكنه القبيلة "أو نظائرها" هي الشكل الفعلي للمهجر وطبقا له يختار الأفراد مواقع سكناهم، وانتماءاتهم واتجاهاتهم.
ويتخذ "الجهاد" شكل المنافحة عن مصالح القبيلة والعمل في سبيلها.
ويتحدد مفهوم "الإيواء" في توفير الإقامة، والاطمئنان المعيشي بحدود القبيلة أو نظائرها.
ويتحدد مفهوم "النصرة" في الحمية القبلية المنافحة عن القبيلة أو نظائرها.
وتغير محتويات عناصر الأمة بهذا الشكل يؤدي إلى تغير مماثل في القيم والفضائل التي توجه شبكة العلاقات الاجتماعية فتصبح كما يلي:
1-
يتبدل سلم القيم في تجمعات الأمة ليصبح محوره "الحمية القبلية فوق الفكرة والقوم"، الأمر الذي يشيع الصراعات القبلية، وتنحسر الفضائل وصلات المودة إلى داخل القبيلة دون سواها حيث تسمها سمات الرياء والمصانعة والنفاق. أما خارج القبيلة فإن الريبة والشح، والمشاحنات تصبح الطابع المميز لشبكة العلاقات الاجتماعية على المستوى الفردي والجماعي.
2-
يختفي مفهوم -الولاء للأمة- وينحسر ليتحدد بحدود القبيلة أو الطائفة، أو الإقليم أو الحزب أو المذهب أو الطريقة -حسب رموز صنمية العصر. ففي عصر جاهلية ما قبل الإسلام تنافست القبائل والعشائر العربية على إقامة التماثيل والنصب الحجرية، وحرصت كل عشيرة على بناء كعبة خاصة بها حتى بلغ عدد كعبات ذلك العصر حوالي عشر، وظلت قائمة حتى هدمها الرسول -صلى الله عليه وسلم1.
وفي العصر الحديث تتنافس القبائل، والطوائف والأقاليم والأحزاب في أقطار العالم العربي، والإسلامي على نصب أصنام، وتماثيل بشرية في قيادات الدول والجيوش والوزارات والدوائر، والبرلمانات ورئاسة البلديات والمجالس القروية والمخاتير، والعمد لا بهدف تطوير الأمة والنهوض بها في الداخل وتحقيق صمودها أمام الأخطار من الخارج، وإنما بقصد رفعة القبيلة أو الطائفة أو الإقليم أو الحزب، وتحقيق طموحاتها في الجاه والمكانة والثروة والنفوذ.
3-
تمتد آثار عودة القيم القبائلية إلى ميدان العمل، والاقتصاد لتضعف نشاطه وتحد من فاعليته. إذ إن العمل والاشتغال بالزراعة والصناعة والحرف ممارسات تحتقرها القيم القبلية، وتجعلها من مهام الخدم والعبيد الأمر الذي يهبط بمستوى الإنتاج الزراعي، والصناعي ويقود إلى إهمال العناية بمشروعاته، كذلك لا تساعد محاور الولاء القبلية على شيوع روح التعاون
1 ابن هشام، السيرة، مجلد 1، ص83-88.
وقيام الشركات التي هي من الشروط الأساسية للاقتصاد الحديث. ويكون لذلك كله مضاعفات سلبية في أشكال التعامل، وينال من قيم المساواة والعدل في الأمة وتبذر بذور التفاوت الطبقي، والاستغلال الاجتماعي وتدني مستوى التدين والأخلاق العامة.
4-
تجتث القيم القبلية والطائفية، والإقليمية روح الولاء للأمة وتأتي على فضائله وثماره. فالقبلي لا يعرف مفهوم الأمة ولا يستوعبه، وينتهي ولاؤه عند حدود قبيلته، ولذلك تختفي فضائل الإحساس بالمسئولية والصالح العام، وتظهر الأنانية وعدم الإخلاص والاهتمام بالمصالح القبلية المحدودة الموقوتة. والقبلية سرطان قاتل لروح الشورى ومحاسبة الحاكم، ولذلك تفرز الاستبداد والتسلط وترسل إلى قيادة الأمة شيخان قبليا بألقاب وطقوس سياسية تناسب العصر، فيشيع التسلط الفردي والتصرف المطلق في الداخل، والعجز عن مواجهة التحديات في الخارج.
والأمم التي تشيع فيها قيم العصبيات القبلية أو الطائفية تمتلئ بالتناقضات التي تهدد بتفجير الأمة على الدوام. ولذلك يسهل على الأعداء استغلال هذه التناقضاات، والنفاذ إلى الأمة من خلالها، ولعل دول الطوائف في الأندلس خير مثال على ذلك حيث كانت محاور الولاء القبلية، والطائفية من أقوى الأسلحة التي استعملها الإسبان لتدمير الوجود الإسلامي هناك. ومثلها الدول -المدن التي كانت في بلاد الشلام قبيل الغزو الصليبي، والتي عرفت باسم -الأتابكيات- وسهلت نجاح هذا الغزو وتحالفت مع قادته ضد بعضها البعض، ولم تنج بلاد الشام من أخطار هذا الغزو، وتتخلص من الاحتلال إلا بعد القضاء على قيم العصبية القبلية، واختفاء تطبيقاتها السياسية الممثلة بالدول -المدن أو "الأتابكيات" التي مثلتها.
واستشراء مضاعفات المرض في الطور القبلي يفضي إلى مضاعفات أخرى تنقل الأمة إلى طور آخر هو طور -الولاء الأسري.