الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والدارسين فيها حتى يتحقق التفوق للقيم الإسلامية، فيشيع السلام ويكون الدين كله لله.
وهذا المفهوم الإسلامي للأمن، والسلام يختلف تمام الاختلاف عن مفهوم الأمن
القومي الذي ترفع لواءه المجتمعات المعاصرة، وتتخذه ذريعة للممارسة مختلف أشكال العدوان ضد بعضها البعض.
وتعريف -الجهاد- بالشكل المذكور أعلاه، يجعل ترجمة هذا -المصطلح- إلى اللغات الأخرى أمرا صعبا وضارا. فهو صعب؛ لأنه لا يوجد ما يقابله في اللغات الأخرى، وهو ضار؛ لأن الترجمة تشوه معناه كما حدث لترجمته إلى اللغة الإنكليزية التي أطلقت عليه اسم -الحرب المقدسة Holy War- حيث عممت مظهرا واحدا من مظاهر الجهاد، وطمست بقية المظاهر.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أثر تراث ما قبل الإسلام في تطبيقات الجهاد عند الشعوب الإسلامية. فالعربي فهم المظهر المرادف لثقافة الغزو الذي كانت القبائل العربية تمارسه قبل الإسلام. والمسلم الباكستاني جذبه المظهر النفسي المشابه لثقافة التقشف الهندوسي، التي كان عليها في جاهليته. وهذا كله من سوء التأويل الذي تتسبب به الموروثات الثقافية السابقة، إذا لم تقم التربية بدورها في الجهاد التربوي الذي يستهدف تزكية مناهج الفهم والتطبيق.
مظاهر الجهاد:
لا يكون الجهاد أصيلا شاملا ما لم تقم التربية بتأصيل معناه، وتبيان مظاهره حسب متطلبات الزمان والمكان. والذي يحدد عمل التربية في هذا المجال ثلاثة عوامل: الأول، درجة تطور البشرية. والثاني، نوع التحديات القائمة في الداخل والخارج. والثالث، نسخ المظهر الجهادي أو رفع النسخ عنه.
وانطلاقًا من هذه العوامل الثلاثة تنقسم مظاهر الجهاد إلى ثلاثة مظاهر رئيسه يندرج تحت كل منها تطبيقات عملية لا حصر لها ولا نهاية. وتتجدد بتجدد الخلق، وما يتطلبه الخلق الجديد من تجديد في القيم والوسائل، والعلاقات والمؤسسات. أما هذه المظاهر الرئيسة فهي:
1-
الجهاد التربوي، يستهدف الجهاد التربوي تحقيق أمرين: الأول، تزكية مكونات العمل الصالح عند الفرد، أي تزكية "القدرات العقلية" من أسر الهوى والجمود، وتزكية "المثل الأعلى" من سجن الحاجات الجسدية، وتزكية "الخبرات" من سلطان الآبائية والتقليد والخرافة، وتزكية "الإرادات" من الخوف والشهوات، وتزكية "القدرات" من العجز والكسل1.
والثاني، تزكية "الثقافة" السائدة المتعلقة بعناصر الأمة، أي عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد والرسالة، والإيواء، والنصرة، والولاية. وذلك بتفريغها من محتوى "الولاءات العصبية" ثم ملؤها بـ"الولاء للأفكار" الإسلامية كما سنعالج ذلك في هذا البحث.
والجهاد بالمفهوم المذكور عمل يجب أن يعتمد على التخطيط العلمي، ويجب أن يكون له مؤسساته وخبراؤه وميادينه، وطرقه ووسائله والمربون العاملون في مجالاته. وهذا ما وجه إليه القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولأهميته كانت المساواة بين مداد العلماء ودماء الشهداء2.
ولابد من الإشارة -هنا- إلى التشويه الذي أصاب مفهوم الجهاد التربوي في عهود التقليد، والجمود وتجزئة نظرية التربية الإسلامية، فقد أدى هذا التشويه إلى اعتبار الجهاد التربوي -جهادا نفسيًّا- يقع على عاتق الفرد المسلم وحده حيث يدخل في صراع عصبي مع دوافه وشهواته في مواقف
1 للوقوف على تفاصيل مكونات العمل الصالح الخمسة، راجع باب -تربية الفرد المسلم- في هذا الكتاب.
2 المناوي، فيض القدير شرح الجامع الصغير، جـ6، "القاهرة: دار الفكر، 1391/ 1972"، ص466، رقم 10026.
الحياة المختلفة حتى انتهى به هذا التصور إلى أحد مصيرين: إما الانفلات من تعالم الدين، وإما تلبس شخصية الدرويش، والمتزهد اللذين يقدمان بؤس الحياة وصرامتها بدل تنظيمها وجمالها.
2-
الجهاد التنظيمي، وغاية هذا الجهاد هو تنظيم "وسع" الأفراد المؤمنين الذين يتم تزكيتهم في مرحلة الجهاد التربوي، أي تنظيم قدراتهم المعنوية والمادية والبشرية بما يكفل حشدها، وتكاملها دون هدر أو نقص لتكون محصلة هذا التنظيم هو "إخراج الأمة المسلمة". ويوجه القرآن الكريم إلى أن "أمة المؤمنين" حين "تفقه" هذا الجهاد التنظيم وتتقنه، وتصبر على تكاليفه النفسية والمادية، فإن ما تحتاجه من -الأفراد المؤمنين- في هذا الجهاد ستكون نسبة عددهم 1-10 مقارنة بما تحشده "أمة الكافرين". والسبب في ذلك هو انسجام "فقه" المؤمنين مع قوانين الخلق الخلق، و"جهل" الكافرين بهذه القوانين واصطدامهم بها مما يجعلها تعمل لصالح "معكسر" المؤمنين، وهزيمة معكسر الكافرين:
أي لا يفقهون نظم الحشد والإعداد النفسي والاجتماعي، والمادي وأساليب التعبئة وتخطيط الاستراتيجيات، وأهمية الهدف الذي يتم من أجله الحشد والجهاد.
والجهاد التنظيمي بهذا المفهوم لا يكون عملا فرديا، وإنما هو مظهر استراتيجي يقتضي من الأمة أن تقيم له مؤسساته التربوية، والعلمية والتطبيقة، ومراكز البحث ووسائله ولوازمه، ولا بد من تجدد علومه والارتقاء بمؤهلات العاملين فيه، وتوفير التكاليف التي يحتاجها والممارسات التي يتطلبها.
3-
الجهاد العسكري، وغاية هذا الجهاد هو توجيه "أمة المؤمنين" لإزالة العوائق التي تحول دون إيصال "الرسالة الإسلامية" التي تستهدف
الحفاظ على بقاء النوع البشري ورقيه الإنساني. ويتجلى اقتران هذا النوع من الجهاد بالرسالة الإسلامية من خلال الضوابط العقدية، والأخلاقية التي تحكمه وتوجهه بحيث لا يخرج لحظة واحدة عن غايات الرسالة وأهدافها. وحين يتحقق هدف من أهداف الرسالة دون قتال يتوقف الجهاد القتالي، ويصير ممنوعا. والأمثلة على ذلك واضحة في التطبيقات النبوية. فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال:
"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة. فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم. فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
- "يا أسامة أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله!!؟ "
- قلت: كان متعوذًا. "أي يتظاهر بقولها ليعوذ بها من القتل".
فما زال "النبي" يكرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم"1.
وعن المقداد بن عمرو الكندي، وكان ممن شهد معركة بدر قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله! ".
قلت: يا رسول الله إنه قطع يدي ثم قال ذلك بعدما قطعها!؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال"2.
1 البخاري، تجريد الصحيح، جـ2، غزوة مؤتة، ص83.
2 مسند أحمد، "شرح الساعاتي"، جـ1، رقم 70، ص101.
وتذهب التوجيهات التي توجب دوران الجهاد في فلك الرسالة مدى أبعد فتحث الأمة المسلمة على العفو والامتناع عن الثأر، أو استرجاع ما صودر من ممتلكاتها حين تظهر على عدوها، ويتحقق لها النصر حتى تفتح بصائر الخصوم على نبالة الغاية الأساسية من الجهاد. قدم شريح بن ضبيعة الكندي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة. وحين وصل ترك خيله خارج المدينة، ثم دخل على النبي وحده وسأله:
- إلام تدعو الناس؟
قال: "إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة".
فقال شريح: حسن! إلا أن لي أمراء لا أقطع دونهم رأينا ولعلهم يسلمون ويأتون معي فلما خرج قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
- "لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم".
فمر شريح بماشية سارحة لأهل المدينة فساقها وطلبه المسلمون فعجزوا عن اللحاق به. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإذا بشريح هذا وأصحابه ومعهم الماشية التي نهبوها جاء يهديها إلى الكعبة. فقال لهم الرسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا شريح دونكم إياه". فلما توجه المسلمون لطلبه أنزل الله تعالى:
فلم يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الامتثال لأمر الله، والتوقف عن التعرض لشريح. ولقد كانت بقية مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخصوم نماذج حية للعفو، والامتثال للتوجيهات الإلهية التي تقرن الجهاد بالرسالة. فقد ناله صلى الله عليه وسلم القسط الأكبر من الأذى، ومع ذلك فقد كان يضبط أحزانه، ويتناسى آلامه وثأره ممن أبلغ الجرح فيه فها هو يعفو عن وحشي قاتل عمه حمزة في أحد، ويعفو عن ابن أبي سرح الذي ابتدع أبشع الأكاذيب عليه، ويعفو عن هند زوجة أبي سفيان المتآمرة الأولى على اغتيال حمزة، وآكلة كبده بعد
استشهاده، ويمنع أصحابه بعد فتح مكة من استرجاع دورهم، وممتلكاتهم التي صادرتها قريش عند هجرتهم إلى المدينة المنورة. ومثل هذا وذاك كثير.
وتحتاج التربية الإسلامية أن تحكم "فقه" كل مظهر من مظاهر الجهاد الثلاثة خاصة فيما يتعلق بنسخه أو رفع النسخ عنه1.
فالمظهر القتالي للجهاد يصبح مبررا، ومعمولا به حين تشيع قيم الكفر وتنتشر "ثقافة العدوان" و"اقتصاد السحت" اللذان يهددان بقاء النوع البشري ورقيه، وتكون الأمة الإسلامية قادرة عليه مهيأة له عدة وعددا. ولكن بروز اتجاهات الحوار بني المجتمعات الإنسانية "ينسخ" مظهر الجهاد القتالي، ويفرض على مؤسسات التربية الإسلامية أن تهيئ مفكرين مؤهلين، قادرين أن "يجادلوا" قادة الفكر العالمي بمناهج "أحسن" محتوى، و"أحسن" رسوخا وإحاطة بحقائق الوجود، وخبرات الحياة الإنسانية.
وارتداد الأمة إلى محاور الولاء "القبلي" و"الإقليمي" و"القومي" يقتضي من المؤسسات التربوية أن تبذل أقصى "وسعها" للجهاد التنظيمي، والاستراتيجي لبلورة شبكة علاقات جديدة تحديد الأطر، والاستراتيجيات التي تنظم "وسع" الأمة الإسلامية، ومقدراتها كلها وتهيؤها لعبور طور العالمية الذي يشكل محور التربية الإسلامية في إخراج الأمة الإسلامية، وتقيها من نسيان سنن الله في الاجتماع الإنساني، لئلا ينسيها الله منافع أنفسها في الدنيا والآخرة. فالنسخ أو رفعه يطبقان على مظاهر الجهاد الثلاثة حسب الظروف، والمناسبات مع الانتباه إلى أن المظاهر السلمية للجهاد تحتل منزلة الأولية في كل سياق قرآني حسب تدرج معين يشمل الجهاد بالمال، فإذا لم يكف
1 لابن تيمية "فقه" خاص في الناسخ والمنسوخ، وخلاصته أن النسخ أو رفعه أمر موقوت ودوري. وهما يتعاقبان بتغير الأحوال والظروف. ففي وقت معين ينسخ حكم ما، فإذا أعقبته ظروف تستدعي رفع النسخ، وعودة العمل بما كان منسوخا رفع النسخ عنه. والمؤلف هنا يتبنى هذا اللون من "الفقه"؛ لأنه يتفق مع صلاحية آيات الكتاب لكل زمان ومكان. [راجع كتاب -مقدمة في التفسير لابن تيمية] .
دعمته مقدرات النفس العقلية والتنظيمية، ومقدرات العمل والإنتاج، وأخيرًا المقدرات القتالية مع بقاء الباب مفتوحا لأية بادرة تجنح للسلم، وتوقف سفك الدماء.
وتتضح أهمية -الجهاد القتالي- في حياة الإنسانية كلها حين نرى أن الأفكار، والثقافات التي توجه سياسات غير المسلمين -خاصة في الغرب- لم تتخل بعد عن حب العدوان والسيطرة في الخارج، والطبقية والاستغلال في الداخل تطبيقات لمسلمة -الصراع والبقاء للأقوى- التي يتقبلها العقل الغربي دون مناقشة، ولا مراجعة وينطلق منها في ممارساته الإدارية والسياسية1. فالغرب يعتبر القتال الخارجي، والصراع الداخلي أداتين حيويتين من أدوات الصراع وبقاء الأقوى. وهو ينظر للقتال كضرورة بيولوجية لبتر العناصر الضعيفة لصالح العناصر القوية. ومن هنا اشتدت عناية الغرب بالحياة العسكرية، وإنتاج الأسلحة وتطويرها. وهذه فلسفة بعيدة الغور في تاريخ الفكر الغربي بدأت بعرقية اليونان والرومان وانتهت بـ"الدارونية الاجتماعية". والأفكار التي تناولت قتال الأقويا لإبادة الضعفاء عديدة، وكثيرة شاعت منذ مطلع القرن العشرين، وما زالت تنمو وتتوسع وتنتشر، وتوجه الممارسات السياسية والعسكرية2.
1 محور المسلمات الفكرية عند الغرب المعاصر هي فكرة "الصراع والبقاء للأقوى" التي نظرها في فلسفة "الدارونية الاجتماعية"، وانبثقت عنها جميع الأفكار والأعمال. وليست الديانات السماوية والأخلاق، والمثل العليا إلا -روافع قوى كما يسميها علماء السياسة الغريبون- لخدمة المسلمة المذكورة. وشيوع هذا اللون من الفكر أدى إلى سوء استعمال -علم النفس- وغيره من العلوم بهدف تسخير الأفراد والجماعات، والشعوب لصالح المترفين في الغرب وحلفائهم في العالم. ويحتاج العمل الإسلامي المستنير فهم العقل الغربي، وقيمه ومسلماته الفكرية وأساليب تفكيره بغية حل الإشكالية التاريخية الناجمة عن إفرازات هذا العقل في علاقات الغرب الاجتماعية كحاجته للبترول العربي، أو أشد. والغرب المعاصر من أفضل الخامات البشرية لحمل رسالة الإسلام العالمية.
2 راجع تفاصيل هذه الآراء، ونماذج من القائلين بها في كتاب -فلسفة التربية الإسلامية -الطبعة الثانية، ص156-159، وكتاب -أهداف التربية الإسلامية، للمؤلف.