المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة - أهداف التربية الإسلامية

[ماجد عرسان الكيلاني]

فهرس الكتاب

- ‌محتويات الكتاب:

- ‌الباب الأول: مقدمة أهمية البحث في أهداف التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: دور الأهداف في العملية التربوية:

- ‌الفصل الثاني: أزمة التربية الحديثة في ميدان الأهداف التربوية

- ‌الفصل الثالث: حاجة النظم والمؤسسات التربوية في الأقطار العربية، والإسلامية إلى أهداف تربوية إسلامية

- ‌الباب الثاني: تربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع: معنى "العمل الصالح" في التربية الإسلامية

- ‌الفصل الخامس: عناصر الإنسان الصالح المولدة للعمل الصالح

- ‌الفصل السادس: إحكام تربية القدرات العقلية "وظيفة العقل

- ‌الفصل السابع: تربية الفرد على تعشق المثل الأعلى

- ‌أولا: معنى المثل الأعلى:

- ‌ثانيا: أهمية المثل الأعلى:

- ‌ثالثا مستويات المثل الأعلى:

- ‌رابعا: أنواع المثل الأعلى:

- ‌خامسًا: تجديد المثل الأعلى

- ‌سادسًا: مستوى المثل الأعلى، وقيم المعلمين والمتعلمين

- ‌الفصل الثامن: تنمية الخبرات الدينية والاجتماعية، والكونية عند الفرد

- ‌أولًا: معنى الخبرة وأهميتها

- ‌ثانيا: الخبرات الكونية، والاجتماعية، والدينية

- ‌ثالثا: حدود الخبرة ودوائرها

- ‌رابعًا: الخبرات الكونية، والاجتماعية في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية، والإسلامية المعاصرة

- ‌خامسًا: الخبرات في التربية الحديثة المعاصرة

- ‌الفصل التاسع: تربية الإرادة عند الفرد

- ‌أولا: معنى الإرادة ووظيفتها

- ‌ثانيا: مستويات الإرادة

- ‌ثالثًا: مستوى الإرادة ونضجها

- ‌رابعا: مستوى الإرادة ومستوى المثل الأعلى

- ‌خامسًا: فقدان الإرادة وضعفها

- ‌الفصل العاشر: إحكام تنمية القدرة التسخيرية

- ‌أولا: معنى القدرة التسخيرية

- ‌ثانيا: درجة القدرة التسخيرية، وحدود الخبرة المربية

- ‌ثالثا: مستويات القدرة التسخيرية

- ‌رابعا: أهمية تنمية القدرات التسخيرية

- ‌الفصل الحادي عشر: إحكام توازن الإرادة العازمة، والقدرة التسخيرية في تربية الفرد

- ‌الفصل الثاني عشر: مشكلة تربية الفرد في أهداف التربية الحديثة

- ‌أولا: تضييق مفهوم العمل الصالح وحصره بالإنتاج المادي

- ‌ثانيًا: تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى -تلبية حاجات الجسد البشري

- ‌ثالثًا: حصر الإرادة في مستوى الرغبات والشهوات

- ‌رابعًا: حصر الخبرات بالكونية، والاجتماعية دون الدينية والأخلاقية

- ‌خامسا: حصر القدرات بالعقلية والجسدية دون الأخلاقية

- ‌الفصل الثالث عشر: أزمة تربية الفرد في المؤسسات التربوية القائمة في الأقطار العربية والإسلامية

- ‌الباب الثالث: إخراج الأمة المسلمة

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة

- ‌الفصل الخامس عشر: بدء ظاهرة "الأمة المسلمة" ونشأتها

- ‌الفصل السادس عشر: أهمية إخراج الأمة المسلمة

- ‌الباب الرابع: مكونات الأمة المسلمة

- ‌مدخل

- ‌الفصل السابع عشر: العنصر الأول الأفراد المؤمنون

- ‌أولا: أهمية الأفراد المؤمنين كعنصر من عناصر الأمة

- ‌ثانيا: أهمية الهوية والجنسية والثقافة الإيمانية في العالم المعاصر

- ‌ثالثا: دور التربية في إخراج الأفراد المؤمنين وتنمية تطبيقات الإيمان في الهوية والجنسية والثقافة

- ‌الفصل الثامن عشر: العنصر الثاني الهجرة والمهجر

- ‌معنى الهجرة

- ‌أهمية الهجرة:

- ‌دور التربية في بلورة عنصر الهجرة:

- ‌الفصل التاسع عشر: العنصر الثالث عنصر الجهاد والرسالة

- ‌معنى الجهاد

- ‌مظاهر الجهاد:

- ‌معنى الرسالة:

- ‌أهمية الرسالة في وجود الأمة:

- ‌دور التربية في تعزيز الرسالة:

- ‌الفصل العشرون: العنصر الرابع الإيواء

- ‌معنى الإيواء

- ‌مظاهر الإيواء:

- ‌أهمية الإيواء:

- ‌مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء:

- ‌الفصل الحادي والعشرون: العنصر الخامس النصرة

- ‌معنى النصرة

- ‌مظاهر النصرة:

- ‌الفصل الثاني والعشرون: العنصر السادس الولاية والولاء

- ‌معنى الولاية

- ‌درجات الولاية الإيمانية:

- ‌درجات ولاية غير المؤمنين:

- ‌التربية ورباط الولاية:

- ‌الفصل الثالث والعشرون: عناصر الأمة المسلمة ونظرية الحاجات في علم النفس الحديث

- ‌سلم الحاجات بين الأصول الإسلامية وعلم النفس الإنساني

- ‌ سلم الحاجات الإنسانية بين التطبيقات الإسلامية، والتطبيقات التي يوجه إليها علم النفس الحديث:

- ‌الباب الخامس: صحة الأمة ومرضها وموتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الرابع والعشرون: المرحلة الأولى مرحلة صحة الأمة وعافيتها مرحلة الدوران في فلك الأفكار

- ‌دوران الأشخاص والأشياء في فلك أفكار الرسالة وتطبيقاتها

- ‌الفصل الخامس والعشرون: مرحلة مرض الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشخاص

- ‌مدخل

- ‌الطور الأول: طور الولاء للقوم

- ‌الطور الثاني: طور الولاء للقبيلة ونظرائها "كالطائفة أو الحزب أو الإقليم

- ‌الطور الثالث: طور الولاء للأسرة

- ‌الطور الرابع: طور ولاء الفرد لنفسه

- ‌الفصل السادس والعشرون: مرحلة وفاة الأمة مرحلة الدوران في فلك الأشياء

- ‌مدخل

- ‌أولًا: أعراض الأمة الميتة

- ‌ثانيا: إعلان الوفاة وإجراءات الدفن

- ‌الفصل السابع والعشرون: مصير الأمة المتوفاة

- ‌الفصل الثامن والعشرون: ملاحظات حول الأمة

- ‌ملاحظات حول مفهوم الأمة المسلمة

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الماضي

- ‌ملاحظات حول التطبيقات الخاطئة لمفهوم الأمة المسلمة وعناصرها في الحاضر

- ‌ ملاحظات حول مراحل صحة الأمة ومرضها ووفاتها:

- ‌الفصل التاسع والعشرون: مشكلة التناقض بين إعداد الفريد وإخراج الأمة في أهداف التربية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌ أصحاب الرأي الناقد "نظرية التناقض بين الأهداف

- ‌ أصحاب "نظرية التآمر الطبقي في التربية

- ‌الباب السادس: تنمية الإيمان بوحدة البشرية والتآلف بين بني الإنسان

- ‌مدخل

- ‌الفصل الثلاثون: ضرورة التألف الإنساني كهدف من أهداف التربية المعاصرة

- ‌الفصل الحادي والثلاثون: الوحدة الإنسانية ومفاهيم التربية الدولية المعاصرة

- ‌الاتجاه الأول: المدرسة المثالية idealistic

- ‌الفصل الثاني والثلاثون: التربية الإسلامية ووحدة الجنس البشري

- ‌الأصول العقدية والاجتماعي لوحدة الجنس البشري

- ‌ الأساليب والوسائل العملية لتحقيق الوحدة الإنسانية:

- ‌الفصل الثالث والثلاثون: التناقضات القائمة بين مفاهيم التربية العالمية الإسلامية والتطبيقات الإقليمية الجارية في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الأول عالمية الإسلام في مواجهة الجنسيات الإقليمية والعصبيات المحلية التي يقوم عليها المجتمعات الحديثة في العالم الإسلامي

- ‌التناقض الثاني: الهجرة والسير في الأرض في مواجهة قيود السفر والتنقل

- ‌التناقض الثالث، الأمن الإسلامي في مواجهة الصراعات الإقليمية

- ‌التناقض الرابع، الحاجة لتكافل المسلمين في مواجهة قوانين الإقامة والعمل

- ‌التناقض الخامس، مكانة الإنسان واحترامه في مواجهة الاعتداء على حرماته، والاستهانة بكرامته

- ‌الفصل الرابع والثلاثون: توصيات

- ‌أولا: توصيات تتعلق بتربية الفرد المسلم أو الإنسان الصالح

- ‌ثانيا: توصيات تتعلق بإخراج الأمة المسلمة:

- ‌المصارد والمراجع

الفصل: ‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة

‌الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة

1-

معنى الأمة:

الأمة مصطلح من المصلحات التي ولدت بميلاد الرسالة الإسلامية مثل مصطلح "الصلاة" و"الزكاة" و"الإيمان" و"الإسلام" و"الكفر" و"النفاق" وهكذا.

والأمة تعني -لغويًّا- الجماعة من الناس التي تؤم جهة معينة1. وأما المعنى -الاصطلاحي، فقد تكررت الإشارة إليه في القرآن، والحديث ليدل على معان عديدة أهمها:

المعنى الأول، ورد مصطلح "الأمة" ليدل أن الأمة هي: إنسان + رسالة.

و"الرسالة" هنا هي مثل أعلى يقدم النموذج الأمثل للجوانب الخيرة في سلوك الفرد، والجماعة ليأتم به الناس ويسعدوا، ويقدم الصورة الشاملة للجوانب الشريرة ليتجنبها الناس ويسلموا من آثارها. ويشير القرآن الكريم إلى هذه -الرسالة في مواضع عديدة باسم- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وأما عن "الإنسان" فقد يكون فردا واحدا مثل الإشارة إلى إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى:

1 القرطبي، التفسير، جـ2، ص127.

ص: 179

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النمل: 120] .

ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل:

"يبعث أمة وحده"؛ لأنه لم يشرك في دينه شيئا1.

ومثل قول عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه فروة الأشجعي حين قال: كنت جالسا مع ابن مسعود فقال: إن معاذًا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين.

فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} . فأعاد قوله: إن معاذا. فلما رأيته أعاد عرفت أنه تعمد الأمر فسكت.

فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟

قلت: الله أعلم!

قال: الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به ويقتدى. والقانت: المطيع لله. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه معلما للخير مطيعا لله ورسوله2.

وقد يكون -الإنسان- جماعة من العلماء الدعاة الذين يحملون رسالة إصلاحية مثل قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] .

وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] .

وقد يكون -الإنسان- طائفة أو قبيلة لها معتقدها، ونهجها مثل قوله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] .

1 القرطبي، التفسير، جـ2، 127.

2 الطبري، التفسير، جـ14، ص190.

ص: 180

وقوله أيضا: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] .

وقد يكون -الإنسان- جيلا له فكر واحد ولون حضاري واحد مثل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134، 141] .

وقوله صلى الله عليه وسلم في جيل الصحابة الذي رباه:

"إن لكل أمة أجلًا، وإن لأمتي مائة سنة، فإذا مرت على أمتي مائة سنة أتاها ما وعدها الله"1.

وقد يكون -الإنسان- مجموعة متميزة بالتزامها مثل الرسالة ومبادئها. مثل قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110] .

وبسبب هذا التميز قال عمر بن الخطاب عند ذكر هذه الآية: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا! وفي تفسيرها قال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة2!

وقد يتسع مفهوم -الإنسان- حتى يشمل الإنسانية كلها إذا اجتمعت على فكرة واحدة ومنهاج واحد. مثل قوله تعالى:

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] .

{وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] .

والمعنى الثاني، فقد ورد مصطلح "أمة" ليعني -منهاج حياة- وما يتضمنه هذا المنهاج من معتقدات، وقيم وممارسات وتقاليد مثل قوله تعالى:

1 كنز العمال، جـ14، ص193 نقلا عن الطبراني في الكبير.

2 الطبري، التفسير، جـ4، ص43-44.

ص: 181

{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] .

والمعنى الثالث، فقد ورد مصطلح "أمة" ليعني -فترة زمنية- مثل قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] .

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8] .

والمعنى الرابع، حيث ورد مصطلح "أمة" ليعني مجموعة من الناس لها مهنة واحدة. مثل قوله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23] .

والمعنى الخامس، حيث ورد مصطلح "أمة" ليشير إلى المخلوقات الأخرى من الحيوانات والطيور، والحشرات التي تنتمي إلى جنس واحد. مثل قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] .

ولقد كشف علم الحيوان إن لكل نوع منه لغة تخاطب، وتقاليد في العمل والقيادة، ونمطا في الاجتماع وأسلوبا في الحياة.

ولقد تكرر شرح مصلح "الأمة" عند بعض المفسرين ليشير إلى المعاني التي مرت. فهو عند الطبري: "الجماعة والقرن من الناس"1. وهو "دين وملة"2. وهو "الناس كانوا على دين واحد فاختلفوا" وهو "الإمام يقتدى به في الخير"3. وهو "الأجل المحدود أو مجيء أمة وانقراض أخرى"4. وهو "الطريقة: أي كنتم خير أهل طريقة"5.

مما مر كله يمكن الخروج بالملاحظات التالية حول مفهوم "الأمة"

1 الطبري، جامع البيان، جـ1، ط3 "القاهرة: مكتبة الحلبي، بلا" ص563.

2 الطبري، نفس المصدر، جـ25، ص60، 61.

3 الطبري، نفس المصدر، جـ2، ص334-336.

4 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، جـ2، تفسير آية 128 من سورة البقرة، ص127.

5 الطبري، التفسير، جـ4، ص46.

ص: 182

ومعناه: الملاحظة الأولى، إن المعنى الاصطلاحي المتكامل لـ"الأمة" يتضمن عناصر أربعة: الأول، العنصر البشري، والثاني، العنصر الفكري. والثالث، العنصر الاجتماعي. والرابع، العنصر الزمني. فالأمة مجموعة من الناس تحمل رسالة حضارية نافعة للإنسانية، وتعيش طبقا لمبادئ هذه الرسالة. وتظل تحمل صفة -الأمة- ما دامت تحمل هذه الصفات. أما حين تفقدها فقد يطلق عليها اسم "الأمة"، ولكنها لن تكون النموذج الإسلامي للأمة تماما، كما يطلق اسم "دين" على أن دين، ولكن الدين المقبول عند الله هو الإسلام.

والملاحظة الثانية، إن العنصر الرئيسي في مفهوم الأمة هو عنصر -الرسالة- أي العطاء الذي تقدمه جماعة من الناس إلى بقية مجموعات الإنسانية ليساعد على بقاء النوع البشري ورقيه.

والملاحظة الثالثة، لا يشترط في العنصر البشري -أو المكون الأول للأمة- الروابط الدموية، أو الجغرافية، ولا الكم العددي. فقد يكون هذا العنصر فردًا واحدًا، وقد يكون فئة أو جماعة أو جيلا، أو أجيالا أو الإنسانية كلها ما دامت تحمل رسالة، ويوحدها فقه شامل لهذه الرسالة وتطبيقات فاعلة تنتج عنها نظم، وتطبيقات حضارية في ميادين الحياة المختلفة تسهم في بقاء النوع البشري ورقيه.

والملاحظة الرابعة، إن الأمة تتدرج في نشأتها، ونموها كتدرج نمو الجسد الإنساني فكما يبدأ الجسد نطفة، ثم علقة ثم يولد طفلا ثم يصبح صبيا، ثم يقوى شابا ثم يبلغ رجلا ثم يعود شيخا، وكما إن الإنسان الكامل هو الذي يبلغ النضج الجسدي والنفسي، والعقلي ويقوم بوظائفه كاملة. فكذلك الأمة تبدأ فردا واحدا، ثم تصير مجموعة صغيرة ثم قوما ثم شعبا حتى تنتهي بالدائرة الإنسانية كلها. والأمة الراشدة هي التي تبلغ درجة الرشد الحضاري والنوعي، وأبرز شارات هذا النضج هو حمل رسالة الدعوة للخير بمعناه الواسع وإشاعته، والنهي عن المنكر بمعناه الواسع ومحاربته.

ص: 183

والملاحظة الخامسة، إن الأمة الراشدة لا ينال من وحدتها تنوع الشعوب، والقبائل فيها ولا اختلاف الألوان والمهن والأماكن ما دامت هذه التنوعات لا تخرج عن وظيفتها في تسهيل التعارف، وما دامت ولاءاتها تدور في فلك الرسالة وحده، ولا تدور في فلك الأشخاص والأشياء، وما دام يعمل هذا التنوع كما يعمل التنظيم الإداري القائم على الوحدة في الغاية، والتنوع في الاختصاصات والوسائل.

والملاحظة السادسة، إن الأمة كيان صناعي يمكن بناؤه وهدمه. فهي تخرج إخراجا للقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الإخراج يقتضي منها بذل الجهد، والمقدرات لتطوير المؤسسات التربوية والإدارية للقيام بالدراسة والتخطيط المستمر لإحكام تطوير الأمة، وإخراجها بما تتطلبه وظيفتها حسب حاجات الزمان والمكان. وإلى إخراج هذه المؤسسات كان التوجيه الإلهي، مثل قوله تعالى:

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .

والملاحظة السابعة، إن استمرار الأمة في الحياة مرهون باستمرار حملها للرسالة، وما يتفرع عنها من تطبيقات في مجالات الحياة المختلفة. فإذا ضعفت عن حمل هذه الرسالة، أو توقفت فاعليتها أو تقلصت تطبيقاتها انتهى وجود الأمة وحل محلها أمة أخرى لا علاقة لها بسابقتها، وإن ربطتها بها روابط الدم والأرض واللغة والثقافة، وهذا ما فهمه كبار الصحابة الذين عايشوا بدء الرسالة وتطبيقاتها من قوله تعالى:

{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .

ولقد كان الخليفة عمر حريصا على تأكيد هذا الفهم، والتصور عن الأمة المسلمة حين قال في شرح الآية المذكورة:

ص: 184

"لو شاء الله لقال: أنتم، فكنا كلنا. ولكن قال: "كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وفي مناسبة أخرى قال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.

وفي حجة حجها قرأ هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها.

وعن ابن عباس في تفسير الذين هم خير أمة أخرجت للناس، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.

وعن أبي هريرة في تفسير الآية المذكورة: كنتم خير الناس للناس تجيئون بهم في السلاسل تدخلونهم في الإسلام1. ليدخلوا الجنة.

والملاحظة الثامنة، إن سعة دائرة الأمرة يحددها -مدى التواصل والاتصال- الذي تحدده تكنولوجيا العصر. فحين كان الإنسان يسير على قدميه، ويتواصل مشافهة مع بني جنسه تحددت دائرة الأمة بالحدود الجغرافية، التي أمكنه التحرك داخلها. وحين ركب الحمير، والخيل اتسعت الدائرة لتشمل أكثر من قريته، وحين اكتشف العربات التي تجرها الخيول ورموز الكلمات والكتابة ازدادت سعة دائرة الأمة لتشمل القارة حتى إذا وقف على عتبة ركوب الفضاء، والتواصل بالتلكس والتلفون والفاكس رسمت الرسالة الإسلامية للأمة دائرة تتسع للإنسانية كلها.

ويرتبط بهذا التطور الجغرافي لسعة رقعة الأمة تطور اجتماعي مواز يوسع دائرة القيم في كل طور فينقلها من القيم الأسرية إلى القبلية ثم

1 الطبري، التفسير، جـ4، ص43، 44.

ص: 185

القومية ثم العرقية ثم العالمية. وإلى هذا التدرج في الاتساع كانت الإشارة النبوية في أن كل رسول بعث إلى قومه، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة.

ولكن المشكلة في التطور المشار إليه أن البشرية كانت -وما زالت- تعجز عن مواكبته فتقع في خطأين اثنين: الأول، إن فئات كثيرة من البشر كانت، وما زالت تمارس الرفس والحران، فترفض الانتقال من قيم طور انتهى أمده إلى قيم طور حل زمنه. والثاني، إن نوازع الهوى المرتبط بمصالح أهل المال والسلطان كانت، وما زالت تشوه مفهوم الأمة فتنتقل -الرسالة أو الفكرة- من المحور إلى الهامش، وتحل محلها روابط الدم أو الوطن أو المصالح المادية، وبذلك يطلق مصطلح "الأمة" على من لا ينطبق عليه مواصفات الأمة كما حددها القرآن والحديث.

لذلك كان من أبرز مسئوليات المؤسسات التربوية الإسلامية أن تقوم في كل جيل بمراجعة المفاهيم المتحدرة من الآباء عن معنى -الأمة- ومكوناتها وروابطها بغية تجديد -المفاهيم- الصائبة، وتزكية المفاهيم المتداولة مما علق بها من نقص أو تشويه.

ص: 186