الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع عشر: مفهوم الأمة المسلمة
1-
معنى الأمة:
الأمة مصطلح من المصلحات التي ولدت بميلاد الرسالة الإسلامية مثل مصطلح "الصلاة" و"الزكاة" و"الإيمان" و"الإسلام" و"الكفر" و"النفاق" وهكذا.
والأمة تعني -لغويًّا- الجماعة من الناس التي تؤم جهة معينة1. وأما المعنى -الاصطلاحي، فقد تكررت الإشارة إليه في القرآن، والحديث ليدل على معان عديدة أهمها:
المعنى الأول، ورد مصطلح "الأمة" ليدل أن الأمة هي: إنسان + رسالة.
و"الرسالة" هنا هي مثل أعلى يقدم النموذج الأمثل للجوانب الخيرة في سلوك الفرد، والجماعة ليأتم به الناس ويسعدوا، ويقدم الصورة الشاملة للجوانب الشريرة ليتجنبها الناس ويسلموا من آثارها. ويشير القرآن الكريم إلى هذه -الرسالة في مواضع عديدة باسم- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما عن "الإنسان" فقد يكون فردا واحدا مثل الإشارة إلى إبراهيم عليه السلام عند قوله تعالى:
1 القرطبي، التفسير، جـ2، ص127.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النمل: 120] .
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل:
"يبعث أمة وحده"؛ لأنه لم يشرك في دينه شيئا1.
ومثل قول عبد الله بن مسعود الذي رواه عنه فروة الأشجعي حين قال: كنت جالسا مع ابن مسعود فقال: إن معاذًا كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين.
فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنما قال الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} . فأعاد قوله: إن معاذا. فلما رأيته أعاد عرفت أنه تعمد الأمر فسكت.
فقال: أتدري ما الأمة وما القانت؟
قلت: الله أعلم!
قال: الأمة الذي يعلم الخير ويؤتم به ويقتدى. والقانت: المطيع لله. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه معلما للخير مطيعا لله ورسوله2.
وقد يكون -الإنسان- جماعة من العلماء الدعاة الذين يحملون رسالة إصلاحية مثل قوله تعالى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] .
وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] .
وقد يكون -الإنسان- طائفة أو قبيلة لها معتقدها، ونهجها مثل قوله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] .
1 القرطبي، التفسير، جـ2، 127.
2 الطبري، التفسير، جـ14، ص190.
وقوله أيضا: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] .
وقد يكون -الإنسان- جيلا له فكر واحد ولون حضاري واحد مثل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134، 141] .
وقوله صلى الله عليه وسلم في جيل الصحابة الذي رباه:
"إن لكل أمة أجلًا، وإن لأمتي مائة سنة، فإذا مرت على أمتي مائة سنة أتاها ما وعدها الله"1.
وقد يكون -الإنسان- مجموعة متميزة بالتزامها مثل الرسالة ومبادئها. مثل قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110] .
وبسبب هذا التميز قال عمر بن الخطاب عند ذكر هذه الآية: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا! وفي تفسيرها قال ابن عباس: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة2!
وقد يتسع مفهوم -الإنسان- حتى يشمل الإنسانية كلها إذا اجتمعت على فكرة واحدة ومنهاج واحد. مثل قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] .
والمعنى الثاني، فقد ورد مصطلح "أمة" ليعني -منهاج حياة- وما يتضمنه هذا المنهاج من معتقدات، وقيم وممارسات وتقاليد مثل قوله تعالى:
1 كنز العمال، جـ14، ص193 نقلا عن الطبراني في الكبير.
2 الطبري، التفسير، جـ4، ص43-44.
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] .
والمعنى الثالث، فقد ورد مصطلح "أمة" ليعني -فترة زمنية- مثل قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] .
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8] .
والمعنى الرابع، حيث ورد مصطلح "أمة" ليعني مجموعة من الناس لها مهنة واحدة. مثل قوله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23] .
والمعنى الخامس، حيث ورد مصطلح "أمة" ليشير إلى المخلوقات الأخرى من الحيوانات والطيور، والحشرات التي تنتمي إلى جنس واحد. مثل قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] .
ولقد كشف علم الحيوان إن لكل نوع منه لغة تخاطب، وتقاليد في العمل والقيادة، ونمطا في الاجتماع وأسلوبا في الحياة.
ولقد تكرر شرح مصلح "الأمة" عند بعض المفسرين ليشير إلى المعاني التي مرت. فهو عند الطبري: "الجماعة والقرن من الناس"1. وهو "دين وملة"2. وهو "الناس كانوا على دين واحد فاختلفوا" وهو "الإمام يقتدى به في الخير"3. وهو "الأجل المحدود أو مجيء أمة وانقراض أخرى"4. وهو "الطريقة: أي كنتم خير أهل طريقة"5.
مما مر كله يمكن الخروج بالملاحظات التالية حول مفهوم "الأمة"
1 الطبري، جامع البيان، جـ1، ط3 "القاهرة: مكتبة الحلبي، بلا" ص563.
2 الطبري، نفس المصدر، جـ25، ص60، 61.
3 الطبري، نفس المصدر، جـ2، ص334-336.
4 القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، جـ2، تفسير آية 128 من سورة البقرة، ص127.
5 الطبري، التفسير، جـ4، ص46.
ومعناه: الملاحظة الأولى، إن المعنى الاصطلاحي المتكامل لـ"الأمة" يتضمن عناصر أربعة: الأول، العنصر البشري، والثاني، العنصر الفكري. والثالث، العنصر الاجتماعي. والرابع، العنصر الزمني. فالأمة مجموعة من الناس تحمل رسالة حضارية نافعة للإنسانية، وتعيش طبقا لمبادئ هذه الرسالة. وتظل تحمل صفة -الأمة- ما دامت تحمل هذه الصفات. أما حين تفقدها فقد يطلق عليها اسم "الأمة"، ولكنها لن تكون النموذج الإسلامي للأمة تماما، كما يطلق اسم "دين" على أن دين، ولكن الدين المقبول عند الله هو الإسلام.
والملاحظة الثانية، إن العنصر الرئيسي في مفهوم الأمة هو عنصر -الرسالة- أي العطاء الذي تقدمه جماعة من الناس إلى بقية مجموعات الإنسانية ليساعد على بقاء النوع البشري ورقيه.
والملاحظة الثالثة، لا يشترط في العنصر البشري -أو المكون الأول للأمة- الروابط الدموية، أو الجغرافية، ولا الكم العددي. فقد يكون هذا العنصر فردًا واحدًا، وقد يكون فئة أو جماعة أو جيلا، أو أجيالا أو الإنسانية كلها ما دامت تحمل رسالة، ويوحدها فقه شامل لهذه الرسالة وتطبيقات فاعلة تنتج عنها نظم، وتطبيقات حضارية في ميادين الحياة المختلفة تسهم في بقاء النوع البشري ورقيه.
والملاحظة الرابعة، إن الأمة تتدرج في نشأتها، ونموها كتدرج نمو الجسد الإنساني فكما يبدأ الجسد نطفة، ثم علقة ثم يولد طفلا ثم يصبح صبيا، ثم يقوى شابا ثم يبلغ رجلا ثم يعود شيخا، وكما إن الإنسان الكامل هو الذي يبلغ النضج الجسدي والنفسي، والعقلي ويقوم بوظائفه كاملة. فكذلك الأمة تبدأ فردا واحدا، ثم تصير مجموعة صغيرة ثم قوما ثم شعبا حتى تنتهي بالدائرة الإنسانية كلها. والأمة الراشدة هي التي تبلغ درجة الرشد الحضاري والنوعي، وأبرز شارات هذا النضج هو حمل رسالة الدعوة للخير بمعناه الواسع وإشاعته، والنهي عن المنكر بمعناه الواسع ومحاربته.
والملاحظة الخامسة، إن الأمة الراشدة لا ينال من وحدتها تنوع الشعوب، والقبائل فيها ولا اختلاف الألوان والمهن والأماكن ما دامت هذه التنوعات لا تخرج عن وظيفتها في تسهيل التعارف، وما دامت ولاءاتها تدور في فلك الرسالة وحده، ولا تدور في فلك الأشخاص والأشياء، وما دام يعمل هذا التنوع كما يعمل التنظيم الإداري القائم على الوحدة في الغاية، والتنوع في الاختصاصات والوسائل.
والملاحظة السادسة، إن الأمة كيان صناعي يمكن بناؤه وهدمه. فهي تخرج إخراجا للقيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا الإخراج يقتضي منها بذل الجهد، والمقدرات لتطوير المؤسسات التربوية والإدارية للقيام بالدراسة والتخطيط المستمر لإحكام تطوير الأمة، وإخراجها بما تتطلبه وظيفتها حسب حاجات الزمان والمكان. وإلى إخراج هذه المؤسسات كان التوجيه الإلهي، مثل قوله تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .
والملاحظة السابعة، إن استمرار الأمة في الحياة مرهون باستمرار حملها للرسالة، وما يتفرع عنها من تطبيقات في مجالات الحياة المختلفة. فإذا ضعفت عن حمل هذه الرسالة، أو توقفت فاعليتها أو تقلصت تطبيقاتها انتهى وجود الأمة وحل محلها أمة أخرى لا علاقة لها بسابقتها، وإن ربطتها بها روابط الدم والأرض واللغة والثقافة، وهذا ما فهمه كبار الصحابة الذين عايشوا بدء الرسالة وتطبيقاتها من قوله تعالى:
ولقد كان الخليفة عمر حريصا على تأكيد هذا الفهم، والتصور عن الأمة المسلمة حين قال في شرح الآية المذكورة:
"لو شاء الله لقال: أنتم، فكنا كلنا. ولكن قال: "كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وفي مناسبة أخرى قال: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
وفي حجة حجها قرأ هذه الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها.
وعن ابن عباس في تفسير الذين هم خير أمة أخرجت للناس، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
وعن أبي هريرة في تفسير الآية المذكورة: كنتم خير الناس للناس تجيئون بهم في السلاسل تدخلونهم في الإسلام1. ليدخلوا الجنة.
والملاحظة الثامنة، إن سعة دائرة الأمرة يحددها -مدى التواصل والاتصال- الذي تحدده تكنولوجيا العصر. فحين كان الإنسان يسير على قدميه، ويتواصل مشافهة مع بني جنسه تحددت دائرة الأمة بالحدود الجغرافية، التي أمكنه التحرك داخلها. وحين ركب الحمير، والخيل اتسعت الدائرة لتشمل أكثر من قريته، وحين اكتشف العربات التي تجرها الخيول ورموز الكلمات والكتابة ازدادت سعة دائرة الأمة لتشمل القارة حتى إذا وقف على عتبة ركوب الفضاء، والتواصل بالتلكس والتلفون والفاكس رسمت الرسالة الإسلامية للأمة دائرة تتسع للإنسانية كلها.
ويرتبط بهذا التطور الجغرافي لسعة رقعة الأمة تطور اجتماعي مواز يوسع دائرة القيم في كل طور فينقلها من القيم الأسرية إلى القبلية ثم
1 الطبري، التفسير، جـ4، ص43، 44.
القومية ثم العرقية ثم العالمية. وإلى هذا التدرج في الاتساع كانت الإشارة النبوية في أن كل رسول بعث إلى قومه، وأنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة.
ولكن المشكلة في التطور المشار إليه أن البشرية كانت -وما زالت- تعجز عن مواكبته فتقع في خطأين اثنين: الأول، إن فئات كثيرة من البشر كانت، وما زالت تمارس الرفس والحران، فترفض الانتقال من قيم طور انتهى أمده إلى قيم طور حل زمنه. والثاني، إن نوازع الهوى المرتبط بمصالح أهل المال والسلطان كانت، وما زالت تشوه مفهوم الأمة فتنتقل -الرسالة أو الفكرة- من المحور إلى الهامش، وتحل محلها روابط الدم أو الوطن أو المصالح المادية، وبذلك يطلق مصطلح "الأمة" على من لا ينطبق عليه مواصفات الأمة كما حددها القرآن والحديث.
لذلك كان من أبرز مسئوليات المؤسسات التربوية الإسلامية أن تقوم في كل جيل بمراجعة المفاهيم المتحدرة من الآباء عن معنى -الأمة- ومكوناتها وروابطها بغية تجديد -المفاهيم- الصائبة، وتزكية المفاهيم المتداولة مما علق بها من نقص أو تشويه.