الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم ينفروا في سبيل الله عذبهم بأن يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض"1.
وفي موضع آخر يحذر الله من نتائج التخلي عن حمل الرسالة، وتكاليفها في الإنفاق والجهاد فيقول:
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
ولعل مناسبة الآية تلقي ضوءا ساطعا على الأثر المنيع للرسالة، والجهاد في الحفاظ على وحدة الأمة ونجاتها. فحين كان المسلمون على أبواب القسطنطينية، واصطفوا للقتال حمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيه، ثم خرج مقبلا فصاح الناس: سبحان الله ألقى بيديه إلى التهلكة!!
فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية على غير التأويل. وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار. إنا لما أعز الله تعالى دينه، وكثر ناصريه قلنا بعض لبعض سرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت فلو أننا قمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها. فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما هممنا به فقال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا فنصلحها. فأمر بالغزو"، فمال زال أبو أيوب غازيا في سبيل الله حتى قبضه الله عز وجل"2.
1 ابن تيمية، الفتاوى، التفسير، مجلد 15، ص44، 45.
2 الواحدي، أسباب النزول، ص37، 38.
السيوطي، لباب النقول، ص37، نقلًا عن الترمذي وأبي داود وابن حبان والحاكم.
دور التربية في تعزيز الرسالة:
تتحمل التربية الإسلامية مسئولية كبيرة إزاء بلورة هدف الرسالة
ووسائل حملها وغرس الولاء لها. ويمكن القول إن هذه المسئولية تتمثل في أمور أربعة هي:
الأول؛ أن تبلور مضمون "رسالة العصر" التي يجب على الأمة حملها. إذ لا يكفي لبلورة الرسالة تلك الصيحات الخطابية التي تتوالى في الكتب والمجلات والصحف، والندوات وفوق المنابر: عودوا إلى الإسلام! وإنما لا بد من هيئات ومؤسسات تربوية، وفكرية ومراكز بحوث جامعية وغير جامعية متخصصة وظيفتها بلورة علوم سياسية، وإدارية ونفسية إسلامية يكون على رأسها كيفية إخراج الأمة المسلمة، وصيانتها من الضعف والتفكك، وتطويرها حسب متطلبات العصور والأجيال. ويتبلور مضمون الرسالة من خلال النظر في خمسة مصادر هي:
أ- النظر في حاجات العصر الحاضر. وهو حاضر يشمل قرية الكرة الأرضية كلها.
ب- النظر في مصادر قيم الرسالة، والسنة نظرا متحررا من قيود الآبائية والتقليد.
جـ- النظر في "تاريخ فقه" الأسلاف المسلمين، وفي "خبرات" غير المسلمين، وما أنجزوه من مظاهر حكمة بناء الأمم نقدا وتحليلا، وإيجابا وسلبا.
د- النظر في تاريخ المجتمعات البشرية، وكيف عملت قوانين الخلق -وما زالت تعمل- في تطورها إيجابا وسلبا.
هـ- البحث الدائم في الطبيعة الإنسانية، وأساليب تفاعلها مع البيئة المحيطة إيجابا وسلبا.
وفي جميع هذه الدراسات والميادين لا بد من -التقويم والمراجعة- المستمرين لنتائج النظر، والبحث المشار إليهما، وتطوير استراتيجيات بناء الأمة وتجديدها في ضوء نتائج المراجعة، والتقويم المشار إليهما.
ومن الطبيعي أن يلحق بمحتوى الرسالة العناية بـ"اللغة" التي تحمل هذا المحتوى وتنقل معانيه إلى الآخرين. وتنفرد الرسالة الإسلامية في هذا المجال في أن شيوع اللغة العربية، والارتقاء بدراستها بين -المؤمنين- بهذه الرسالة أمر ترتقي ضرورته إلى مستوى الرسالة نفسها؛ لأن اتقان اللغة العربية هو وحده الذي يمكن المؤمنين في أي مكان، وزمان من قراءة -اللغة الإلهية- في القرآن الكريم، وقراءة النصوص الأصلية للحديث النبوي، واستخراج حاجات العصر بما يحقق المعاصرة والواقعية والأصالة. ولن تغني الترجمات عن العربية بحال من الأحوال -إلا على سبيل الضرورة المؤقتة- لأن المترجم مهما ارتقى فكره وآداؤه اللغوي -إنما يقدم لقارئيه- فهمه للإسلام -وليس الإسلام نفسه. وكذلك "الفقيه" يقدم لقارئيه فهمه للإسلام، وليس الإسلام نفسه. والوقوف عند فهم الآخرين أمر له خطورته في الفصل بين المسلم، وبين القرآن وفي جمود الحضارة والاجتماع.
ويقدم لنا التاريخ الإسلامي الأدلة الوافرة الكافية على أن انتشار اللغة العربية في الأقطار المفتوحة قد أسهم إلى حد كبير في فقه الرسالة نفسها، وتطوير "ثقافة" إسلامية مشتركة شكل إحدى روابط الأمة الفرعية، ودعمت العناصر الرئيسية للأمة وقوتها، وشدتها بعضها إلى بعض وحين انحسرت اللغة العربية من أقطار الإسلام -الواقعة خارج المنطقة العربية- انقطعت شعوب هذه الأقطار عن الاتصال المباشر بالقرآن والسنة، وانحسرت الثقافة الإسلامية المشتركة، وفتح الطريق لعودة "الثقافات" المحلية القديمة غير الإسلامية بقيمها وتقاليدها، وتطبيقاتها المختلفة.
والأمر الثاني، أن تعمق التربية الإسلامية في نفوس -المتعلمين- الشعور بالمسئولية إزاء الرسالة، وأهمية العمل الجماعي وعدم الاكتفاء بالتدين الفردي، وأن تنمي فيهم القدرات العقلية، والمهارات العملية اللازمة لحمل هذه الرسالة وتحويلها إلى ممارسات وتطبيقات ناجحة. ولا بد هنا من الانتباه إلى التراث التربوي الذي انحدر من التاريخ الإسلامي وتسلمته
مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، ومضت في تطبيقه دون مراجعة أو تقويم. إذ يكشف النظر في هذا التراث على أنه ينقسم إلى قسمين: التراث الذي انحذر من عصور الازدهار، وفيه نرى العناية بتنمية العمل الجماعي وتنمية الولاء للرسالة، وتراث انحدر من عصور الركود، والجمود وفيه انحسرت التربية من حياة الجماعة لتركز على -إعداد الفرد، -الموالي للمذهب أو الطريقة، ويتهيأ
منذ سنوات الولادة للانتقال إلى الآخرة، وكأنه لا يمر بالدنيا. ولذلك اتسمت مؤلفات هذه الحقبة الراكدة بالتوجه إلى -الفرد المسلم لا إلى الأمة المسلمة- وعدم الاشتغال بالمهارات اللازمة للحياة الدنيا.
والأمر الثالث، أن تقوم التربية الإسلامية بتجديد المهارات الجهادية، ونوع الجهاد اللازم للزمان والمكان، وأشكال التنظيم، والتخطيط اللازمين لتعبئة القدرات، والمهارات التي تقوم بتنميتها، وأن تهيئ لتوزيع الأدوار بين أفراد أمة الرسالة على أساس الجدارة، والاعتبارات التي تمليها متطلبات حمل الرسالة.
والأمر الرابع، تحديد سعة دائرة المسئولية التي يجب إعداد متعلمي الزمان والمكان للعمل داخلها؛ لأن الدائرة النهائية لهذه المسئولية تشمل الإنسانية كلها -كما يذكر الإمام الرازي- فهو يرى أنه ما من شخص إلا ويكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كان مؤمنًا فهو من أمة الاتباع، وإن كان كافرا فهو من أمة الدعوة، وإن هذا معنى قوله: بعثت إلى الأحمر والأسود1.
ومثل الرازي -ابن تيمية- الذي ذكر أن الله ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم وأخرج أمته لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأقام علماءها مقام الأنبياء في تبليغ الرسالة"2.
1 الرازي، التفسير، جـ8، ص146.
2 ابن تيمية، الفتاوى، توحيد الألوهية، جـ1، ص2، 3.