الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: أنواع المثل الأعلى:
تقسم نماذج المثل الأعلى إلى أربعة أنواع هي:
أ- مثل أعلى حق وتطبيق حق:
وهذا النموذج يعطي نتائج إيجابية في حياة الإنسان. ومثاله نموذج المثل الأعلى الذي اعتمدته التربية النبوية. إذا استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالمثل الأعلى الذي حمله وبالتطبيق الصائب لهذا المثل أن يرفع إرادة الفرد المسلم إلى درجة بذل النفس، والمال في سبيل خدمة الرسالة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم. كذلك شهدت ثمار التطبيق العملي، وحقائق العلم لقيمة هذا
المثل الأعلى وانسجامه مع طبيعة الإنسان، وإسهامه في رقي النوع الإنساني.
ب- مثل أعلى حق وجهل في التطبيق:
وهذا يعطي نتائج أقل من سابقه. والنتائج الإيجابية التي يعطيها لا ترجع إلى مهارة تربوية في توليد الإرادة، وإنما ترجع إلى ما في المثل الأعلى من قوة ذاتية وإلى الاستمرارية المتحدرة من فترة التطبيق الحق "أ".
وهذا ما حصل للأمة الإسلامية خلا عصور التحول من -"الخلافة الراشدة"- إلى "الملك الجبري"، ثم إلى عصر "الملك العضوض" حتى انتهت إلى ما هو قائم في واقع المسلمين المعاصرين الذين حفظهم الإسلام، وليسوا هم الذين حفظوه.
وقد يساء فهم هذه الظاهرة -ظاهرة تخلف المسلمين- فلا ينسب هذا التخلف إلى عجز نظم التربية والتوجيه، والإدارة القائمة في العالم الإسلامي عن بلورة "المثل الأعلى" الحق وتطبيقه، ولا ينسب -كذلك- إلى نوع المشتغلين بهذه المسئوليات، بل يظن أن السبب هو الإسلام نفسه. ومثل هذا الظن يوقع في البلبلة الفكرية والتخبط، ويدفع كثيرًا من أبناء المجتمعات الإسلامية إلى البحث عن "مثل أعلى" آخر بين المذاهب الفكرية، والفلسفات الأخرى خاصة إذا كانت هذه المذاهب من النوع الثالث الذي سيتلو شرحه أي: مثل أعلى باطل وتطبيق جيد.
جـ- مثل أعلى باطل وتطبيق جيد:
وهذا يعطي نسبة عالية من النتائج. ومن أمثلته -المثل الأعلى- الذي طرحته بعض الفرق المتطرفة في التاريخ الإسلامي كالباطنية والحشاشين الذين استطاعوا إقامة الفاطمية، وتحديها للخلافة العباسية لقرون.
ومثله خارج إطار الحضارة الإسلامية ما حصل في العصر الحديث في أقطار كاليابان، وألمانيا وروسيا قبل الحرب العالمية الثانية. فقد استطاعت نظم التربية ومؤسسات التوجيه فيها بالتطبيق الجيد أن ترفع إرادة شعوبها إلى درجة بذل النفس، والمال في سبيل خدمة مثلها الأعلى والذي دار محتواه حول رفعة جنس بشري معين، أو طبقة معينة واستعلائها على الأجناس الأخرى. وكما حصل في الصين بعد الحرب العالمية الثانية. وكما هو قائم في الأقطار المعاصرة التي توصف بالتقدم والتفوق في القارتين الأوربية والأمريكية.
د- مثل أعلى باطل وتطبيق باطل:
وهذا النوع من "المثل الأعلى" لا يأتي بنتائج قليلة أو كثيرة. ويمثل هذا النموذج كثير من المفاهيم الخاطئة للإسلام كالمذهبيات الضيقة، والتصوف المنحرف والدروشة، وقيم العصبيات القبلية والإقليمية. ويقابلها كثير من قيم الدكتاتورية المتخلفة في بعض أقطار العالم الثالث.
ولذلك تلجأ الدول الكبرى المستعمرة -بناء على توصية الخبراء في ثكناتها الفكرية المسماة Think Tanks- إلى تصدير نماذج باطلة من "المثل الأعلى" إلى العالم الثالث أو بعث الحياة في نماذج باطلة قديمة من تراث الماضي -كالفرعونية والأشورية والشيوعية- ثم توجيه أبناء هذا العالم إلى تطبيق هذه النماذج تطبيقًا باطلا قائما على الارتجال والحمية، وانتقاص الإنسان، لتكون ثمرة هذا التطبيق أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم، وتبرز الانتماءات الطبقية والعصبيات الضيقة والحزبيات، والإقليميات المتصارعة والفتن الداخلية، وشيوع
العجز والكسل المؤديين إلى الفقر، والمرض في الداخل وغلبة الدين وقهر الرجال
في الخارج، وغير ذلك مما يناسب مصالح الدول الكبرى في الهيمنة والاستغلال.
ويمكن أن تنشأ عن كل من الأنواع الأربعة للمثل الأعلى حركات تاريخية مختلفة. فالأول يكتسح العالم بسرعة ويفرز حضارة راقية الغايات والوسائل، وهذه هي حال المثل الأعلى الذي حمله المد الإسلامي الأول. والثاني يبقي ما في المثل الأعلى من صلابة، ولكن دون استفادة حضارية منه، وهذه هي حالة الإسلام في العالم الإسلامي المعاصر. وهذه الحالة الثانية هي التي تقبل المراجعة، والتغيير ثم العودة بإصلاح الإنسان، وهو ما يدور حوله الكفاح والصارع في العالم الإسلامي بين الذين يرون الحاجة إلى تطوير المثل الأعلى، ويختلفون كثيرا في معنى التطوير. ففي حين يود أناس يريدون تغير المثل الأعلى، فإنه يوجد
آخرون يريدون إعادة فهمه، وتطبيقه على وجهه الصحيح، بينما هناك فريق ثالث يريدون الإبقاء على -المثل الأعلى- كما فهمه الآباء دونما حاجة إلى تطوير1. والثالث، ينجح في إفراز حضارة متقدمة الوسائل متخلفة الغايات. وهذه هي حال المثل الأعلى الذي ترفعه الحضارة الغربية المعاصرة.
1 جودت سعيد، العمل، ص155-157.