الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإلى أن "تتزكى" -العقليات غير المسلمة- من هذه الفلسفات العدوانية سيظل الجهاد الإسلامي حاجة إنسانية ماسة لردع العناصر المترفة الخربة، وإبطال سياساتها في الفتنة والفساد الكبير، ومن أجل إعادة التوازن والعافية للاجتماع البشري كلما اضطربت قيم العدل والمساواة، والحرية في التملك والعلاقات الإنسانية.
لذلك لا يكون الجهاد إسلاميا إلا إذا اقترن بالرسالة الإسلامية، ووضع نفسه في خدمة أهدافها. فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين بوضوح:
"أن الرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل غضبا وحمية عصبية، والرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل رياء، فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"1.
وكلمة -في سبيل الله- هي الرسالة الإسلامية، وهي العطاء الحضاري الذي يقدمه المسلم للإنسان ليسهم في بقاء النوع البشري ورقيه. وهي بعض تطبيقات المظهر الاجتماعي للعبادة. ومن هذه الرسالة تكتسب الحضارة الإسلامية أهم صفاتها المميزة. أما تفاصيل هذه الرسالة فهي كما يلي:
1 مسلم، الصحيح، "شرح النووي"، جـ13، كتاب الإمارة، ص49، 50.
معنى الرسالة:
يتكرر ذكر الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم في مئات المواضع من سور القرآن. أما في الآية التي حددت الإطار العام لعناصر الأمة المسلمة، فقد وردت الإشارة إلى الرسالة عند قوله تعالى:{فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وتقسم محتويات الرسالة إلى ثلاثة أقسام رئيسة هي:
1-
الأمر بالمعروف، ومحوره الدعوة إلى التوافق مع سنن الله، وأقداره -أي قوانينه- في الوجود القائم؛ لأن في هذا التوافق بقاء الإنسان ورقيه.
2-
النهي عن المنكر، ومحوره تزكية الثقافة الإنسانية من عوامل الاصطدام بسنن الله، وأقداره في الوجود القائم؛ لأن في هذا الاصطدام تدميرا لبقاء الإنسان
وسقوطه في الدنيا والآخرة.
3-
الإيمان بالله، ومحوره إقامة الحياة الإنسانية على أساس الإيقان بقدرة الله، وهيمنته وتصرفه بالوجود وملكه له. وثمرة هذا الإيمان حفظ الإنسان في حالة "الوسطية" في الفكر والسلوك، ووقاية له من مرض "الطغيان" في حالة القوة، ومرض "الاستضعاف" في حالة الضعف. وفي ذلك سلامة الفرد من الانحراف والخسران، والمجتمع من الاضطراب، والتخلف، والانهيار.
وهذه العناصر الثلاثة الرئيسة المكونة للرسالة متضمنة في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
وتتطابق استراتيجية الفتح الإسلامي، التي تنفي الإكراه في الدين، مع ترتتيب أقسام الرسالة في الآية، فتبدأ بتزكية المجتمعات بالمعروف ومحوره العدل والفضيلة، وتثني بالنهي عن المنكر محوره تجفيف مصادر الظلم والرذيلة، وتنتهي بالدعوة إلى الإيمان بالله من خلال البلاغ الذي يبين الرشد من الغي.
ولقد شرح الصحابي الجليل، أبو هريرة هذه الآية فقال:
"كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة، يبذل المسلمون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس،
فهم خير الأمم للخلق، والخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"1.
والمعروف الذي تشير إليه الآية اسم جامع لكل ما ينفع الجنس البشري، ويرتقي بسلوكهم والعلاقات المتبادلة بينهم. ولذلك حين سأل رجل الرسول صلى الله عليه وسلم عن المعروف أجابه:
"لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم. ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق. وإن سبك رجل بشيء يعلمه فيك، وأنت تعلم نحوه فلا تسبه، فيكون أجره لك ووزره عليه. وما سر أذنك أن تسمعه فاعمل به، وما ساء أذنك أن تسمعه فاجتنبه"2.
ومن الواضح أن التعريف النبوي لـ -المعروف- في الحديث المذكور، لم يتناول المعروف كله، وإنما راعى مستوى السائل وبيئته وجه انتباهه إلى ما يشيع في تلك البيئة. ولكن البحث الشامل في ما يوجه إليه القرآن، والحديث يظهر أن "المعروف" و"المنكر" يشملان شبكة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والشعوب والأمم، وإن كل ما ينفع الإنسان، ويورث الانسجام مع سنن الله وقوانينه في الخلق يندرج في قائمة "المعروف"، وما يضر البشر، ويصطدم مع هذه السنن والقوانين يندرج في قائمة "المنكر".
وتعريف الرسالة -بهذا الشكل يخالف التصور الذي يطرحه البعض حين يدعون إلى الإسلام كرافعة قوة ووسيلة للنهوض بالمسلمين سياسيا، وعسكريا واقتصاديا، فهم يحلون الوسيلة محل الهدف، والهدف محل الوسيلة. فالنهوض بالمسلمين يندرج في قائمة الوسائل والنتائج، أما الهدف
1 ابن تيمية، الفتاوى، علم السلوك، جـ10، ص59.
2 مسند أحمد، جـ19، "تصنيف الساعاتي"، ص201.
فهو حمل الرسالة الإسلامية إلى الناس، وإن كان من نتائج هذا الحمل كرامة المسلمين، وتمكينهم في الأرض وسهولة العيش. وهذا معنى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] .
والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من هذا الانتكاس في التصور، والفهم الذي يضع الوسائل في موضع الأهداف حين يقول:
"إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أدخل الله عليهم ذلا لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم"1.
ويقول كذلك:
"بعثت مرحمة وملحمة، ولم أبعث تاجرًا ولا زارعًا. ألا إن شرار الأمة التجار، والمزارعون إلا من شح على دينه"2.
ومن الطبيعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقلل من قيمة الاقتصاد، ولا يحقر المهن التجارية والزراعية، وإنما أراد التنبيه إلى خطورة تحول الأمة الإسلامية من "أمة رسالة" تضحي بالمال والأنفس إلى "أمة سدنة" تتكسب بالرسالة لجمع المال ومتعة النفس؛ لأن حمل الرسالة هو الفارق الرئيس بين "أمة المؤمنين" و"أمة المنافقين". وفي ذلك يقول القرطبي: "وفي التنزيل: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] ثم قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] . فجعل تعالى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن
1 مسند أحمد، جـ2، ص84.
2 كنز العمال، جـ2، ص282 نقلًا عن أبي نعيم في الحلية.