الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا: فقدان الإرادة وضعفها
كما إن الإرادة تنمو وتنضج، فإنها تضعف وتموت. لذلك لا تقف التوجيهات الواردة في القرآن والسنة عند الإشارة إلى أهمية الإرادة، ووظائفها وإنما أيضا إلى النظر في أساب ضعفها وموتها للحذر من هذه الأسباب، وتجنب آثارها وتحديد أساليب معالجتها.
ويتم فقدان الإرادة الجازمة النبيلة في ثلاث حالات هي:
الحالة الأولى، عند فقدان القدرات العقلية. وفي حالة هذا الفقدان لا يتفاعل الفرد مع المثل الأعلى إذا عرض عليه، ويكون مثله مثل الذي فقد حاسة الشم، فإذا وجدت الرائحة لا يحدث الإحساس بها رغم وجودها. وهذه الحالة ليست مدار بحثنا؛ لأنها حالة مرضية ميدانها الصحة الجسدية والعلاج البدني.
والحالة الثانية، أن توجد القدرات العقلية ويوجد المثل الأعلى، ولكن تكون القدرات العقلية مكبلة بـ"مثل سوء" تسرب إليها خلال الموروثات الاجتماعية، والثقافية التي يرثها الفرد من بيئته الأسرية والاجتماعية.
ولأهمية هذه الموروثات نتناولها بشيء من التفصيل فتقول:
كما إن الطفل يولد على الفطرة في سمعه وبصره وشمه وذوقه، كذلك هو في إرادته للخير ونفوره من الشر. فإذا عرضت الأفكار، والأعمال على الإنسان الفطري -خالي الذهن من الخبرات الاجتماعية والثقافية- فإن له القدرة على اختيار أفضلها وأن تتوجه إرادته إلى محبتها، حتى تصل إلى درجة التضحية بالمال والنفس.
ولكن الطفل يرث مثله الأعلى -في العادة- من المجتمع الذي ينشأ فيه كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم حينما قال: "ما من مولد إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه ويمجسانه وينصرانه"1. ولذلك كان واجبا على التربية أن
1 البخاري، كتاب الجنائز. مسلم، كتاب القدر. الترمذي، كتاب القدر، الموطأ، جنائز. مسند أحمد، جـ2، جـ3، جـ4.
تقوم بمراجعة وتقويم ما ورثه الطفل من بيئة "الآباء" الخاصة، والعامة في ضوء نماذج المثل الأعلى التي تود التربية أن تنشئ الطفل على إرادتها.
ولنتحقق من أثر الموروثات الاجتماعية في موقف الإنسان من المثل الأعلى، يمكن أن نلاحظ أن الإنسان يبصر ويسمع، ويفهم بخلفيته الثقافية وبمواريثه الاجتماعية. فالناس الذين يمشون يلاحظ أحدهم الأماكن التي تباع فيها التحف القديمة، ويلاحظ آخر المكتبات التي تبيع الكتب والصحف، ويلاحظ ثالث الملاهي، ويلاحظ رابع المساجد، ويلاحظ خامس سمك الفسيح، ويلاحظ سادس مطاعم الهامبرجر. وهكذا كل يلاحظ بحسب الإرادات التي نمتها فيه الموروثات الاجتماعية -خاصة في عهد الطفولة. إن عيونهم التي في وجوههم تلتقط مثل آلات التصوير كل المشاهد، ولكن الذي يحضر الأفلام في الداخل ينتقي مشاهد معينة فقط1. وهذا يعني إن وراء عيوننا الحسية عيونا أخرى اجتماعية تقوم بعملية الانتقاء. وهذه العيون هي التي يتحدث عنها الله تعالى حين يقول:
{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] .
والناس الذين تطرق آذانهم أصوات متعددة تنقل إليهم موضوعات، وأفكارًا عبر أجهزة الأعلام، وفي الندوات والمحاضرات. ولكن بعضهم يسمع ويعي الأشعار -أو أشعارًا معينة بالذات، وبعضهم يعي الفقرات الدينية، وبعضهم يعي وينجذب للأغاني، وبعضهم يعي وينجذب للنكات المسرحية، وبعضهم يعي وينجذب للتعليقات السياسية، وبعضهم يعي وينجذب للأحاديث الاقتصادية، وبعضهم يعي وينجذب لأخبار العلم والتكنولوجيا. إن آذانهم التي في رءوسهم تتلقى جميع الأصوات، ولكن أجهزة التسجيل والوعي التي في الداخل تسجل وتذيع مقطوعات معينة، أو موضوعات معينة فقط.
1 جودت سعيد، العمل.
والناس يقرأون كتابا واحدا ينقل إليهم عبر مقاعد الدرس أو التدريس أو النشر، ولكن بعضهم يفهمه بما هو في خير الإنسان ولنصرة الحق والفضيلة، وبعضهم يفهمه بما هو ضد الإنسان وضد الحق والخير والفضيلة. إن عيونهم التي في رءوسهم تنقل نفس الكلمات وتصور نفس الحروف، ولكن المترجم أو الشارح الذي في داخلهم يبتنى شروحات وتأويلات متباينة.
والذي يحدد جميع هذه الأشكال من السمع والبصر، والفهم هو المواريث الثقافية والاجتماعية التي تلقاها الفرد خلال التنشئة من بيئته الخاصة والعامة. فإذا كانت هذه الموروثات تناقض المثل الأعلى الذي تحمله هذه المرئيات والمسموعات، والمقروءات، فإن هذه الموروثات تقيم سدودا حاجزة وتغلق الأبواب أمام المثل الأعلى المرئي أو المسموع، أو المقروء. ولقد أطلق القرآن الكريم على هذه الحواجز أسماء "الغشاوة" و"الوقر" و"الران"، وأطلق على الموروثات الاجتماعية والثقافية التي أقامت هذه الحواجز اسم "الأغلال" واسم "الآصار". وأكثر ما تقوم هذه الحواجز في أوساط البيئات التي تحمل أكداسا وركاما تاريخيا من الفلسفات والعقائد، والثقافات المختلطة والقيم والعادات والتقاليد المتباينة.
ومن هنا يمكن أن نفهم قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1. فاختيار الرسول صلى الله عليه وسلم كفرد، والعرب المعاصرين له كمجتمع، يحمل الرسالة مبني على أن فطرتهم كانت أكثر تحررًا من الموروثات الاجتماعية، والثقافية حيث كانت المعلقات الشعرية أسمى إنتاجهم في هذا المجال، وهي ذات موضوعات بسيطة تدور حول أشياء العربي البسيطة آنذاك ولا تحتوي على فلسفة أو عقائد. ولذلك كانت فطرتهم أسلم من المجتمعات المعاصرة لهم من الفرس، والروم الذين كانوا يعانون من أخلاط
1 سورة الأنعام، الآية 124.
مضطربة من العقائد والفلسفات والمذاهب والثقافات. فكانوا في ذلك الوقت الأنموذج الذي وصفه الله بقوله:
ومن هنا كذلك يمكن أن نفهم مواقف المجتمعات الإسلامية فيما بعد، من دعوات التجديد والإصلاح بعد أن تجمعت عندهم أخلاط من المذهبيات والفرق المتباينة والتأويلات المختلفة التي انحدرت إليهم من الآباء خلال القرون.
وبسبب هذه الآثار السلبية للموروثات الثقافية، والاجتماعية الفاسدة، كانت شكوى نوح عليه السلام من المجتمع الذي عاصره عندما قال:
فهو لم يعن إن الأطفال يولدون مزودين بإرادات الكفر والفجور، فهذا يتعارض مع المبدأ الذي يقرر أن الإنسان يولد مفطورًا على تعشق المثل الأعلى وإرادة الهدى، والفضيلة. وإنما أراد تصوير هيمنة الموروثات الثقافية والاجتماعية التي كانت -منذ وقت مبكر- تفسد بذرة -الإرادة النبيلة- في نفوس الناشئة، بحيث يستحيل أن تنمو هذه البذرة فيما بعد، وإن استمرار مثل هذه الموروثات سوف يؤدي إلى إفساد الإرادات عند العباد كلهم، ودفعهم في طرق الضلال.
والخلاصة إن مثل الأفراد الذين يعانون من هيمنة الموروثات الثقافية، والاجتماعية المناقضة للمثل الأعلى مثل الذي تعرض عليه الروائح الزكية، ولكن حاسة الشم عنده مصابة بمرض الزكام. وهؤلاء يطلب إليهم العلاج فإذا رفضوه وظلوا يتعللون بعدم القدرة على الشم لم يعذروا، واحتاجوا إلى الحجر الصحي والحمية -بكسر الحاء وسكون الميم-
والعلاج القسري حتى لا تنتقل عدوى أمراضهم إلى الأصحاء كلهم. وهذا هو -منهج التربية الإسلامية- في معالجة البيئات التي تنتشر فيها مثل هذه الحالات، ثم تستعصي على الشفاء من الإرادات الفاسدة. فقد كان الجهاد عمليات جراحية لاستئصال الأعضاء البشرية الفاسدة، حتى لا ينتشر فساد إرادتها إلى بقية البشر، وحتى تكسر الحواجز أمام المثل الأعلى الذي تريد هذه التربية أن تعرضه على عقول الأفراد الذين لم يروه.
والحالة الثالثة، أن توجد القدرات العقلية، ولا يوجد المثل الأعلى فيكون مثل هذه الحالة مثل الذي لديه حاسة الشم، ولكن لا توجد الرائحة الزكية. لذلك لا يحدث الإحساس بها. وهذه حال المجتمعات التي افتقرت المؤسسات التربوية فيها منذ زمن طويل إلى "المثل الأعلى". ومثلها نظم التربية الحديثة التي فصلت بين العلوم الإنسانية، وعلوم الدين وبين العلوم الطبيعية، ثم أهملت الأولى أو قللت من شأنها بينهما سجعت الثانية، ورعتها ورفعت من مكانة المتخصصين فيها. ومثلها أيضا النظم التربوية التي قامت -وتقوم- في ظل الاحتلال والاستعمار أو تلك التي تقوم في ظل التسلط، وكبت الحريات والطبقية والتمييز العنصري. فجميع هذه النظم تلجأ في العادة إلى بناء نظم تربوية تستبعد المثل الأعلى الذي ينمي إرادات العقيدة، والقيم العليا والأخلاق الرفيعة وتستبد له بـ"مثل سوء" يدور حول إرادات الطعام، والنكاح وما يتفرع عنها من إرادات المتعة واللهو، ويصاحب ذلك كبت الحريات الذي يحول دون نمو القدرات العقلية ونضجها. ثم تكون نتيجة ذلك كله إخراج إنسان ضعيف الإرادة، أو فاقدها فيسهل التحكم به، وتسخيره دون أن تتحرك فيه إرادة التحرر أو المساواة، والعدالة الاجتماعية.
ومثل هؤلاء الأفراد يعذرون ويعرض عليهم المثل الأعلى، والذين يرفضونه بعد العرض لا يعذرون، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] .