الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: تدني مستوى "المثل الأعلى" إلى مستوى -تلبية حاجات الجسد البشري
مرت مشكلة "المثل الأعلى" في التربية الحديثة بفترات مضطربة انتهت به إلى التمحور حول "إشباع رغبات الفرد" أي المستوى الثالث: مستوى تلبية حاجات الجسد البشري. ولقد مرت هذه المشكلة في مراحل تاريخية تنزلت بمستويات المثل الأعلى حتى حصرته في المستوى المشار إليه.
ففي المرحلة الأولى كانت التربية الحديثة تستمد نموذج المثل الأعلى من المصادر المسيحية، الذي كان يفترض به أنه يمثل المستوى الأول، مستوى الارتقاء بالنوع الإنساني. ولكن التطبيقات الاجتماعية لهذا النموذج شاهدت صدامات خطيرة مع الطبيعة الإنسانية ووقائع الحياة، كذلك اصطدم هذا النموذج بحقائق العلم الذي جاءت بها النهضة الحديثة، وكانت حصيلة هذا الصدام هي تمرد الإنسان الغربي على المثل الأعلى المذكور، ثم التوجه إلى المصادر الفلسفية خاصة خلال القرن الماضي، ومطلع القرن الحالي. وهذا التوجه حدد المرحلة الثانية للتصورات التي مرت بها مشكلة المثل الأعلى في التربية الحديثة.
ففي المرحلة الثانية تبنت التربية المثل الأعلى الذي أفرزته تأملات الفلاسفة بالقدر الذي وصلت إليه قدراتهم العقلية، وحددته خبراتهم الشبرية في البيئات التي سمحت لهم مهاراتهم اللغوية، والفكرية وتفاعلاتهم الثقافية والاجتماعية. وكانت حصيلة هذه المرحلة هي النزول بالمثل الأعلى من المستوى الأول -مستوى الرقي بالنوع الإنساني- إلى المستوى الثاني: مستوى المحافظة على النوع البشري، بل إن هذه الفلسفات استهدفت المحافظ على نوع معين من الأجناس البشرية، وهو -الجنس الأبيض- باعتباره هو الممثل الحقيقي للإنسان. ونتيجة النوع من -المثل الأعلى
- برزت أيديولوجيات و"مثل سوء" متطرفة مثل "النازية" و"الفاشستية" و"سمو الرجل الأبيض"، التي تسببت في المآسي وألوان الدمار والتخريب التي ما زال الإنسان يعاني منها حتى الوقت الحاضر. ولقد هيأ هذا الفشل -بالإضافة إلى ظهور نظريات التطور البيولوجي- إلى انتقال التربية الحديثة للبحث عن نموذج آخر من -المثل الأعلى- في مصادر علم النفس الحديث. وهذا التوجه حدد المرحلة الثالثة، أو المرحلة الحالية التي انتهت إليها مشكلة -المثل الأعلى.
وأبرز خصائص -المثل الأعلى- في المرحلة الحالية هو إنه نموذج يمثل المستوى الثالث: مستوى تلبية حاجات الجسد البشري، وإشباع شهواته وهو ما تطلق عليه التربية في الوقت الحاضر "إشباع رغبات الفرد". أي عكست ترتيب مستويات المثل الأعلى، فجعلت الأداة هي الهدف، ثم تنزلت بالهدف وأحالته في عداد الأدوات أو ضمن "روافع القوة Leverages of Power" كما هو عند -مارجنثوا- رائد مدرسة العلوم السياسية الواقعية في الوقت الحاضر الذي أدرج -الدين- و"القومية"، وكل نماذج المثل الأعلى السابقة في عداد الأدوات، التي تستغل لإشباع رغبات الفرد. ونتيجة لهذا التطور أصبح "المثل الأعلى" في التربية الحديثة هو "إشباع رغبات الفرد، وإعداده للحصول على ما
فيه مصلحته". ويختلف المختصون في شرح ما تعنيه "مصلحة الفرد" اختلافا كبيرا. فأناس يفسرون "مصلحة الفرد" بأنها الحصول وظيفة رفيعة ومكانة عالية، وأناس يرونها في توفر فرص الحياة المادية الرغيدة، وآخرون يرونها في إمداد الفرد بالقدرات، والمهارات التي تعده للحياة.
ولقد لخص -جوان وايت- مختلف الآراء التي ناقشت "إشباع رغبات الفرد وتحقيق مصالحه" في قسمين رئيسين:
القسم الأول، مصالح أساسية: وهذه تقع بين مستويين اثنين: مستوى أدنى من الغذاء والكساء، والمأوى والرعاية الصحية التي توفر البقاء على قيد
الحياة. ومستوى أعلى يوفر للفرد مستوى عال من الطعام المغذي، والمأوى المريح والصحة الجيدة، وهو لا يقنع الفرد في الأقطار المتقدمة إلا به.
ويلحق بهذه الحاجات الأساسية حاجات فسيولوجية، ونفسية كالحاجة للجنس والقدر المناسب من الحرية والأمن، والدخل المادي والعمل المريح. وهذه وإن يجري الاتفاق على ضرورتها، إلا أن الاختلاف يقع حول درجة إشباعها.
والقسم الثاني، مصالح جوهرية: وخلاصتها أن مصلحة الفرد في توفير السعادة. وتتشعب الآراء في تفسير هذه السعادة، فأناس يرون إن سعادة الفرد في إشباع رغباته التي يتمركز حولها اهتمامه، وفي قدرته على الحصول على الوسائل التي تحقق هذه الرغبات. وخطورة هذا الراي، عند -جون وايت، أنه يثير مشكلات خطيرة حين تتمركز رغبات الفرد حول رغبة شاذة، وتصبح وظيفة التربية التركيز على هذه الرغبة الشاذة كذلك، رغم مزية الاختيار الحر الذي يوفرها هذا الرأي، وأناس يقرنون سعادة الفرد بسعادة الحواس والمشاعر. وخطورة هذا الرأي -عند وايت- إنه يقتل المسئولية في الفرد؛ لأن معناه أن لا يتعلم الإنسان شيئا، ولا يمارسه إلا إذا سعدت به حواسه ومشاعره. فالطبيب إذا لم يسعد بعلاج المرض فلا داعي للقيام بذلك، والمرأة إذا لم تسعد برعاية أطفالها، فلا داعي لذلك أيضا وهكذا1.
وهناك رأي ثالث يخالف الآراء السابقة مخالفة كلية. فهو يرى أن "مصلحة الفرد" تكمن في "الإبداع النفسي- لأن المتعلم كالفنان، وليس كالباحث عن الحقيقة. فهو يرى حياته في التعبير عن أعمق مشاعره وحدسه. والخير لا يأتيه من خارج وإنما يخلقه هو نفسه؛ لأنه يعيش في عالم ليس فيه قيم متأصلة، وإنما الإنسان يشكل نفسه ويعطيها نوعا من
1 John White، OP. Cit، PP. 23-44.
الكمال والتوازن. ومعنى ذلك أن التربية يجب أن تتمركز حول التلميذ، ولا شيء سوى ذلك.
ويعلق -جون وايت- على هذه الآراء مجتمعة بقوله: إن المشكلة في هذه التفسيرات كلها أنها تجرد "مصلحة الفرد" من القيم وتفرغها من الفضائل والتعقل، وتبقي الفرد شبيها بالحيوان الذي يتصرف طبقا لغرائزه دون أن يكون لديه ما يوجه أعماله وعلاقاته مع الآخرين، كما يحرمه من النظرات المستقبلية1.
وثمة مظهر آخر لإهمال "المثل الأعلى" يتمثل في الجدل الدائر حول قيمة الفضائل الأخلاقية، التي يجب أن تتضمنها أهداف تربية الفرد.
وخلاصة هذا الجدال أنه يصعب تجاهل الأهداف الأخلاقية بسبب الحاجة إلى ضوابط، ومقاييس تنظم العلاقات بين الأفراد. ولكن يصعب أيضًا تحديد مفهوم محدد واضح للفضائل الأخلاقية بحيث لا يتناقض هذا المفهوم مع الهدف الأساسي، وهو "إشباع الفرد" الذي مر شرحه.
لقد تناولت الفلسفات التربوية هذه المشكلة، وعرفتها تعريفات متعددة. فبعضها -كالفلسفة البراجماتية- قالت: إن رغبات الفرد هي فضائل في حد ذاتها، وبعضها قال بتوفير الفرصة للفرد ليفهم الأخلاق، ثم تترك له الحرية ليمارس منها ما يشاء، فبينما رأت مدارس أخرى أن الفضيلة هي إبداعات عقلية تترك للفرد نفسه. ولكن المشكلة التي تشترك بها جميع الفلسفات التربوية هي الافتقار إلى حل التناقض بين "إشباع رغبات الفرد"، وأهداف التربية الأخلاقية.
وإزاء العجز عن تحديد العلاقة بين "إشباع رغبات الفرد"، وبين التربية الأخلاقية برز رأي يقول باقتصار التربية على ما فيه -المصلحة العامة.
1 Ibid، PP 44-46.
ولكن المشكلة التي برزت هي كيفية تحديد مفهوم -المصلحة العامة- والفرق بينها وبين المصلحة الخاصة، وأين هو حد التوافق بين المصلحتين1.
ونتيجة لذلك كله برز رأي آخر دعا إلى صياغة أهداف التربية الأخلاقية طبقا لما أسماه بـ -نظرية الاكتفاء بالحد الأدنى من الأخلاق- وتسمى بالإنجليزية 2The Minimalist View. وحجة أصحاب هذا الرأي أن الحد الأدنى يوفر للأفراد أن يعيشوا حياتهم الخاصة دون خوف من الأذى الجسدي، أو الغش أو الخداع أو العدوان والإهانة. فإذا تم ذلك قام المجتمع المثالي. والمجتمع المثالي هو الذي لا يحتاج فيه أحد إلى أحد، وإنما يقف كل فرد فيه مستقلا بأموره. ويعلق -جون وايت- على هذه النظرية فيقول:
"والحد الأدنى للأخلاق مقياس واقعي؛ لأنه يراعي اهتمام الفرد برغباته الخاصة، فالمسيحية ومثلها الفلسفات التي تنادي بالحب العام تتجاهل الطبيعة الإنسانية،
إذ ليس بمقدور الإنسان العادي أن يؤثر غيره على نفسه. والقديسون هم نادرو الوجود ولا قياس عليهم. والتربية تستطيع من حيث المبدأ أن تجعل منا قديسين، ولكن ثمن ذلك هو العبث بالطبيعة الإنسانية التي نعرفها. ويمكن أن يجري غسل أدمغتنا لنؤثر غيرنا على أنفسنا، ولكن ما هو المقابل لذلك؟ وما حق الغاسلين في تغيير طبائعنا؟
فالحد الأدنى للأخلاق -إذن- هو المقياس الملائم للمجتمع الرأسمالي الذي ينشد الربح الخاص. وهو الذي يتلاءم مع أهداف التربية التي تجعل رغبات الفرد محور اهتماماتها. وهو مقياس مرن يسمح للناس أن يتعاملوا مع بعضهم البعض كما يرغبون"3.
1 John White، OP. Cit. P. 72.
2 Ibid، P. 78.
3 John White، OP. Cit. P. 80.
ولكن السؤال الذي يواجهه المختصون هو كيف يمكن تحديد "الحد الأدنى" للأخلاق؟
يجيب -وايت- على هذا السؤال بالقول إن رأي الأكثرية هو أن يترك ذلك للفرد نفسه ليقرر مستوى الأخلاق التي سيمارسها. فإذا نوى الوفاء بالوعد، وعدم الأذى وقول الصدق، وفعل الخير وإعطاء الصدقة فله ذلك. وإن أراد أن لا يفعل شيئًا من ذلك فلا ضير عليه ولا لوم. وإذا تعارض مقياس "الحد الأدنى للأخلاق" مع مصلحة الفرد، فله أن يهبط بالحد الأدنى إلى درجة الصفر ولا يفعل فضيلة على الإطلاق. وله أن يخلف وعده، وأن يؤذي غيره، ولا يقول الصدق إذا كان ذلك يخدم مصلحته، ولكن إن كان ذلك يلحق الضرر بسمعته، فله أن يلتزم هذه الفضائل، وإن استطاع النجاة من سوء السمعة، والأذى فله الخيار في ممارسة الأخلاق أو عدم الممارسة.
ويضيف -وايت- إن هذه هي النظرية الشائعة في الوقت الحاضر، ويمكن أن تشكل أهداف التربية الأخلاقية في المستقبل عند قطاع كبير من سكان الأرض"1.
وهناك رأي آخر يربط بين هدف "إشباع رغبات الفرد"، وبين الأهداف الأخلاقية بما يسميه -الأخلاق الخلاصية Universalistic Morality وهي أن يعيش الفرد من أجل خلاص الآخرين، وهو ما بشرت به المسيحية. ويذكر -جون وايت- إن التربية الشيوعية -هي من هذا النوع مع اختلاف بالطابع. فبدل أن تطبع الأخلاق الخلاصية بالطابع الديني، فإنها تطبعها بطابع مادي غير ديني حيث يصلب الفرد في الدنيا من أجل الجماعة كما تصلب المسيحية المسيح من أجل المجموع، وهذه تربية غير واقعية.
وهناك رأي آخر يربط بين "إشباع رغبات الفرد"، وبين التربية الأخلاقية بما يسميه -الأخلاق المحلية المحدودة Concrete Morality حيث يتحلى
1 Ibid، PP. 80-86.