الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد أدركت الدول المتقدمة في العصر الحديث -خاصة الولايات المتحدة- أهمية هذه الهجرة النفسية في بناء الجبهة الداخلية. ولذلك جعلتها من الأصول التي يقوم عليها نظام التربية فيها، وأطلقت عليها اسم -البوتقة الصاهرة- Melting Pot -وحشدت لها- وما زالت تحشد- ما تتطلبه من قدرات ومؤسسات بغية صهر ثقافات أفواج المهاجرين القادمين إلى الولايات المتحدة في بوتقة الثقافة الأمريكية الموحدة.
وفي المقابل تبدو خطورة -الردة الثقافية- التي مارستها نظم التربية ومؤسسات الثقافة والإرشاد والإعلام في "الدول الإقليمية" القائمة في "مزق" الأمة الإسلامية المتوفاة، وهي تركز جهودها على تطوير ثقافات إقليمية، وقيم إقليمية، وفولكلور إقليمي، وفنون إقليمية، وآداب إقليمية، وأعياد إقليمية، وآثار إقليمية استمدتها جميعا من ثقافات العصبيات الجاهلية التي هجرها "الأجداد المؤمنون" في الماضي الأمر الذي رسخ التمزق، وكرس الفرقة والاختلاف، وأقام حواجز صلدة عنيدة أمام حركات الإصلاح، ومحاولات الوحدة.
دور التربية في بلورة عنصر الهجرة:
لا تتحقق الهجرة -خاصة الهجرة النفسية- إلا بعمل تربوي منظم تديره مؤسسات تربوية متخصصة واعية الفلسفة والأهداف والتطبيقات، محيطة بقوانين التغيير والتجديد في حياة الأفراد والجماعات. كذلك لا بد من توفير العوامل المساعدة على نجاح الهجرة المشار إليها، وأبرز هذه العوامل اثنان:
الأول، توفر العدد المناسب من التربويين المجددين الخبراء بتغيير ما في الأنفس -من أفكار ومعقتدات، وتغيير تطبيقات هذه الأفكار في نظم الحياة، والقيم والاتجاهات والممارسات. ويتناسب انتشار الهجرة الفكرية والثقافية في أوساط الأمة مع عدد الخبراء التربويين المجددين المشتغلين
بتغيير ما في الأنفس كتناسب كمية الخميرة اللازمة لتخمير كمية معينة من العجين. واهتزاز هذه النسبة في العالم الإسلامي أمر بارز الوضوح إذ لم يظهر فيه طوال القرون التسعة الأخيرة إلا عدد محدود من المجددين ابتداء من أيام ابن تيمية ومرورا بابن عبد الوهاب في الجزيرة والشوكاني في اليمن، والسرهندي في الهند ثم الأفغاني ومحمد عبده حتى جيل حسن البنا، والمودودي ومالك بن نبي في الوقت الحاضر، مع اعتبار المعاناة الشديدة التي واجهتها تلك القلة المصلحة من الكثرة المتمسكة بالآبائية والجمود. بينما يوجد في بلد -كالولايات المتحدة مثلًا- من المفكرين الأحياء المعادلين لمنزلة "المجتهد" ما يزيد عن ثلاثة ملايين، ومع ذلك فهي توفر لهم كل أسباب الإبداع ولا تتوقف عن البحث عن المتفوقين الأذكياء في الداخل، واستقدامهم من الخارج.
والثاني، توفير البيئة الصالحة لنجاح الهجرة المنشودة بمظاهرها النفسية والحسية. والحرية هي التجسيد العملي للبيئة المطلوبة؛ لأن الهجرة هي حرية التفكير والاختيار. والذين اتصفوا بحرية التفكير والاختيار من معاصري الرسالة الإسلامية، هم الذين هاجروا من حياة الجاهلية إلى الإسلام. أما الذين لم يتصفوا بهذه الحرية، فقد ظلوا يمارسون الحران والرفس جامدين على ما انحدر إليهم من آبائهم من معتقدات، ونظم وثقافة وممارسات، وقيم انتهت بهم إلى الهلاك والبوار.
فالهجرة لا تصل مداها المشار إليه إلا إذا حررت التربية نفوس المتعلمين من داخل، وهيأت التطبيقات والسياسات الإدارية لتسود الحرية حياة الأمة من خارج. ذلك أن الحرية عامل أساسي في تحقيق أمرين: الأول، نمو القدرات العقلية اللازمة للمعرفة والعلم. والثاني، إطلاق الإرادات العازمة اللازمة لمناصرة الحق والتقدم، ومناهضة الباطل والتخلف. وحين تختفي الحرية تتعطل القدرات العقلية، وتتقلص الإرادات العازمة وتتوقف الأمة عن الإبداع، والإنجاز وتسير في طريق الضعف المفضي إلى
الاستضعاف في الدنيا والعقوبة في الآخرة. لذلك لا بد أن تكون التربية الإسلامية قادرة على تحقيق ثلاثة أمور هي:
الأول، فرز الأذكياء الموهوبين -أو أولي الألباب حسب المصطلح القرآني- في الداخل واستقدامهم من خارجٍ ثم إعداد هؤلاء لقيادة عمليات التغيير، والتجديد في الأمة المسلمة، مع الحذر من تسرب "الأغبياء" الذين تنصبهم ولاءات العصبيات الأسرية والقبلية، والإقليمية "أصناما ثقافية" و"معوقات حاسدة" مهلكة تضطهد الأذكياء وتتحكم بمصائرها، وتدفعهم إلى الهجرات والهجمات المعاكسة.
والثاني، تدريب -إنسان التربية الإسلامية- على مراجعة الموروثات الثقافية، والاجتماعية المتحدرة من كل جيل، واكتشاف الجوانب التي عدا عليها الخطأ، أو الإفساد في الفهم والتطبيق، أو تلك التي مضى زمنها وبطل مفعولها، ثم القدرة على التخلص منها ومن آثارها، والهجرة من تطبيقاتها في ميادين السياسة والاجتماع، والاقتصاد وسائر مظاهر الثقافة السائدة في القيم والتقاليد، والعادات والأخلاق والفنون، والنظم وشبكة العلاقات الاجتماعية.
فالهجرة -هنا- توبة من الثقافة الخاطئة أو التي بطل مفعولها، ومما يتفرع عنها من نظم وتطبيقات ومؤسسات، وممارسات ووظائف خاطئة أو متخلفة. والرسول صلى الله عليه وسلم يربط بصراحة بين الهجرة والتوبة فيقول:
"لا تنقطع الهجرة حتى تنقع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"1.
فالهجرة توبة، والتوبة هجرة. وكلاهما انتقال من الخطأ والجمود والتخلف، وانتقال من البيئات التي ترعى هذه السلبيات الموقفة للارتقاء، الخانقة للعيش، المانعة للحياة.
1 سنن الدارمي، جـ2 "دار إحياء السنة النبوية"، ص240.
والثالث، تدريب المتعلمين على "فقه" نموذج -المثل الأعلى- اللازم لزمنهم، ثم تنشئتهم على استيعاب تفاصيل المثل الأعلى الجديد، وبذلك تعدهم لزمن غير زمن آبائهم -كما يوصي علي بن أبي طالب- وتتكون لديهم القدرات والمؤهلات اللازمة للغد الذي سيعبرونه، ولن يصابوا بالمفاجآت والصدمات من تطورات المستقبل كما يصاب الذين يشير إليهم قوله تعالى:{بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] .