الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسئولية التربية إزاء عنصر الإيواء:
تنجلى مسئولية التربية الإسلامية إزاء عنصر -الإيواء- في الأمور التالية:
الأول: بلورة مضامين مظاهر الإيواء التي مرت في البحث حسب مقتضيات التطور الاجتماعي، الذي تمر به الأمة زمانا، ومكانا ثم ترجمتها إلى تطبيقات عملية حسب الحاجات والتحديات.
والثاني: إفراز المؤسسات العلمية التي تطور مضامين -الإيواء- إلى علوم متخصصة تنمو، وتتشكل حسب حاجات الزمان والمكان.
والثالث: اقتراح المؤسسات الإدارية والتنفيذية التي تضمن تجسيد عنصر -الإيواء- في شبكة علاقات اجتماعية تهتدي بالأصول الإسلامية، وتستفيد من تجارب الآخرين وحكمتهم.
والرابع: تعميق الولاء لعنصر "الإيواء"، ومؤسساته وتطبيقاته والغيرة عليها من عدان المتسلطين، أو المحتكرين إلى درجة الغيرة على الأعراض والحرمات؛ لأن في غياب الإيواء ومؤسساته، وتطبيقاته تعريض الأعراض للامتهان، والحرمات للتدنيس.
والخامس: تطوير مفهوم إسلامي للعمل يحتقر العجز والكسل، ويحارب الجشع والاحتيال ويشيع التعاون والتكافل، ويثمر السعادة بالعيش، والاستمتاع بالعلاقات والمعاملات.
والسادس: تطوير -علم اقتصاد إسلامي- تتطابق مفاهيمه، وتطبيقاته مع أصول الإيواء في القرآن، والسنة وتشيع التراحم والمودة والموالاة، وتكريم الإنسان. ولا بد من التوسع في تبيان مضار "اقتصاد السحت" الذي يشير إليه القرآن في ثلاثة مواضع من سورة المائدة: الأول عند قوله تعالى:
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 43] .
والثاني والثالث عند قوله تعالى:
والسحت -في اللغة- معناه: الاستئصال. يقال: أسحت الرجل: استأصل ما عنده. وسحت رأسه: استأصله حلقا. وأسحت ماله: استأصله وأفسده. وفي تفسيره قوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه: 61] : أي يستأصلكم بعذاب1. ومسحوت المعدة: إذا كان أكولا لا يلقى إلى جائعا2.
وفي الاصطلاح: السحت هو ما خبث من المكاسب وحرم؛ لأنه يسحت البركة أي يذهبها3.
والنظر في تفاسير السلف يدل على أنهم فهموا "السحت" في ضوء خبراتهم الاقتصادية التي عرفوها في أزمنتهم وأمكنتهم. وفقد فسره عمر بن الخطاب فقال: ما كان من السحت: الرشا، ومهر الزانية. وفسره أبو هريرة بقوله: مهر البغي سحت، وعسب الفحل سحت4، وكسب الحجام سحت، وثمن الكلب سحت، وفسره ابن مسعود فقال: من شفع شفاعة ليرد بها حقا أو يرفع بها ظلما، فأهدي له فقبل فهو سحت. وفسره علي بن أبي طالب فقال:"في كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب، والاستعجال في القضية، وحلوان الكاهن، وعسب الفحل، والرشوة في الحكم، وثمن الميتة من السحت"5.
1 ابن منظور، لسان العرب، جـ2، باب التاء.
2 الطبري، التفسير، جـ6 "تفسير آية 42 من سورة المائدة".
3 ابن منظور، المرجع السابق.
4 عسب الفحل: الثمن الذي يؤخذ مقابل تلقيح فحل الحيوان من الخيل، والجمال للإناث منها.
5 الطبري، التفسير، جـ6، ص239-241.
أما الرازي فقد قال في تفسير الآيتين الأخيرتين:
"المسارعة الشروع بسرعة، والإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداه إلى غيرهم، وأما أكل السحت، فهو أخذ الرشوة. والأصل في لفظ المسارعة أنه يستعمل في القرآن في الخير مثل:{يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ، و {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} . فهم يقدمون على هذه المنكرات، وكأنها خير يحق لهم أن يسارعوا فيه.
والربانيون هم العلماء القائمون على تربية الأمة وإدارة شئونها، والأحبار هم العلماء القائمون على توجيهها وتعليمها1. ولقد ذم الله الفريقين؛ لأنهم تركوا النهي عن اقتراف الشرور الثلاثة التي مر ذكرها ثقافة وعلما، ونكصوا عن محاربتها فعلا وإدارة، واستعمل في الأولى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وفي الأحبار والربانيين التاركين للنهي عن المنكر: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} ؛ لأن الصنع أقوى من العمل. فالعمل إذا صار مستقرا راسخا متمكنا يسمى صناعة. فهم ساعدوا -بصمتهم- على رسوخ هذه المنكرات. ولذلك قال ابن عباس عن هذه الآية: هي أشد آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن أخوف عندي منها2.
وحين ننظر -نحن أهل القرن العشرين- في الآيات الثلاث في ضوء خبرات زماننا نجد أن الآيات المذكورة توجه التربية الإسلامية إلى التمركز في قلب الاجتماع الإنساني، والعمل على تجسيد "الإيواء" في واقع نظيف من "اقتصاد السحت" و"ثقافة الإثم والعدوان" المؤديين إلى حرمان الإنسان من طمأنينة العيش و"ماعون" العبادة.
ولتقوم التربية بهذه الوظيفة لا بد أن تقوم بما يلي:
1 هكذا فسر معني الربانيين، والأحبار كل ما من الطبري والقرطبي "آل عمران: 79"، وابن كثير، والشوكاني.
2 الرازي، التفسير، جـ12، ص39.
الطبري، التفسير، "سورة المائدة: آية 44".
1-
إبراز خطورة "ثقافة الإثم" وتطبيقاتها في النظم ومضاعفاتها في التقاليد والعادات، والممارسات التي يسقط عنها مفكروا الحضارة الحديثة، ووسائل الإعلام صفات افثم ويحيلونها -بسحر الكلمة والصورة- إلى فضائل ومظاهر تقدم وتحرر.
2-
إبراز خطورة "اقتصاد السحت" الذي يسحت -أي يستأصل- مصادر العيش المادية والفضائل، والروابط الإنسانية بوسائله وأدواته الكثيرة المتعددة مثل: أشكال الربا المركب، وإشاعة الجشع، والاحتكار ومضاعفاتها في الصراع والطبقية والترف، والفقر والاغتراب النفسي، وتجارة الحروب، والمضاربات المؤدية إلى الإفلاس والديون و"سحت" موارد الأمم وإشاعة الأزمات الاقتصادية العالمية. ومثلها تجارة الفواحش في السينما، والسياحة وما يشتملان عليه من تسويق للجنس المحرم، واللهو الماجن في الفنادق، ودور الرقص والتمثيل، ومثلها أيضا تجارة السجائر والخمور، والمخدرات التي يروج لها في محطات الإذاعة والتلفزيون ومثلها تجارة أشرطة الفيديو، والكاسيت وأنماط الدعاية والإعلان والتأليف، والصحافة التي تزين ذلك كله، وتغري الناشئة باقترافه وممارسته.
3-
إبراز خطورة "العدوان" الذي يجسده -في الداخل- الظلم والتطفيف والاحتكار وأكل الحقوق، والمصادرات والضراب الباهظة. وفي الخارج يجسده شن الهجمات العداونية على الجماعات، والشعوب والقارات الأخرى لـ"سحت" اقتصادها، واستئصال موارد عيشها وتخريب بيئاتها.
4-
إبراز خطورة سكوت -العلماء ورجال الفكر- عن نقد نظريات "الإثم" في الثقافة، والتربية وتطبيقات "السحت" في الاقتصاد و"العدوان" في السياسة والإدارة.
وغني عن القول أن التحذير الموجه إلى -الأحبار، والربانيين من أهل الإنجيل وأهل التوراة إنما يمتد إلى -فقهاء وعلماء أهل القرآن- الذين يتجاهلون المظهر الاجتماعي للعبادة الناهي عن "ثقافة الإثم" و"اقتصاد
السحت" و"سياسة العدوان"، والداعي إلى تمركز الدعوة في قلب الاجتماع البشري، وإلى توجيه "الأعمال"، وشبكة العلاقات الاجتماعية بدل إلهاء الناس بالحديث عن "الأشكال" في الهيئة واللباس والطقوس، والغيبيات التي لا أثر لها، وتبرير ممارسات السلطة الظالمة، وتمنية المظلومين بالعدل الأخروي، وجوائزه في الصبر على المظالم، والمرض، والجهل، والفقر.
وحين تقوم التربية الإسلامية بمسئولياتها التي مر ذكرها، فسوف تبرز اجتهادات وتطبيقات تجسد "الإيواء"، وتحققه في عالم الواقع بدل أن يبقى مجرد شعارات نظرية يتباهى "الخطباء" بوجودها في كتب "الإسلام" وأسفاره، وتفتقر مجتمعات "المسلمين" إلى تطبيقاتها وممارساتها. وسوف يبرز كثير من التطبيقات الحديثة الموازية للتطبيقات، التي مثل لها أمثال عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود: فاعتبار "كسب الحجام" مظهرًا من مظاهر "السحت" في الماضي يؤدي بالضرورة إلى -مجانبة الطب- في الحاضر، ومثله اعتبار ثمن "الشفاعة التي ترد الحق وترفع الظلم" مظهرًا من مظاهر "السحت" في الماضي يؤدي إلى -مجانية المحاماة- في الحاضر. واعتبار "مهر البغي" مظهرا من مظاهر "السحت" في الماضي سوف يؤدي إلى إعادة النظر في صناعة السينما والسياحة، والفيديو والكاسيت في الحاضر، وتنظيفها وتحليتها بما يوفر الرزق الكريم والترويح البريء العفيف في الحاضر، وهكذا.