الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأقطار التي بلغ إحساسها بهذا الوضع الجديد إلى درجة الوعي المربي نهضت إلى مواجته بشجاعة وصدق مع النفس، فظهرت -مثلا- السوق الأوربية المشتركة، وأزيلت كثير من العراقيل التي كانت تفرضها قوانين السفر، والإقامة والعمل بين قارتي أوربا وأمريكا.
ولكن العالم الإسلامي الذي ارتد إلى مفاهيم العصبية، وروابطها ما زال ضحية مضاعفات هذه الردة، وما زالت نظم التربية ومؤسساتها تفتقر إلى الخبرة، والشجاعة اللازمتين لمواجهة هذا التناقض وآثاره السلبية. فهي لم تع -بعد- أهمية -جنسية الإيمان- وثقافته التي تتضمنها الأصول الإسلامية للتربية وعاشتها -الأمة المسلمة- في الماضي قبل أن ترتد إلى جنسية القومية، والوطنية وروابط العصبيات المختلفة. وما لم تطرح المؤسسات التربوية رباط الإيمان، وما لم تضع المؤسسات الإدارية، والحكومية هذا الرباط موضع التنفيذ الكامل، فسوف يظل العالم الإسلامي يعاني من آثار التناقض المذكور -وقد يتضاعف مرضه، وينتهي بمجتمعاته القائمة إلى الانحسار والتمزق والاستبدال.
التناقض الثاني: الهجرة والسير في الأرض في مواجهة قيود السفر والتنقل
تعيش المجتمعات الإسلامية المعاصرة هذا التناقض بشكل مستمر. ففي حين ترعى الأصول الإسلامية حق المسلم في التنقل، والهجرة أنى شاء في ديار الإسلام وتجعل رعايته فرضا، وتخصص له من أموال الزكاة قسطا تحت عنوان -ابن السبيل، فإن قوانين السفر والإقامة، وحواجز التأشيرة ونظم الإدارة المستوردة من عند غير المسلمين تفرض على الفرد المسلم أن يدفع الضريبة من ماله، وحريته وكرامته عند كل مركز من مراكز الحدود التي أقامتها الأقطار الإسلامية الحديثة طبقا للعصبيات الإقليمية. كما إن المرور بهذه المراكز، والمطارات خبرات مؤلمة لا تمحى آثارها من النفس، وهي أدوات ضارة بعلاقات المسلمين بعضهم ببعض، بل كثيرا ما يكون التعرض
لها سببا في الاغتراب النفسي، وغسل الدماغ من روابط الإيمان والأخوة، وسببا في اليأس من مستقبل الإسلام والمسلمين.
ولقد زاد في حدة هذا التناقض ما يراه الإنسان المسلم من استجابة -مجتمعات غير المسلمين- للتطورات الهائلة في وسائل المواصلات، والنقل الجوري والبري والبحري التي أحالت البشر إلى ما يصفهم علماء الاجتماع المعاصرون بـ"البدو الجدد New Nomads" الذين يركبون الطائرات، والسيارات بدل الجمال، ويسكنون الفنادق بدل مضارب الخيام. ولقد أصبحت ظواهر السياحة والسفر والتبادل العلمي والتجاري، والثقافي وتيسير فرص العمل ظواهر يتخصص بها الأفراد والجماعات وتقام لتشجيعها وإداراتها المؤسسات. وتحمل نظم التربية -في مجتمعات غير المسلمين- مسئولية رئيسية في هذا المجال في الوقت الذي تشغل نظائرها في العالم الإسلامي المتعلم في استظهار الصور الفنية، التي تقدمها أشعار بدوي ما قبل الإسلام، وهو يصف بعر الجمال وأثافي المواقد، ومضارب الخيام.
وليس هناك من حل لهذا التناقض إلا أن تتصدى نظم التربية الإسلامية -أولًا- ثم تتبعها نظم الإدارة -ثانيًا- لترسيخ المفاهيم التي يشتمل عليها -رباط الهجرة- الذي تم استعراضه في عناصر الأمة المسلمة مستهدفة تحويل الناس إلى مهاجرين قادمين، وأنصار مقيمين. فهذا هو نموذج العلاقات الذي يتلاءم مع المبادئ والموضوعية، والإنصاف التي مرت الإشارة إليها كضرورة من ضرورات التطور العالمي الذي خطت البشرية أولى درجات عتباته بمجيء الرسالة الإسلامية.
وترسيخ مفاهيم هذا العنصر يتطلب من مفاهيم التربية الإسلامية المعاصرة أن تصنيف الخبرات، والأنشطة التي تبرز أهمية -السير في الأرض- والسفر في أنحاء المعمورة ومنافعه ومقاصده. فلا يكون اللهو والعبث، والبحث عن المتع الرخيصة والشهوات الدنسة، كما لا يجوز أن يتقوقع الإنسان في زاوية من زوايا الأرض أو حجرة من حجرات القائمة فيها
ويظن أنه يستطيع أن يفقه آيات الله في الكتاب دون أن يسير في الأرض لينظر آيات الله في الآفاق والأنفس. وعلى المناهج التربوية أن تعي كذلك أهمية السفر في تنمية الخبرات الاجتماعية والكونية، ومن ثم تنمية القدرات التسخيرية إلى الحد الذي يستطيع الإنسان أن يسخر عناصر الكون، وثروات الأرض لصالحه، ومتطلبات العيش في عصره.
وعلى نظم التربية الإسلامية، ومؤسساتها كذلك أن تعمل على توعية أهل المناطق المستقبلة ليتصفوا بأخلاق -الأنصار- وبكيفية استقبال من هاجر إليهم، وأن يحبوه ويتعاونوا معه ويوالوه، ويعطوه صورة عالية مشرقة عن ثقافاتهم، وأخلاقهم وقيمهم وطرق الحياة التي يحيونها، وأن يسهموا في إثراء خبراته وتنمية قدراته وتعميق ثقته بالإنسان، لا أن يكونوا مجرد سماسرة يقدمون المتع الرخيصة والشهوات المبتذلة، ويقفون بأوانيهم كالحلابين المنتظرين للبقرات القادمة من مناطق الرعي.
والواقع أن النموذج الإسلامي في مفهوم السفر -أو السير في الأرض كما يسميه القرآن- هو النموذج الملائم لما تحتاج أن تكون عليه علاقات المسافرين، والمستقبلين إلى طور العالمية الذي يعيشه. فهذا النموذج الذي أفرز علاقات -الهجرة والنصرة- وصنف المسافرين والمستقبلين إلى مهاجرين وأنصار، وفرض للمسافر -أو ابن السبيل- قسطا من زكاة أهل البلد الذي يدخله، هو النموذج الملائم لصبغ العادات والإدارات، والقوانين التي تنظم السفر والانتقال وعناوين اليافطات في معابر القادمين والمسافرين. أما نموذج -ثقافة الاستهلاك والربح- الذي اقتبسه المسلمون المعاصرون من "حضارة الاستهلاك"، والذي يقسم الصنفين المذكورين إلى سائحين ومستثمرين، ويضع الضرائب على -ابن السبيل- المسافر ويستغله، ويرفع الأسعار عليه فهو نموذج لا يتفق مع مكانة الإنسان، ويصطدم اصطداما كاملا مع التصور الإسلامي حول مقاصد السير في الأرض التي أرادها الله مختبرا لآياته في الآفاق والأنفس.