الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفضاء والطائرات دون مراعاة للقوانين، التي تسيرها لا بد وأن يؤدي به إلى الحتف المؤكد. ولذلك هو لا يأتيه أبدًا إلا بما يتفق وهذه القوانين كاستعمال مظلات القفز المعروفة باسم -الباراشوت- وأمثالها.
ولكن جهل الإنسان -أو عدم إحاطته- بالقدرات الأخلاقية، وبقوانين النفس والسلوك، ما زال يضعه في موضع العاجز عن توجيه عربة السلوك الأخلاقي والاجتماعي. بل إنه في كثير من الأحيان ليقفز من هذه العربة قفزة الجاهل البدائي، فيتحطم وتتناصر أشلاؤه، ولا يعتبر بالنتائج المدمرة التي تعقب هذا القفز.
ثانيا: درجة القدرة التسخيرية، وحدود الخبرة المربية
قلنا: إن -القدرة التسخيرية- هي ثمرة تزاوج القدرات العقلية مع الخبرات الكونية والاجتماعية، وإن هذه الخبرات دوائر بعضها أوسع من بعض. ونضيف هنا أن درجة القدرة تتناسب مع سعة الخبرة المربية. فالفرد يكون لديه قدرة تسخيرية في ميادين الكون، والاجتماع والنفس التي بلغت خبرته فيها مستوى الخبرة المربية، فإذا خرج خارج دائرة خبراته المربية فقد القدرة على تسخير الظواهر التي يواجهها في الدوائر الجديدة. ولذلك تتحدد الخبرات المربية عند ابن الريف داخل حدود الريف، فيكون مستقل التفكير والسلوك قادرا على اتخاذ القرارات، ولكنه حين يخرج إلى المدينة تتعطل قدراته التسخيرية، ويفقد القدرة على اتخاذ القرار المستقل، حتى إنه إذا أراد شراء قطعة
من القماش، فإنه يلجأ إلى بعض معارفه أو أصدقائه من أبناء المدينة لشراء القماش الذي يراه ملائما، ولو أنه كذلك دخل مطعما لم يجرؤ على اختيار ما يأكله، ويشربه ويفوض الآخرين ليختاروا له، أو يقلدهم فيما يأكلون
ويشربون1، ولو أنه أيضًا أراد الزواج من المدينة فإنه يقع على
1 إذا أجبر على الاختيار ما كان يشربه في الريف كأن يطلب "الشاي" أو"القهوة" أو ما يأكله في الريف كأن يطلب "شوربة العدس".
أول فتاة تصادفه ولو كانت من سقط المتاع، وتظل هذه حالته حتى تتعمق خبراته، وتبلغ درجة الخبرات المربية.
ومثل ابن الريف، الزعيم السياسي أو القائد العسكري أو المدير الإداري الذي ينتمي إلى قطر من الأقطار، التي لم تدخل عصر التكنولوجيا المتقدمة بعد، أي أنها ما زالت تستوردها ولا تنتجها. فمثل هؤلاء الأنماط الثلاثة من الزعماء والقادة والمديرين يتخذون قرارتهم، ويقومون بممارساتهم داخل بلادهم باستقلال وتفكير، ولكنهم حين يخرجون خارج دائرة خبراتهم المربية التي اكتسبوها من بيئاتهم، فإنهم يفقدون القدرة على اتخاذ القرار المستقل، والمعالجات المستقلة، ويلجئون إلى الأصدقاء والحلفاء من أبناء الدول المتقدمة المنتجة
للتكنولوجيا، ليمدوهم بالخبراء الذين يتخذون لهم القرار، ويضعوا خطط
التنفيذ، وكثيرا ما يستغل الخبراء مكانتهم هذه ليتخذوا قرارات وليمارسوا تطبيقات تخدم مصالح أقطارهم، وتضر بالمسئولين المحللين وبلادهم.
ومثل النوعين معا المثقف، أو المربي الذي ينتمي إلى بلد من البلدان، التي لم تدخل عصر تفجر المعرفة والذي لم يتدرب على التفاعل مع الكون المحيط والوجود القائم. فمثل هذا المثقف أو المربي يكون مستقل النظر، والقرار داخل حدود خبراته المربية التي كونها داخل بيته وثقافته. ولكنه حين يخرج خارج دوائر خبراته الثقافية والتربوية، فإنه يتبنى ما يتلى عليه أو ما يقرأه دون تحليل أو تقويم، ويتلقاه تلقي الوحي المعصوم، ويظل يكرره ويجتره حتى يغيره أهله الذين أنتجوه ثم يمدونه بأفكار غيرها، وهكذا.
لذلك كان واجب التربية أن تتوسع في تكوين الخبرات المربية عند المتعلمين حتى تدخلهم دائرة خبرات العصر والمستقبل المنظور. وبذلك يتكون عند الناشئة القدرات التسخيرية، التي تمكنهم من تلبية حاجاتهم القائمة والمستقبلية، ومواجهة المشكلات الموجودة والمحتملة.